منذ نشوء المدينة، كان هناك ارتباط جلي بين الجانبين السياسي والمعماري، أو ربما بمعنى أدق هيمنة للسياسي على المعماري، إذ طالما كانت المدينة صورةً وتعبيرًا عن أنظمة الحكم، فكما كانت الأهرامات والمعابد الضخمة، يتموضع على أبوابها تماثيل للفراعنة تعبيرًا عن ألوهية الفرعون وارتباطه بالقوى العظمى للآلهة، كذلك كانت الكنائس الأوروبية في العصور الوسطى، بالنمط المعماري الباذخ والبناء الأبهي، والمرتبطة بالنظام الملكي، والغموض الذي يلف الحياة الملكية خلف قصور ضخمة وأسوار عالية، تعبيرًا عن الألوهية الملكية، كون الملك المختار من الله ذاته سلطة مطلقة لا تُنازع.
في سوريا، كانت العمارة التقليدية أو الأحياء القديمة في المدن الرئيسية، هي المساحة التعبيرية عن المجتمعات السورية في وقتها، التي أنتجها المجتمع بذاته، وفق احتياجاته الاجتماعية والنفسية والدينية والأخلاقية والحياتية أيضًا، لكن هذه المنظومة انهارت بطريقة ما أمام المد الحداثي للعمارة وتغير أنظمة الحكم وشكل الدولة وتعريفها ومفهومها، ونشأت الأحياء الجديدة التي كانت استدعاءً من تطور الحياة والنمو السكاني والهجرات الداخلية نحو المدن الرئيسية، وبلا شك فقد ساهمت الأنظمة في تكريس هذه الحالة من العشوائية المدينية بالطريقة التي تمكنها من السيطرة على المدن التي تعني بالنسبة لها بقائها في السلطة وضمان استمرار الخضوع المجتمعي لها كسلطة مطلقة.
العمارة الدمشقية كنتاج مجتمعي
سنبدأ من الوحدة الأصغر في الحارة الشعبية وصولًا إلى الحي الكامل، فقد امتاز البيت الدمشقي بوجود ساحة أو بهو داخلي “صحن الدار” مفتوح إلى السماء في ارتباط مع الفضاء، مع الحفاظ على خصوصية المكان، وتتوسطه بحرة مهمتها ترطيب الجو الداخلي وإضفاء الجمالية على الصحن، وتحيط به الأشجار والنباتات، وتتوزع حوله الغرف التي تطل واجهاتها ونوافذها عليه، وفي الطابق الأرضي عادة يوجد المطبخ والديوانية أو “الزلملك” وهي غرفة كبيرة لاستقبال الضيوف، تضم الفرش المزخرف بالموزاييك وجدرانها مزينة بالزخارف والآيات القرآنية، وتستخدم للجلسات الطويلة وحل المشاكل بين أهل الحارة.
وفي الجهة الجنوبية من البيت، يوجد الإيوان أو الليوان، وهو مجلس مرتفع عن مستوى الصحن ومفتوح بشكل كامل عليه، ويستخدم للجلسات العائلية أو الاستقبالات السريعة، وعادة ما يكون ارتفاعه من ارتفاع أعلى سقف في البيت، إما طابق أو طابقين كحد أقصى.
وعبر درج يستند على جدار يوصل إلى الطابق العلوي المفتوح على الشارع، يؤمن له الخصوصية شبك من الخشب البارز من الجدار بمسافة قليلة يسمى “المشربية”، وكي تنتقل ما بين عالمين: واحد شخصي وآخر عام، عليك أن تمر عبر ممر ضيق اسمه “الدهليز” تكون فيه كالعابر بين حياتين، يؤدي إلى باب الدار المكون عادة من جزئين: الأول كبير يستخدم لإدخال الأثاث والأغراض كبيرة الحجم، ضمنه وبنهاية قوسية يوجد “الخوخة” أو الباب الصغير الذي يدخل أو يخرج من خلاله الأشخاص إلى البيت ومنه إلى الحارة المكونة من شوارع ضيقة مرصوفة، تحددها الجدران الخارجية المصمتة للبيوت، مشكلة حالة حميمية داخل الحي أو الحارة.
كما ينتشر بشكل ملحوظ في أي حارة قديمة عددٌ من “السيباطات” وهي جمع كلمة سيباط، الذي هو ممر مسقوف وسط زقاق أو شارع، يقال إن سبب تشكله وظيفي بحت، إذا أرادت عائلة ما أن تزوج ابنًا ذهب الأب إلى جاره المقابل، ويقول له “أعرني كتفك” وتُبنى غرفة للأزواج الجدد باشتراك جدارين بين جارين متقابلين، ما يشكل تحته هذا السيباط.
يعود هذا النمط المعماري في دمشق إلى بداية القرن الحادي عشر ميلادي، في عهد معاوية بن أبي سفيان الذي بنى قصره على هذا النمط، وحمل اسم دار الإمارة أو قصر الخضراء، نسبة إلى القبة الخضراء التي تعلوه، ولم يحقق البيت الدمشقي عنصر الخصوصية فقط لساكنيه، بل أيضًا راعى الجوانب البيئية، مع الجدران السميكة والانغلاق نحو الداخل مع وجود البهو الداخلي الذي يضم البحرة في وسطه، ما يؤمن بيئة رطبة في موقع يتصف بالجفاف صيفًا، وعزلًا حراريًا في الشتاء.
وهكذا كان النمط المعماري المستخدم في الحارات القديمة والتصميم المعماري للبيوت والتخطيط العمراني للأحياء، يراعي الجوانب البيئية والاجتماعية والوظيفية والاقتصادية، كما أنها النتاج الطبيعي لمجتمع متماسك، وتعبيرًا عن حالته التشاركية، القائمة وفق العقد الاجتماعي الذي أقره المجتمع بذاته، باعتبارها امتدادًا للتاريخي في المدينة، وتطويرًا له بما يتناسب مع الحالة المجتمعية وتغيراتها.
ومع المد العمراني الحداثي الذي وصل إلى المنطقة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت الهوية المعمارية والعمرانية في سوريا بالضياع والتشتت، أمام هذه المفاهيم الجديدة والانجذاب الأخاذ نحو الأنماط الجديدة وارتباطها بالتمدن.
التحول المعماري والعمراني
تأثرت سوريا بالحالة المعمارية الأوروبية، خصوصًا في مرحلة ما بعد الاحتلال الفرنسي الذي وضع المخططات لمعظم الأحياء الجديدة التي ساهمت بشكل مقصود في تشويه معالم المدينة وإخراجها من طابعها الخاص مثل المخططات التنظيمية التي اقترحها المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار وأقرت عام 1937، واعتمد المخطط على الشوارع التي تصل بين ساحات دائرية كبيرة، كما تم ضم أحياءً جديدةً إلى المدينة مثل حي المزة – كما نُفذ بعضها بعد الاستقلال في 1947 مثل آخر تنظيم طرح لدمشق عام 1968 الذي يعتبر استكمالًا لتنظيم 1937 الموضوع من المهندسين الفرنسيين – حيث تم وفق هذه المخططات، ضم حي جوبر الذي كان بالأصل يتبع لريف دمشق، إلى مدينة دمشق وفق خطة توسع للمدينة التي حددت مساحتها بـ105000 هكتار، وفق نمط معماري أوروبي يعتمد البناء الطابقي.
كان هذا التأثر مبررًا بأمرين: الأول أنها تخضع لاحتلال خارجي، ما يحتم وجود هذا التأثر الحضاري والثقافي بين المستعمِر والمستعمَر، وثانيًا كاستجابة للحاجات الاقتصادية والزيادة السكانية، وضرورة التوسع خارج حدود المدينة القديمة، ولكن السيء في الأمر، هو تجاوز الثقافة والهوية المعمارية والعمرانية للبلاد بأكملها، وإنشاء أحياء هجينة كأجنة مشوهة وُلدت في غير أماكنها، من تزاوج غير منطقي، فأُنشئت أحياء الكتل الإسمنتية المتشابهة التي تفقد الروح المعمارية والعمرانية، دون مراعاة الجوانب البيئية والوظيفية والجمالية، والخصوصية التي تميز المجتمع السوري، واقتصر التركيز في إنشاء هذه الأحياء على الجانب الاقتصادي، وأن تكون هذه الأجسام الغريبة تشبه الحالة المعمارية الأوروبية، بسبب النظرة الداخلية الدونية التي سادت في المنطقة تجاه ما هو غربي، ما كان ناجمًا عن حالة الضياع العربي، بعد انهيار الدولة العثمانية، وظهور مفهوم القومية العربية كجامع لأبناء هذه المنطقة.
ومع مجيء الاستبداد العسكري إلى سدة الحكم بعد انقلاب البعث في سوريا عام 1963، ثم انقلاب حافظ الأسد على أصدقائه عام 1971، دخلت الحالة العمرانية السورية حالة جديدة، سعت بشكل حثيث إلى قمع أي حالة مجتمعية ممكنة، وتعمقت الحالة العشوائية في تضخم المدن، ولكنها أصبحت عشوائية مدروسة، حيث أصبحت العملية العمرانية تُدار من منظومة الاستبداد العسكري ذاتها، بطريقة تضمن لها زيادة الهيمنة والحفاظ على المجتمع المفتت، لتحقيق السلطة المطلقة، وهو ما سيكون موضوع تقريرنا الثاني ضمن ملف #العمارة_والاستبداد.