بعد انقلاب حافظ الأسد على السلطة في سوريا، في نوفمبر/تشرين الثاني 1971، وتأسيسه النظام الشمولي العسكري، عمل على الهيمنة على كل جوانب الحياة في سوريا وإنتاج مجتمع ذي صبغة واحدة، هي صبغة الأسد، كقائد أوحد باقٍ إلى الأبد. واحدة من أهم هذه الجوانب هي العمارة والسيطرة على مفهوم المدينة في سوريا، ما سنسميه اصطلاحًا “عمارة الاستبداد” التي يمكن تقسيمها إلى عمارة عسكرية وتضم كل المباني الحكومية والقصور والمنشآت العسكرية والتماثيل الضخمة، والعمارة المدنية التي تضم المجمعات السكنية والأسواق والمباني الخدمية. وكلها كانت بالمحصلة أدوات للهيمنة أكثر.
العمارة العسكرية
سنتحدث عن دمشق كمثال، باعتبارها العاصمة وواجهة النظام السياسية، فقد بنى في دمشق مكتبة الأسد على مساحة 22 ألف متر مربع في بناء مؤلف من تسعة طوابق، في الجهة الغربية من دمشق، مطلة على ساحة الأمويين، ولا شك أن بناء مكتبة كهذه إثراءً للمدينة، ليس فقط معرفيًا ولكن معماريًا أيضًا، ولكن لا بد أن نقف عند الاسم “مكتبة الأسد” وإطلالتها كبناء ضخم وسط دمشق في مكان مرتفع، يعطي انطباعًا بأن لا معرفة يمكن أن تنتجها المدينة إلا تحت ظل الأسد، كراعٍ لهذا الشعب ومُسير له، لا يمكن أن يرى خارج ما يمليه الأسد، وكذلك مباني مختلف الوزارات التي تمركزت في وسط مدينة دمشق قرب ساحة الأمويين، وكلها مبانٍ هائلة ضخمة، أما القصر الرئاسي أو قصر الشعب الذي أمر حافظ الأسد أن يُشرع ببنائه عام 1979، ونفذ المخطط المعماري الياباني كينزو تانغه، فيقع في جبل المزة، أعلى منطقة غرب دمشق، ويطل على المدينة، بمساحة 31500 متر مربع، وقدرت تكلفة بنائه بمليار دولار سنة 1980 ما يعني قيمة سنة من المساعدات الخارجية لسوريا.
قصر بشار الأسد
صُمم مدخل القصر بفخامة مداخل المعابد، وبارتفاع كبير، فيشعر الداخل إليه بضآلة حجمه، وبلا شك كان هذا مقصودًا، إذ تُبنى المباني الروحانية بمداخل كهذه لإضفاء جو الألوهية على المعبد، وكان الهدف الرئيسي من ذلك إظهار صورة دولة الأسد العسكرية القوية، كما أنشأ مجموعة من القطع العسكرية في مفاصل مهمة داخل المدينة، لقمع أي حراك يمكن أن يتشكل، وشل حركة المدينة بشكل مطلق بعدد هائل من الجنود والعربات العسكرية، كما أحيطت المدينة بالقواعد العسكرية في جنوب وغرب المدينة خصوصًا، والهدف الظاهري منها حماية المدينة من أي اعتداءات إسرائيلية، ولكن الهدف غير المعلن كان إحكام القبضة على المدينة من أي تهديد داخلي، بالإضافة إلى الأفرع الأمنية التابعة لفروع المخابرات، حيث يوجد داخل مدينة دمشق أكثر من 12 فرع مخابرات يتبعون للمخابرات العسكرية أو الجوية أو السياسية أو الجنائية، أشهرها فرع 215 أو فرع المداهمة في حرستا، وفرع 235 أو فرع فلسطين الواقع في المتحلق الجنوبي في دمشق، وكلاهما سيئ السمعة ويتبع للمخابرات العسكرية.
كما امتلأت ساحات المدينة بتماثيل الأسد الأب، حيث يوجد أكثر من 3000 تمثال لحافظ الأسد في كل سوريا، وصوره موزعة في كل شارع، لتكريس الصورة العظيمة “للقائد الخالد”، وإبقاء المواطنين في حالة المُراقبين دومًا أمام رهبة التماثيل العالية والصور الكبيرة، كما يذكر جورج أورويل في رواية 1984 “الأخ الكبير يراقبك”.
العمارة المدنية
شرع حافظ الأسد في بناء مجموعة من الأحياء السكنية الجديدة، بهدف توطين العدد الكبير من القادمين الجدد إلى العاصمة، من عمال حزبيين وضباط الجيش، في سياسة هجرة داخلية لتغيير النسيج المجتمعي في المدينة، وملئها بموالين له، لضمان مجتمع “متجانس” وفق مفهوم الدولة الاستبدادية التي أسسها حافظ الأسد، ولعدم تشكيل مجتمعات حقيقية صلبة في مواجهة الحكم الشمولي، وفكرة “القائد إلى الأبد”.
فقد أنشئت في دمشق، تجمعات سكنية خاصة بالعسكريين وعائلاتهم مثل ضاحية الأسد في حرستا عند المدخل الشمالي لمدينة دمشق، التي أُمر في البدء ببنائها عام 1982 ووضع وزير الدفاع آنذاك رفعت الأسد حجر الأساس لها عام 1985، وتوجد حتى الآن عند مدخلها لافتة تقول إنها هدية حافظ الأسد إلى الضباط العسكريين، ومساكن السومرية التي بناها رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع المسؤولة الأساسية عن المجازر التي ارتكبت في ثمانينيات القرن الماضي، فيما يعرف بأحداث الثمانينيات، فكانت الأرض التي بنيت عليها هذه المساكن ملكًا لأهالي معضمية الشام في الغوطة الغربية، وحملت المساكن اسم ابن رفعت الأسد سومر، وسكنها عناصر سرايا الدفاع وضباطها.
ضاحية الأسد
كما كُرس التوزيع الديمغرافي في بعض الأحياء على أساس طائفي، حيث امتاز بعضها بأن معظم سكانها علويون مثل حي الزهور التابع لمنطقة الشاغور، وأخرى سكانها من الدروز مثل جرمانا التي تتمركز جنوب شرق دمشق، وبعضها من الشيعة مثل السيدة زينب جنوب دمشق، وغيرها من المسيحيين مثل باب توما وسط العاصمة.
حيث يمكننا رؤية أن حيًا مثل المهاجرين الذي يسكنه الأسد يعتبر من أغلى الأحياء في المدينة، وأيضًا كانت البيوت المحيطة بمنزل الأسد ملكًا للمقربين منه من عسكريين وسياسيين، وحتى ممن هم من أبناء طائفته، أو حي اليرموك، والمخيم التابع له، الذي يضم آلاف المهجرين من جنوب سوريا، من القنيطرة والجولان، والمخيم الذي يضم المهجرين الفلسطينيين.
ووفق كل هذا المخطط من العمارة العسكرية والمدنية لا يكون قد فتت المدينة مجتمعيًا فقط، بل أيضًا خلق داخل المدينة مدنًا مصغرة (كونتونات طائفية)، تتوجس من الوجوه الغريبة، وفي بعض الأحيان لا تسمح للغرباء بالدخول إلا بموافقة، فزادت هذه الأحياء من تشويه صورة المدينة معماريًا وعمرانيًا، في عدم تناغمها مع الهوية القائمة للمدينة والممتدة مئات السنين، كما كرست التفريق داخل المجتمعات المتعددة في سوريا، باختلاف مذاهبها وأعراقها وانتماءاتها، وساهمت بشكل كبير في زرع الخوف كقيمة أساسية في حياة المواطن السوري الذي يتوجس من الآخر لأنه آخر وفق المفهوم الذي أسسته الديكتاتورية العسكرية.
حتى المدينة القديمة التي تعتبر الجزء الناجي من عمليات التشويه الحداثي ومخططات السيطرة، لم تكن بعيدة عن آلة التخريب الاستبدادية، ففي أواخر السبعينيات من القرن الماضي، هُدمت أجزاء من المدينة القديمة في دمشق بهدف إنشاء سوق بالمنطقة وفتح شوارع رئيسية، وفي منتصف الثمانينيات، هُدم جزء من سوق العصرونية الأثري بهدف إظهار سور القلعة أكثر، بالإضافة إلى الإهمال السياحي لها، وعمليات الترميم التي لم تنفذ باحترافية ما أدى إلى تشويه الكثير من هذه المعالم.
في عام 2018، أغلقت الحكومة جزءًا من باب شرقي – أحد أبواب دمشق العشرة – بحائط إسمنتي، فيما يبدو لإنشاء غرفة للجنود التابعين لإحدى الميليشيات الأجنبية المقاتلة في سوريا، وهو ما سبب ذهولًا وعاصفة انتقادات، دفعت الحكومة للتراجع عن هذه الخطوة، وتنصلها من المسؤولية عنها.
ولكن لم يقتصر تشويه المدينة على الأحياء غير المتقاربة مع النمط المعماري السائد في سوريا أو انتشار التماثيل والنصب وصور القائد في كل مكان أو إهمال المدينة القديمة، فقد كان من أسوأ ما أنتجته الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القاسية التي عاشها الشعب السوري على مدى عقود من القهر، هو العشوائيات التي كانت كتلًا سرطانية في المدن السورية وعنصرًا أساسيًا في تخريب الشكل المخرب أصلًا للمدن، وهي ما سنتحدث عنه لاحقًا بشكل مستقل.