دخل لبنان مرحلة جديدة بعد مضي أكثر من شهرين على انتفاضة المواطنين فيما سُمّي بـ “ثورة 17 تشرين” وذلك بعد أن أجرى رئيس الجمهورية ميشال عون الاستشارات النيابية التي يلزمه الدستور إجراءها ونتائجها، وقد تمخّضت تلك الاستشارات عن تكليف شخصية من غير الوسط السياسي المعروف، هو وزير التربية السابق حسّان دياب، تشكيل الحكومة، لكن خطوة التكليف اصطدمت على الفور بعقبتين ليستا شيئًا سهلًا. العقبة الأولى هي فيما يُسمّى هنا في لبنان “الميثاقية”. أي الغطاء الطائفي للشخصية السياسية في بلد يقوم نظامه على أساس التوافق بين الطوائف (الديمقراطية التوافقية).
وقد افتقد الرئيس المكلف دياب إلى ثقة النواب المسلمين السنّة أثناء الترشيح، وهم يشكلون ممثلي المكوّن الذي ينتمي إليه، فمن أصل 27 نائبًا سنّيًا، لم يقم بتسمية وترشيح دياب إلى مهمة تشكيل الحكومة سوى ستة، هم أساسًا يعتبرون حلفاء للنظام في سوريا ولـ”حزب الله”، بمعنى آخر أي مشكوك في صحة تمثيلهم. ومن هنا جاء من يطعن بميثاقية تمثيله لمكوّنه الذي ينتمي إليه، وهي عقبة ستكون حاضرة أثناء تشكيل الحكومة، وستظل تلاحقه طيلة فترة تواجده على رأسها، بل طيلة فترة حياته السياسية إذا قرّر الاستمرار في الحياة السياسية.
وأما العقبة الثانية فهي عدم رضا الشارع المنتفض عليه، على الرغم من أنّه لا ينتمي سياسيًا إلى أي طرف سياسي، وهو صاحب كفاءة واختصاص فهو أستاذ جامعي، إلا أن مجرد أن تمّ طرحه من قبل أحزاب السلطة (“حزب الله” وأمل والتيار الوطني الحر) جعل الشارع المنتفض يرفض تكليفه تشكيل الحكومة، واحتشد المتظاهرون منذ لحظة إعلان التكليف أمام منزله رافضين ذلك، واستمر التعبير بأشكال مختلفة عن هذا الرفض، ومن بين ذلك قطع طرقات وصدامات مع القوى الأمنية. وهذه عقبة أيضًا لن يكون تجاوزها سهلًا بالنسبة للرئيس المكلف. إلاّ أنّ المسألة الأهم تبقى في التحديات التي تواجه لبنان، وفرصة الحكومة التي سيشكلها دياب على مواجهتها ووضع حدّ لها، وبالتالي إخراج البلد من أزمته.
لكن قبل ذلك هناك من يطرح علامة استفهام حول فرصة وإمكانية أن يشكل دياب الحكومة، ويعتبر هؤلاء أن مرشح رئاسة الحكومة الرئيسي عند “حزب الله” وحركة أمل (الثنائي الشيعي) في هذه المرحلة بالذات هو الرئيس سعد الحريري، لأنه الوحيد القادر من خلال الثقة الدولية به، ومن خلال علاقاته الخارجية الموروثة عن والده (رفيق الحريري) تتيح له فرصة أكبر على معالجة الأزمة الاقتصادية وتوفير السيولة للدورة الاقتصادية اللبنانية. إلاّ أن الشروط الداخلية والخارجية التي فُرضت على الحريري من أكثر من طرف حدّت من قدرته على تشكيل الحكومة، وبالتالي اضطر إلى الانسحاب من السباق لبعض الوقت بانتظار أن تنضج الظروف التي تعيد طرح اسمه لتولي الحكومة.
ولكن واقع البلد كان قد وصل إلى مرحلة لم يعد يحتمل معها تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة لأن ذلك يحمّل رئيس الجمهورية، ميشال عون، مسؤولية خرق الدستور والاعتداء على صلاحيات مكوّن أساسي في البلد، وكانت قد بدأت حملة على رئيس الجمهورية حمّلته مسؤولية تأخير الاستشارات وبالتالي مسؤولية الأزمة، فكان لا بدّ من إجراء الاستشارات، وبالتالي اختيار شخصية معيّنة لملء الفراغ، ومن دون أن يعني ذلك تشكيل حكومة جديدة. بمعنى آخر فإن هذا الرأي يعتبر أنّ حسّان دياب كُلّف تشكيل الحكومة، ولكنه لن يستطيع تشكيلها، وسيتم تقطيع بعض الوقت من خلاله جهده في عملية التشكيل والمشاورات مع القوى السياسية والكتل النيابية، ومن ثم بعد ذلك عندما يحين موعد الاعتذار يعتذر.
أما إذا ما تمكّن دياب من تشكيل حكومة، وهذا بالطبع رهن قرار القوى السياسية التي دعمته ووفّرت له الوصول إلى سدة الرئاسة الثالثة، فإن ذلك سيعني أن هذه القوى اختارت واحدة من اثنتين: إما استيعاب انتفاضة الشارع من خلال حكومة تكون فعلًا من أصحاب الاختصاص والكفاءات، ولا تضمّ وجوهًا مستفزة من السياسيين، ومثل هذه الحكومة يمكن أن تفرغ حركة الشارع من مضمونها، وبالتالي إقناع الناس بالخروج من الساحات وإعطاء هذه الحكومة فرصة معيّنة، وقد تلقى هذه الخطوة فيما لو حصلت تجاوبًا من الكثير من الناس، ولا يبقى حينها في الساحات إلا أعداد قليلة لا تؤثر على عمل الحكومة.
وهنا أيضًا يمكن للقوى السياسية التي تقف خلف الحكومة أن تسحب من يد القوى الخارجية التي تتهمها بالتحريض واستغلال أزمات الناس (أميركا تحديدًا) ورقة ضغط ليست بسيطة. إلا أنّ التحدّي الآخر أمام مثل هذه الحكومة سيظل ماثلًا وبقوة في الاقتصاد. فالبلد يشهد أزمة اقتصادية خانقة، والليرة اللبنانية تراجعت كثيرًا خلال الشهرين الماضيين أمام العملات الأجنبية لا سيما الدولار الأمريكي، والضغط الخارجي في هذا المجال ما زال مستمرًا ومتمثلًا بالعقوبات الأمريكية على قطاعات ومؤسسات وكيانيات لبنانية سواء كانت على صلة بـ”حزب الله” أم لم تكن كذلك. والجميع يدرك أن الحكومة التي يمكن أن يشكلها دياب أو أية حكومة أخرى لا يمكنها مواجهة الأزمة الاقتصادية من دون مساعدة خارجية، وهنا بيت الداء وهنا يكمن الدواء، وهنا ستجد حكومة حسان دياب، أيًّا يكن شكلها ولونها، نفسها أمام تحدّ السقوط والانهيار، وثورة الناس الحقيقية.
وأمّا إذا ذهب فريق السلطة إلى اختيار المواجهة مع الأطراف الخارجية، ومع الشارع، فمعنى ذلك أنه سيشكل حكومة من السياسيين، وربما يتخلى حينها عن حسّان دياب، ويشرع في مواجهة قد يكون عنوانها القمع والحل الأمني أو ربما إثارة هواجس الغرب من الفوضى العارمة التي تدفع من في الخارج إلى التفكير بالحلول الممكنة خوفًا من مسألتي اللاجئين وإمكانية فتح الهجرة أمامهم نحو أوروبا، وأمن كيان الاحتلال الاسرائيلي. ولا شكّ أن هذا الخيار قد يكون الأخير من بين جملة خيارات كثيرة، أفضلها بالنسبة للقوى الممسكة بتلابيب القرار اللبناني، التوصل إلى تسوية مع الجهات الفاعلة والمؤثرة ولا سيما الخارجية، من ضمن تسوية قد تشمل بقية دول المنطقة الملتهبة. وكل ذلك يعكس المستوى الذي وصله لبنان ليكون إحدى ساحات المواجهة التي تجري في بقية الإقليم.