لم تعد مصادرنا للإطلاع على أحداث الماضي ومجرياته تقتصر على كتب التاريخ أو الوثائق الحكومية فقط. كما أن الحديث عنه والتدوين في تغيراته لم يعد حكرًا على أحد من الناس منذ زمن طويل. إذ في الحين الذي بات فيه الجميع تقريبًا قادرًا على رواية الماضي بالصورة والشكل الذي يريد، ظهر الشكل السرديّ مضيفًا شكلًا جديدًا من أشكال الكتابة التفصيلية القادرة على نقل صور متكاملة أو متفرّقة من التغيرات السياسية والاجتماعية والدينية، إلى جانب العديد من تفاصيل العيش الأخرى لمنطقة وزمن معين.
وفي بلد لم يكن هادئًا أبدًا كسوريا – قبل استلام حزب البعث الاشتراكي دفة الحكم- ، نجد تاريخًا كبيرًا يستحق أن يعاد النظر فيه في حال أردنا تشكيل فهم أعمق لما يجري حاليًا على الصعيد السياسي أو على صعيد تكوّن المجتمع السوري، واستكمالًا لما كنا قد استعرضناه سابقًا من تاريخ للمنطقة من خلال إلقاء الضوء على أبرز الأعمال الفنية السورية بكافة أنواعها بداية من المسرح والتلفزيون والكوميديا وليس نهايًة بالغناء والحِرف اليدوية نعرض في هذا المقال قلّة من الكتب السردية السورية التي يأخذ بعضها شكلًا أقرب إلى المذكرات نقلت في طياتها صورًا من الحياة السياسية والاجتماعية لسوريا نأتي اليوم على ذكر أبرزها ممن تناولت أحداث القرن العشرين.
مؤلفات علي الطنطاوي
يكاد لا يخلو منزل سوريّ مهتم بتاريخ سوريا والتغيّرات السياسية والاجتماعية التي حصلت في القرن العشرين وبالأخص في مدينة دمشق العاصمة إلا وقد توفر فيه واحد من كتب الفقيه علي الطنطاوي الذي استطاع بكتابة مذكراته ونشرها على سلسلة طويلة تتألف من 8 كتب، نقل صورة واضحة عن شكل الحياة السورية في مدينة دمشق بفضل تنقله بين المؤسسات التعليمية والقضائية لأكثر من عشرين عامًا خاض خلالها في عالم السياسة والقضاء فلم يبقي موضوع إلا وتحدث فيه بمجموع يصل إلى 3300 صفحة أطلق عليها اسم “مجموعة الذكريات” التي اكتمل نشرها عام 1985.
فعلى سبيل المثال يتناول في الجزء الأول منها الحديث عن سوريا خلال الحرب العالمية الأولى ثم ما يلبث أن يتحدث عن حال المدارس وشكل التعليم في ذلك الوقت منتقلًا لشرح الفروق بين المدارس في العهد التركي وعهد الاحتلال الفرنسي. كما تجري الأحداث في طفولته وصولًا إلى انتقاله إلى مصر لإتمام المرحلة الثانوية فلا يتوارى في وصف الحياة السياسية لمصر و لطلاب الجامعات المصرية منبهرًا بنشاط اللجان الطلابية المصرية ومشاركتها في العمل الشعبي والنضالي، الأمر الذي دفعه بعد عودته إلى دمشق لتأليف لجنةٌ للطلبة سُميت “اللجنة العليا لطلاب سوريا” التي أصبحت لاحقًا بمثابة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقود النضال ضد الاستعمار الفرنسي وتقوم بتنظيم المظاهرات والإضرابات.
أما الجزء الخامس من هذه السلسلة فما يلبث أن يأخذ بالقارئ إلى التجول في الكثير من الأحداث الجارية في الوطن العربي منها القضية الفلسطينية فيتحدث ناقلًا تفاعل الشعب السوري واهتمامه وآراءه بما يجري في القدس وغيرها من البلدان وصولًا إلى يوم الجلاء في دمشق وإذا بسلسلة جديدة من الموضوعات يولّد بعضها بعضاً فذكرى الجلاء تذكّر بالاستعمار وأساليبه، وهذا يذكّر بإفساد التعليم والأخلاق على الطريقة الفرنسية، وهذه تذكّر بمعركة دروس الديانة في مدارس الشام، وأخرى تجرّ للحديث عن الدعوة إلى الاشتراكية التي كانت فكرًة مطروقًة تنال اهتمام طلاب الجامعات والمدارس والعبث بالمناهج أيام الوحدة؛ فما ينتهي الكتاب إلا بدخول عهد الوحدة ووصف استقبال دمشق لجمال عبد الناصر ووزيرِه كمال الدين حسين، وكيف احتفى بهم علماء الشام. بينما تستمر باقي السلسلة وصولًا إلى الجزء الثامن وهو الأخير.
“دمشق صور من جمالها، وعبر من نز آخر من كنوتركها لالشيخ علي الطنطاوي يجمع فيها مقالات كان قد نشرها سابقًا في صحف مختلفة فيها فيض من الوصف والصور الكثير حتى قد يحسّ القارئ بأنه يعيش في حارات دمشق ويشهد على كل ما يجري فيها من أحوال مثل مقالة “العيد في دمشق”، التي وصف فيها العيد في بيوت دمشق وأحيائها في مطلع القرن، وفي كثير من مقالات الكتاب تصوير أدبي لواقع تاريخي؛ مثل مقالة “كارثة دمشق”، التي يتحدث فيها عن مراحل من الجهاد والنضال سبقت استقلال الشام وجلاء الفرنسيين عنها، ومنها: “أطفال دمشق” و”مقدمة كتاب عن دمشق”، و”الجلاء عن دمشق” اللتين نُشرتا عقب الجلاء في عام 1945 واستقلال سورية.
أما في مقالات أخرى فيستفيض في الحديث عن أحياء معيّنة من مدينة دمشق منها مقالتَي “حي الصالحية” و”منشئ حي المهاجرين في دمشق” التي يتحدث فيها عن تاريخ مفصل لهذا الحي منذ يوم استوطنه أهله الأولون الذين التجأوا إلى دمشق هرباً من الصليبيين في فلسطين، وفي الثانية تاريخ مفصل لحيّ “المهاجرين” الذي لم يكن شيئاً في أول القرن الهجري الماضي ثم استحال واحداً من أفضل أحياء المدينة، كما يأتي في بعض المقالات على استعراض موجز لأبرز التواجد العثماني في مدينة دمشق.
وفي بقية مقالات الكتاب فتكاد تقتصر على وصف دمشق ومنها مقالة “هذي دمشق”، وفيها وصف دقيق لشوارع المدينة وأزقتها وأبرز معالمها، ومنها مقالة “نهر دمشق” التي يصف فيها المؤلف “بردى”، ومقالة “على سفوح جبل الشيخ”، وهي من أواخر ما أُلف من مقالات الكتاب، وقد نُشرت سنة 1964.
أيضًا كان له الفضل في تصوير حياة الجامع الأموي وشكل التغيرات والأحداث التي طرأت عليه على مدار سنوات طويلة كان الطنطاوي قد جمعها في كتاب واحد قال فيه بأنه ملخصًا صغيرًا مقارنًة بما يريد أن يكتبه عن الأموي، فيقول في مقدمة الطبعة الأولى التي صدرت عام 1960 بأن هذا الكتاب هو محصلة للكثير من الأحداث التي سجلها منذ شبابه حتى السنة التي غادر بها دمشق منفيًا للسعودية أيّ ما يقارب 40 سنة كاملة، إلى جانب ما جمعه من كتب ومخطوطات متفرقة لمؤلفين كثر منهم مما وجده عن “ابن عساكر” و “المدارس” و “مسالك الأبصار” و”البداية والنهاية” و “الروضتين” وغيرها الكثير من الكتب والمراجع التي أتت على ذكر الأموي.
يعتبر هذا الكتاب من أقصر ما كتبه الشيخ الطنطاوي من بين كتبه أجمع إلا أنه على قصره قد ضمّ تاريخًا وافيًا للجامع وحياة الناس فيه وكيف كانوا يقضون فيه أوقاتهم ويعتبرونه جزءًا لا يتجزًا من حياتهم اليومية فهو الجامع الذي يؤدون فيه صلاتهم ويجتمعون عليه لحلّ مشاكلهم، كما أنه مرتع الأطفال وساحة للعب والتعلم. فينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول فيها شرحًا مفصلًا لعمارة الجامع وأقسامه بين الحرم والأبواب والمحارب التي ينقل كل واحدٍ منها مذهبًا من المذاهب التي يتبعها أهل دمشق.
مذكرات خالد بيك العظم
تختلف كتب أو مذكرات خالد بيك العظم بأجزاءها الثلاثة عمّا كتبه علي الطنطاوي في كتبه أجمع إذ تعتبر مذكرات العظم حصيلة سنوات طويلة من عمله في السياسة السورية بين رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة بالإضافة إلى نشاطه السياسي الكبير طوال حياته فهو يعتبر من أبرز الزعماء السياسيين خلال فترة الجمهورية الأولى من تاريخ سوريا. إذ تولى كرسيًا وزاريًا أكثر من عشرين مرة حتى انقلاب حزب البعث واستلامه لحكم البلاد فذهب بعدها للإقامة في لبنان وتوفي فيها نتيجة ملاحقة حزب البعث له لسنوات طويلة ومصادرته أملاكه فقد كان العظم وريثًا لعائلة ارستقراطية عريقة من عائلات مدينة دمشق.
كتب العظم خلال حياته الكثير من المقالات والتحليلات في السياسة السورية فقد كان نشاطه السياسي محصورًا بتقديمه نموذج عن الوسطية السياسية، فاستطاع الحفاظ على نفسه بعيدًا عن التصنيفات الحزبية مثل حزب الشعب والكتلة الوطنية كما كان نموذجًا عن الرأسمالية السورية والليبرالية والإسلام المعتدل الأمر الذي جعل من الكثير مما كتبه غير منحاز لجهة معينة. بينما تحتوي مذكراته التي نشرتها زوجته بعد موته شرحًا تفصيليًا لأحداث كثيرة في السياسة السورية وقتها من بينها فترة حكم شكري القوتلي، رئيس سوريا بين 1943- 1949.
يبلغ عدد صفحات المجلدات الثلاث الكاملة حوالي 1500 صفحة تقريبًا، شرح فيها وجهات نظره المختلفة للأحداث السياسية وما يتبعها من اجتماعات واتفاقات سرية وعلنية، بالإضافة إلى شكل العلاقة التي كانت تجمعه مع الشخصيات السياسية التي التقاها طوال فترة عمله. كما تحدث فيها عن اعتقاله من قبل سلطات الانقلاب أثناء رئاسته لمجلس الوزراء إضافة إلى أحاديث متفرقة عن حياته الشخصية وعائلته.
تقول بعض المصادر المتضاربة أنه قد جرى تعديلات على هذه المذكرات بعد وفاته نظرًا لكونها قد نشرت وطبعت بعيدًا عن أعينه إلى أن الكثير مما كتب فيها كان حقيقيًا وفقًا لشهادات أشخاص شهدوا على حياته في تلك الفترة.
الشاعر أنور العطار
بالرغم من أن الطريقة التي قدم بها أنور العطار مساهماته في تأريخ فترات مختلفة من سوريا مختلفة عما هي عليه في المثالين السابقين إلا أنه تفرّد في أسلوبه الشعري البديع في وصف الريف الدمشقي فقد كان مفتونًا بالطبيعة الخلابة لدوما والغوطة الشرقية الأمر الذي دفعه لزيارتها والإقامة فيها بفترات متباعدة فهو ابن لأبوين دمشقيين إلا أنه ولد وعاش طفولته في بعلبك لبنان. ثم ما لبث أن انتقل إلى دمشق ليكمل دراسته الإعدادية والثانوية في مدرسة “مكتب العنبر” التي كانت معروفة في ذلك الوقت ثم بدأ دراسته في مدرسة دار المعلمين والتي أهّلته لاحقًا للعمل مديرًا ومعلمًا ومفتشًا لسنوات طويلة لاحقًا تنقل خلالها بين العديد من المدن السورية.
كتب العطار واصفًا في دواوينه حدائق مدينة دمشق وأنهارها وينابيعها فألف قصائد عديدة في جمال المدينة الفيحاء كما كان يحب أن يسميها، من بين قصائده “دجلة في الليل، والبصرة والليل في بغداد ولبنان”. كما وصف غوطة دمشق بأنها واحدة من جنان الدنيا الأربع ونظم لها قصيدًة من ٩١ بيت راسمًا في ذهن القارئ صورًة عن بردى النهر الذي رأه بعين الخيال الشعري مستمدًا من تاريخ النهر قصصُا وروايات لا حصر لها فكان ديوان “ظلال الأيام”.
عرف عن العطار تأثره بالثقافة الفرنسية إذ كان مهتمُا بالأدب الفرنسي نتيجة معاصرته لتلك الفترة حتى أنه قد ترجم الكثير من القصائد الفرنسية للغة العربية. يتنوع الإرث الأدبي الذي تركه العطار بين مذكرات وقصائد وترجمات ومخطوطات وحتى مسرحيات لا حصر لها كما كان له الفضل في ترجمة بعض القصائد الفرنسية للغة العربية نتيجة تأثره وحبه للثقافة والشعر الفرنسي. يعتبر “ظلال الأيام” واحدًا من أبرز دواوينه ورباعيات علمتني الحياة.
تعتبر هذه الكتب باختلاف سردياتها وتوجهات مؤلفيها ذاكرةً إبداعية تنقل فترات مهمٍة ومتفرقة عن سوريا التي لم ترها أجيال حزب البعث الاشتراكي، فهي الآن بمثابة عودًة لماضٍ غنيّ وطويل يساعد في استذكار أمجادًا مطوية وتاريخ غفل عنه الكثيرون.