في منتصف سبتمبر الماضي اختار الفريق أول محمد حمدان حميدتي عضو المجلس السيادي السوداني وقائد قوات الدعم السريع أن تكون زيارته للإمارات سرية وبعيدًا عن أعين الإعلام ودون أجندة معلومة، حيث فوجئ الشارع السوداني بخبر مقتضب على صدر إحدى الصحف المحلية بسفره المفاجئ.
المصادر حينها كشفت أن حميدتي عرض على رئيس الوزراء عبد الله حمدوك اصطحابه في هذه الزيارة لتكون الإمارات أول دولة يزورها بعد تولي منصبه، إلا أن رئيس الحكومة الجديد رفض هذا المقترح وقرر التوجه صوب مصر ومنها نحو الولايات المتحدة الأمريكية.
وبحسب المصادر نفسها فإن قائد قوات الدعم السريع ناقش مع القيادة الإماراتية خططه لبناء حزب سياسي جديد تحت قيادته وبفكر مختلف عن الرائج في الساحة السياسية، هذا بجانب بعض الملفات العسكرية والاقتصادية التي وضع فيها الإمارات كعامل مشترك في مساراتها المتباينة.
تلك الزيارة جاءت بعد أيام قليلة من زيارة قام بها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى السودان بعد غياب امتد لفترة 4 سنوات، والذي كان في أبو ظبي قبل أيام من وصوله الخرطوم، الأمر الذي فرض الكثير من التساؤلات حول المهمة الجديدة لحميدتي بجانب أفورقي الذي أصبح منذ فترة يلعب دور الوكيل لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في المنطقة منذ أن أنشأت الإمارات قاعدةً عسكريةً في ميناء عصب الإريتري قبل 3 أعوام.
وبالأمس؛ حذَّر حزب “المؤتمر الشعبي” المعارض في السودان، من رهن واحتكار الموانئ السودانية لدولة خليجية، عبر مفاوضات سرية لحل الأزمة الاقتصادية، وذلك وفق تصريح أدلى به الأمين السياسي للحزب، إدريس سليماني لـ “الأناضول“، مضيفًا: “على الحكومة الانتقالية أن تدير الملف الاقتصادي بكل شفافية، هناك مفاوضات سرية مع دولة خليجية (لم يسمها)، لديها أطماع في موانئ البحر الأحمر، لاحتكار ورهن موانئ سودانية مقابل حل الأزمة الاقتصادية”.
صفقة مشبوهة
الأمين السياسي للحزب الذي أسسه الراحل حسن الترابي وصف تلك المفاوضات بـ “الصفقة”، مؤكدًا “سنقف ضد هذه الصفقة التي يريدون (عبرها) بيع موانئ السودان بدراهم معدودة، لاستغلال حاجة السودان الاقتصادية، الهدف هو ألّا تعمل سوى موانئ هذه الدولة الخليجية في الملاحة البحرية التي تمر عبر البحر الأحمر”، منوها أنه من المتوقع أن تصل عائدات الموانئ السودانية بعد تطويرها إلى 10 مليارات دولار سنويًا، ما يُسهم في حل الضائقة المعيشية.
ومما عزز الشك لدى القيادي السوداني ما لفت إليه بشأن “وجود بعض المقترحات التي قدّمتها دول -بينها قطر- تريد مصلحة السودان دون أجندة أخرى”، واستطرد: “قطر عرضت المناصفة لتشغيل الموانئ السودانية، بخلاف العروض الأخرى التي تقدّمت بها دول (دون تحديد)، ينبغي أن يعرف الشعب السوداني بكل العروض التي تُقدم من أجل مصلحته”.
الأمر لم يتوقف عند حاجز بيع الموانئ فحسب، بل أشار إلى أن حكومة بلاده لم تطرح الموازنة العامة للعام المقبل حتى الآن، وقال إن “الموازنة غير معروفة لأصحاب المصلحة من الشعب السوداني، ولم تظهر بنودها، وتم احتكار الذهب لشركة (لم يسمها)، ونحن طرحنا ضرورة أن تكون هنالك بورصة للذهب يتنافس الجميع فيها”.
وكانت وكالة “رويترز” قد نشرت مؤخرًا تحقيقًا كشفت فيه عن تورط شركة “الجنيد” المملوكة لأسرة حميدتي في بيع ذهب السودان وتهريبه للإمارات بطرق غير شرعية، وذلك بعد مراجعة فواتير الطيران وقسائم الدفع، هذا بجانب شهادات مصادر خاصة داخل الشركة.
التحقيق كشف النقاب عن شركة تسمى “روزيلا” ومقرها دبي، وبالتواصل معها أكدت أن المجموعة السودانية كانت لها تعاملات معها، وأشار مسؤول في الشركة إلى أن التعاملات بين الشركتين جرت لمدة ثلاثة أشهر في أواخر عام 2018، فيما أكد مدير عام مجموعة الجنيد، إن روزيلا الشركة الوحيدة التي تعاملت معها المجموعة في دبي.
مساعي إماراتية للسيطرة على موانئ القرن الإفريقي والسودان
أطماع إماراتية
منذ فترة طويلة أدركت الإمارات مدى أهمية الموانئ البحرية في الاقتصاد العالمي وخدمة أهدافها الخارجية، فأقامت شركة “موانئ دبي”، وبعد أن أصبحت رقمًا صعبًا في محيطها بدأت في التوسع خارج حدودها، وفي نظرة عامة على خارطة الملاحة والموانئ في المنقطة يلاحظ امتدادًا إماراتيًا ما بين اليمن والقرن الإفريقي ومصر.
في الثاني والعشرين من فبراير الماضي كشف وزير الطاقة والصناعة الإماراتي، سهيل المزروعي، عن رغبة بلاده بالاستثمار، في إعادة تأهيل وتطوير الموانئ البحرية السودانية، خاصة ميناء بورتسودان، الواقع على ساحل البحر الأحمر، لافتا في تصريحات نقلتها وكالة “سبوتنيك” إلى أهمية تأهيل الموانئ البحرية في السودان وتنمية منطقة بورتسودان، “باعتبارها منطقة سياحية”.
لم تخف أبو ظبي أطماعها البحرية في منطقة القرن الإفريقي والسودان منذ انطلاق قطار الربيع العربي ومن قبله بقليل
الوزير الإماراتي نوًه إلى أن “تطوير موانئ السودان مرهون بحل إشكالية الكهرباء”، كاشفًا “عن طرحهم فكرة خروج الحكومة السودانية من توليد الكهرباء، بأن يتولى القطاع الخاص الأمر”، موضحًا أن “الاستثمار في التوليد الكهربائي يعتبر أحد مشاريع المستقبل في السودان، لكنه يحتاج لأموال ضخمة”، ولفت إلى مقترح قيام شركة كهرباء جديدة، خاصة.
لم تخف أبو ظبي أطماعها البحرية في منطقة القرن الإفريقي والسودان منذ انطلاق قطار الربيع العربي ومن قبله بقليل، فلم تترك مناسبة ولا حدث إلا وتسعى لتوظيفه من أجل تفعيل أجندتها في تلك المناطق، مسخرة لأجل ذلك ما تمتلكه من نفوذ مالي وسياسي وهو ما تفضحه تحركاتها الأخيرة.
ففي اليمن على سبيل المثال بسطت سيطرتها على أغلب موانئ البلاد التجارية والنفطية في محاولة لتوسيع نفوذها على ضفتي مضيق باب المندب دون وجود منافس لها، وحين تحقق لها ما أرادت، من المكلا شرقًا وحتى عدن غربًا، إلى الموانئ الغربية للبلاد، فيما تستمر المساعي للسيطرة على مينائي المخا والحُديدة، سعت لأن تفض يدها العسكرية من التحالف العربي تاركة السعودية ومن معها في مأزق حقيقي.
وكان الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح قد منح موانئ دبي في عام 2008 حق إدارة ميناء عدن، وموانئ أخرى، لـ 100عام قادمة، لكن بعد الثورة اليمنية وخلع صالح، قرر مجلس إدارة مؤسسة خليج عدن إلغاء اتفاقية تأجير ميناء عدن لشركة موانئ دبي العالمية. وكان وزير النقل اليمني قد طلب عقب توليه الوزارة من الشركة الإماراتية تعديل اتفاقية تأجير الميناء أو إلغاء الاتفاقية، التي وصفها بأنها “مجحفة بحق اليمن”، وأنها “أُبرمت في ظروف راعت المصالح السياسية أكثر من الاقتصادية”.
وتعد شركة “موانئ دبي العالمية” هي الذراع الأطول لتنفيذ أجندة أبناء زايد في السيطرة على موانئ المنطقة، ومن ثم لم يكن مستغربًا اندفاع الإمارات نحو موانئ الصومال، البلد الإفريقي الذي يتمتع بأطول ساحل في إفريقيا، حيث استحوذت على أربعة موانئ عززت من نفوذها هنالك قبل أن يسحب البساط من تحت أقدامها مؤخرًا.
اثنان من الموانئ الصومالية الأربعة (بربرة في 2015 وبوصاصو في 2017) استحوذت عليهما شركة موانئ دبي في صفقات حامت حولها الشبهات، وأثارت خلافات حتى بين الصوماليين أنفسهم الذين اعتبروها صفقات غير شرعية، كونها تحت بدون موافقة الحكومة الفيدرالية في مقديشو، في ظل تعامل أبو ظبي مع إقليم أرض الصومال الانفصالي الذي لم يحظ بأي اعتراف دولي، في حين تتعامل مع الإقليم كدولة مستقلة ودون الرجوع إلى الحكومة الفدرالية في مقديشو.
حميدتي، قائد قوات الدعم السريع
الموانئ مقابل الدعم
بات من الواضح أن هناك مخطط لاستغلال الأوضاع الاقتصادية المتردية للسوادنيين من أجل تمرير المشروع التوسعي الإماراتي.. هكذا استهلت الكاتبة المصرية المتخصصة في الشأن السوداني، أميرة ناصر، حديثها، محذرة مما أسمته “ذيول أبناء زايد” في السودان.
ناصر لـ “نون بوست” أوضحت أنه منذ الوهلة الأولى التي اشتعلت فيها الثورة السودانية في 19 ديسمبر العام الماضي كشفت أبو ظبي عن وجهها الحقيقي إزاء رغبات السودانيين، وذلك حين دافعت بداية الأمر عن نظام البشير تلاه مساعي إجهاض الحراك عبر استراتيجيات عدة لعل أبرزها محاولات فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
وحين فشلت في تحقيق مأربها ما كان لها بد سوى تجنيد رجال لها داخل البلاد وتهيئتهم لتولي مناطق مهمة في سودان ما بعد الثورة للحفاظ على المصالح الإماراتية هناك، وبالفعل وقع الاختيار على بعض العسكريين على رأسهم حميدتي، الذي يلقب بأنه رجل الإمارات في البلاد.
خسارة الإمارات في أكثر من معركة في القرن الإفريقي بعدما كُشف النقاب عن مخططاتها البعيدة تماما عن الأوهام الاستثمارية أو دعم الشعوب الإفريقية، دفعها للبحث عن ساحات أخرى لتحقيق انتصارات
كثيرًا ما أقلق أبناء زايد الحضور التركي القطري في السودان، هذا بجانب المنافسة الصينية والروسية كذلك، ولعل هذا ما أحدث توتيرًا للعلاقات مع نظام البشير بين الحين والأخر، غير أنه وبعد سقوط النظام السابق، زادت مخاوف أبو ظبي من توجهات الحراك الثوري الذي أعلن من البداية رفضه لرهن قراره السياسي بالمال الخليجي الذي تدفق على المجلس العسكري أول الأمر.
خسارة الإمارات في أكثر من معركة في القرن الإفريقي بعدما كُشف النقاب عن مخططاتها البعيدة تمامًا عن الأوهام الاستثمارية أو دعم الشعوب الإفريقية، دفعها للبحث عن ساحات أخرى لتحقيق انتصارات تعوض الهزائم الأخيرة، ولعل في الموانئ السودانية الفرصة الأكثر حضورًا لاستعادة الحضور مرة أخرى.
“الشعب السوداني ليس بتلك السذاجة، والحكومة لم ولن يكن لها مطلق الحرية في أن تعرض استقلال البلاد للتأرجح مرة أخرى على موائد المال والنفوذ”.. هذا ما أجابت به الصحفية المتخصصة في الشأن السوداني ردًا على سؤال حول رد فعل الشارع حال فتح المجال أمام الإمارات لبسط نفوذها على الموانئ البحرية.
وأوضحت أن هناك مساعي حثيثة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه اقتصاديًا عبر مسارات عدة للتفاوض بشأن قروض دولية أو فتح المجال أمام استثمارات حقيقية بعيدًا عن الأطماع السياسية، لافتة إلى أن هناك احتمالات قوية لحصول الخرطوم على دعم دولي كبير خلال المرحلة المقبلة وفق مصادر خاصة، كفيلة أن تضع قراره السياسي في مأمن بعيدًا عن أي ابتزاز.
وبعد مرور عام على الثورة، يبدو أن الساحة الآن باتت مهيأة لاستقبال الكثير من الطامعين، لكن يظل الشارع السوداني وحده الصخرة التي تتحطم عليها أي أجندات خارجية تتعارض ومصلحة البلاد العليا.. لتبقى الأيام القادمة حلبة صراع مفتوحة على كافة الاحتمالات.