يعود الاحتفال بأعياد رأس السنة إلى المصريين القدماء، قبل ألاف السنين، وكان التقويم حينها يلتزم بالسنة الزراعية، ومن ثم فإن أول يوم في العام الجديد هو أول يوم في السنة الزراعية، وكان يصادف الـ 11 من سبتمبر من كل عام، وتم تحديد هذا اليوم خصيصًا لأنه موعد اكتمال موسم فيضان النيل، حيث الخير والبركة وزيادة خصوبة الأرض.
وكان الفراعنة يعتمدون على التقويم القديم في الزراعة والحصاد، فهو تقويم يعتمد على دورة الشمس، ويساعدهم في استقراء الظروف المناخية الملائمة للزراعة، وتحديد أي من فصول العالم مناسب لزراعة محصول بعينه، ومن ثم كانوا ينظرون لبداية العام الجديد على أنه نافذة للأمل والخير الذي يعم على الجميع.
وقد قسم المصريون القدماء العام إلى 12 شهرًا، كل شهر 30 يومًا، مقسمين إلى 3 أسابيع لكل أسبوع 10 أيام، ولم يغفلوا تقسيم اليوم الواحد إلى ساعات، كما أطلقوا أسماء آلهتهم على الشهور، فشهرهم الأول، توت وبالهيروغليفية تعني «تهوب» وهو إله العلم، وشهر بابه وهو إله الزراعة، وهاتور هو إله الجمال لأن بهذا الشهر تتزين الأرض بالمزروعات، ثم كيهك وبالهيروغليفية «كا ها كا»، وهو إله الخير، وطوبة، أي الأعلى أو الأسمى وكان يطلق على إله المطر، وأمشير الإله المسؤول عن العواصف والزوابع، وبرمهات وبالهيروغليفية «بامونت» أى الحرارة وتنضج فية المحاصيل الزراعية.
أما برمود فهو يرمز إلى إله الموت أو الفناء، يعقبه شهر بشنس هو إله الظلام عند الفراعنة، وبؤونة إله المعادن، كذلك أبيب بالهيروغليفية «هوبا» أى فرح السماء، وتنتهي السنة الفرعونية بمسرى، بالهيروغليفية «مسو رع» أى ولادة رع أو سا رع، ابن الشمس.
المياه.. رمز الحياة
المصريون القدماء أطلقوا على عيد رأس السنة الجديدة، اسم «وبت. رنبت . نفرت» بمعنى «عيد افتتاح السنة الجميلة»، حيث كانوا يعتقدون بأنه هو يوم مصيري في حياة البشر، كونه بداية لانتقالهم من عام مضى إلى عام جديد، وذلك وفق ما أشار الباحث الأثري فرنسيس أمين في دراسة حديثة له.
الدراسة أوضحت أن المصريين القدماء كانوا شغوفين جدا بالاحتفال بالأعياد، غير أن لكل إقليم طقوسه المميزة التي تختلف عن غيره، وكان يتصدر عيد رأس السنة قائمة تلك الأعياد التي حظيت بمكانة كبيرة وتقديس لا يقارن بغيره، وكان من أبرز صور الاحتفال بهذا اليوم تبادل قارورات المياه المستديرة.
ويعود هذا الطقس إلى أن المياه كانت ترمز عند المصريين للحياة، وأن تلك القوارير تمثل صورة للإلهة «نوت» إلهة السماء، والمحيط الأزلي، ومصدر المياه الأزلية، والنيل رب الحياة، وكانوا يعتقدون في وجود رابط دائم بين المياه والحياة وبداية العام الجديد.
وبحسب معقتدات الفراعنة فإنه وحتى تكون السنة الجديدة سعيدة على الجميع فلا بد من طقوس محددة يقوم بها المصريون لتحقيق هذه الغاية، كانت معظمها طقوس دينية، حيث كانوا يتعبدون في ذلك اليوم لإله النهر «حابى العظيم» لأنهم كانوا يرون أن سعادة مصر، ترتبط بفيضان النيل.
ومن تلك المعتقدات أيضًا أنه في أول أيام السنة الجديدة التي تتزامن مع بدء فيضان النيل، يظهر نجم الشعرى اليمانية، وهو ما كان يراه المصريون القدماء إشارة إلهية إلى أن العام الجديد سيكون سعيدا على البلاد، خاصة وأن ظهور هذا النجم، ارتبط لديهم بالسعادة، وبقصص الحب.
لم يقتصر الاحتفال بالعام الجديد كما هو الأن على يوم واحد فقط يُنهي فيه المصريون جميع طقوسهم الاحتفالية، بل كانوا يستمرون في طقوسهم قرابة 5 أيام كاملة، يضع فيها المصريون تماثيل الألهة فوق أسطح المعابد لتستقبل أشعة الشمس التى يعتقدون أنها مصدر القوة والحياة لهم.
وقد سجل المصريون معظم تلك الطقوس الاحتفالية الخاصة برأس السنة على جدران معابد مدينة هابو في غرب مدينة الأقصر (جنوب)، وهى المعابد الأكثر غنىً بالنقوش والرسوم، بجانب معبد دندرة ، الذى كرس لعبادة الإلهة حتحور، فى غرب مدينة قنا(جنوب) حيث كانوا يلبسون تمثال الإله ملابس طقسية واحتفالية، ويزينونه بالذهب والمجوهرات النفيسة.
طقوس متعددة
كان للطعام حضور قوي في طقوس الاحتفال بالعام الجديد عند الفراعنة، حيث تميزت أيام الاحتفال الخمس بأنوع محددة من الأطعمة، منها صناعة الكعك والفطائر، هذا بجانب “بط الصيد” و “الأوز” الذي يشوونه في المزارع، والأسماك المجففة التي كانوا يعدون أنواعاً خاصة منها للعيد، ومن ناحية المشروبات فكان “عصير العنب” أو “النبيذ الطازج” التخمير من أكثر المشروبات استهلاكا في أعياد رأسي السنة.
ومن التقاليد الاجتماعية الاحتفال بعقد القران مع الاحتفال بعيد رأس السنة، حتى تكون بداية العام بداية حياة زوجية سعيدة. كما كانت تقام أعياد ختان الأطفال مع نهاية أيام، وبدء العام الجديد، هذا بخلاف مظاهر البهجة والاحتفال الأخرى وارتداء الملابس الجديدة وتبادل الهدايا وغيرها.
وبحسب الدراسات المختلفة فإن من أكثر التقاليد التي سنًها المصريون في أعياد رأس السنة نسيان الخلافات والضغائن بين الناس، فكانت تقام مجالس المصالحات بين العائلات المتخاصمة، وتحل كثير من المشاكل بالصلح الودي والصفح وتناسي الشقاق، وكانت تدخل ضمن شرائع العقيدة، حيث يطلب الإله من الناس أن ينسوا ما بينهم من ضغائن في عيده المقدس، عيد رأس السنة التي يجب أن تبدأ بالصفاء، والإخاء، والمودة بين الناس.
ومنها أيضًا تسابق المتخاصمين، كل مع أتباعه وأعوانه، لزيارة خصمه أو عدوه، فيقتسم الضيف مع مضيفه، أو الخصم مع عدوه، كعكة العيد بين تهليل الأصدقاء وتبادل الأنخاب تأكيداً لما يقوله كتابهم المقدس: كتاب الموتى “إن الخير أقوى من الشر والمحبة تطرد العداء.. وهكذا كان كثير من القضايا يُحل ودياً في العيد، ويتسابق كل إلى بيت خصمه، أو عدوه بصحبة أصدقائه ليكون له السبق في الصالح حتى ينال بَرَكة الإله في العيد المقدس كما تنص على ذلك تعاليم العقيدة”.
105 عيد سنويًا
تعددت الأعياد في مصر القديمة مقارنة بما كان عليه الوضع في الحضارات المختلفة، فكانت فرصة للابتهاج والمرح وتناسي الخلافات، وقد بلغ عدد الأعياد الرسمية عند الفراعنة قرابة 105 عيدًا وما يزيد عن 7 عطلات في الشهر، خصصت للآلهة كما ذكرت نصوص معبد رمسيس الثالث بمدينة هابو، بحسب الباحثة الأثرية ناجية نجيب فانوس، كبير أمناء المتحف المصري بالتحرير وسط القاهرة.
انقسمت الأعياد في مصر القديمة إلى نوعين، أعياد رسمية وأخرى قومية، ومن أشهر تلك الأعياد، عيد تنصيب الملك، وأعياد بمناسبة الانتهاء من إقامة مشروعات قومية مثل انتهاء بناء (الهرم)
وأضافت فانوس أن المصري القديم كان يتخذ من تلك الأعياد فرصة للتنزه والاسترخاء في البيت، حيث لا ذهاب للعمل، ولا مباشرة لأي مهام ثقيلة، كما تتوقف الدراسة بالنسبة لتلاميذ وطلبة العلم في المدارس التي كان المعبد يشرف عليها، وهو ما وثقته عشرات البرديات التي جسدت الحياة المصرية في هذه الفترة.
وقد انقسمت الأعياد في مصر القديمة إلى نوعين، أعياد رسمية وأخرى قومية، ومن أشهر تلك الأعياد، عيد تنصيب الملك، وأعياد بمناسبة الانتهاء من إقامة مشروعات قومية مثل انتهاء بناء (الهرم) إلى جانب أعياد دينية مثل أعياد الآله (مين) المعبود على هيئة شكل بشرى ويدل على الخصوبة والنماء.
هذا بخلاف الأعياد الزراعية التي كان يتعامل معها المصريون معاملة استثنائية ويقدسونها بصورة كبيرة، ومن بين تلك الأعياد عيد وفاء النيل وعيد الحصاد وعيد حرث الأرض، هذا بجانب احتفالات محلية أخرى، حيث كان كل إقليم له احتفال بالمعبودات الخاصة به، ففي الوادي كان يحتفل المصريون بعيد “أوبت”، وعيد “الاتحاد” في دندرة وادفو، وعيد “واج” المخصص للمعبود (أوزير)، وهو عيد خاص يقوم الأهالي بزيارة المقابر ويحملون قرابين من الأطعمة والبخور وينتهي اليوم بوليمة جنائزية.
وفي المجمل تمحورت مظاهر الاحتفال بعيد رأس السنة على وجه الخصوص والأعياد الأخرى بصفة عامة في محاولة إضفاء البهجة والسرور على المجتمع، حيث كانت البيوت تنظف ويوقد بها البخور لاستقبال الأعياد ويتزاور الأهل والأصدقاء، كما أن فرحة الاحتفاء بالأعياد كانت ترتبط بالطعام لدى المصريين، فضلا عن التصالح وتبادل الهدايا.