تشهد العلاقات الهندية البنغلاديشية، أزمة مكتومة، استدعت إلغاء سفر وزيري الخارجية والداخلية، عبد القادر عبد المؤمن، وأسد الزمان خان، والأول كان يفصله ساعات فقط على رحلة إلى نيودلهي، بقرار صارم من رئيس الوزراء الشيخة حسينة واجد، على خلفية مشروع قانون تعديل المواطنة، الذي أقره البرلمان الهندي، وأدى إلى استياء عميق في الأوساط الدولية عمومًا، وبين أبناء شعب البنغال على وجه التحديد.
ماذا فعلت الهند ؟
في أول ديسمبرالجاري؛ أقرت الحكومة الهندية، تعديل قانون الجنسية لسنة 1955 فور حصولها على موافقة مجلسَي البرلمان، بطريقة مثيرة للجدل، حيث صاغات المواد بهندسة قانونية بها الكثير من الخبث، لتظهر أمام المجتمع الدولي وكأنها معنية بمسئولياتها الدولية في حماية الأقليات الدينية المضطهدة في بلدان الجوار، بينما الهدف الأصلي هو تحويل ملايين من مسلمي الهند أنفسهم إلى “البدون” في بلدهم.
بموجب القانون، تستقبل الهند المهاجرين من ثلاث دول مجاورة، باكستان وبنغلاديش وأفغانستان؛ وهؤلاء وضعت لهم شرطا قاسيا، إذ يجب أن يكونوا من الهندوس والمسيحيين والسيخ فقط، حيث لا حق للمسلمين في العيش بالهند، باعتبارهم مواطنين “درجة ثانية” وبالتالي يضع القانون الجديد المسلم الهندي نفسه خارج حسابات بلاده، فتسحب منه الجنسية، ويعيش على هامش الحياة، فلا هو معترف به، ولن يمكنه بالطبع الرحيل إلى دول آخرى، لن يكون بإمكانها استيعاب كل هذه الأعداد.
التصعيد الخطير ضد المسلمين، وجد غضبا محليا ودوليا شرسا، وبخلاف المظاهرات التي اندلعت في طول البلاد وعرضها، أعلنت الكثير من البلدان غضبها من القرار، وألغي بعضهم زيارات في الساعات الأخيرة، وخاصة من اليابان وبنغلاديش، ولكن كان لافتا غضب الأخيرة الشديد، في ظل الدعايا السوداء التي سبقت الترويج للقانون، وأهانة من أسماهم الإعلام الحكومي “الدخلاء البنغلاديشيين”، المقيمين على أراضي الهند، في محاولة للضغط عليهم للعودة لبلادهم .
الدعاية الهندية المقززة تجاخ بنغلاديش، تدعي أن ملايين البنغلاديشيين، هاجروا إلى الهند هربا من الاضطهاد، وعندما تحسن الأوضاع لم تحاول إعادتهم من جديد، مما يضع سبة على جبين الجارة التي تسوق نفسها للعالم، أنها تحرص دائما حتى على حماية أقلياتها، ولاسيما ان أوضاعها الاقتصادية جيدة للغاية وربما تفوق نيودلهي، ما جعل سفيرها في الهند يطرح التساؤل: لماذاَ إذن سيهاجر أي بنغلاديشي إلى الهند إن كان إقتصادنا أفضل منهم ؟ .. مردفا بتهكم: إن البنغلاديشي يعوم البحار حتى يصل إلى إيطاليا ولكنه لا يفضل القدوم للهند مشيا على الأقدام.
محاولة الهند تبريد الأزمة، بإعلانها الانفتاح على كل الأراء، وفتح باب الطعون على القانون، بعد اكتشافها حجم الغضب المحلي والدولي من القرار، لم يردعها عن الاستمرار في اعطاء الضوء الأخضر، لبدء تجديد سجل الجنسية القومي مع بداية أبريل من العام القادم، على أن تنتهي في نوفمبر من نفس العام.
وترغب الحكومة الهندية من هذا القانون المسيء، عمل مسح ميداني، على كل سكان الهند، للبحث عن المسلمين في كل مكان، الذين سيكون عليهم تقديم وثائق تكشف هويتهم التاريخية، مثل شهادة الميلاد، وملكية الأراضي، وشهادة الثانوية الصادرة قبل عام 1987، وبذلك تستطيع فرز الهنود من البنغلاديشين، وخاصة المقميمين في ولاية آسام، التي استقبلت مهاجرين بنغاليين بكثافة بعد عام 1971، هربا من بلادهم الأم، التي كانت تعرف باسم باكستان الشرقية، قبل أن تتحول إلى اسمها الحالي.
تبدأ سلسلة التضييقات الهندية على المسلمين، بحرمانهم من التسهيلات الحكومية، مثل المدارس العامة المجانية، والخدمات الطبية، والالتحاق بالوظائف الحكومية، والحصول على القروض من البنوك، وعلى أوراق رسمية مثل جوازات السفر، ورخصة القيادة وبطاقات الأغذية المدعومة والمعاشات، بل تتخوف مؤسسات دولية حقوقية، من تخطيط الهند لعمل معسكرات اعتقال، لإعادة هندسة البدون المسلمين، مثلما تفعل الصين، خاصة أنها أجرت بروفات حقيقية، على مثل هذه السياسة النازية، بإقامة معسكرات اعتقال في أراضيها بوقت سابق، لإسكان السكان غير الشرعيين بدلا من طردهم من البلاد.
العلاقات بين الهند وبنغلاديش.. تاريخ من الموائمات والمؤامرات
تتسم العلاقات الهندية البنغلاديشية بطبيعة خاصة، حيث كانت الأخيرة جزءًا من منطقة البنغال شرق الهند حتى عام1947 ومع الاستقلال وتقسيم الهند إلى دولتين، هما الهند وباكستان، أصبحت بنغلادش جزءاً من باكستان، قبل أن تخوض معركة جديدة عام 1971 للانفصال بقيادة الشيخ مجيب الرحمن والد رئيسة الوزراء الحالية الشيخة حسينة واجد.
قدمت الهند في سبيل هذا الانفصال، كل ما تملك من خبرات، تحت إطار سياسة معلنة، لإحياء كل النزعات الانفصالية في محيط الأراضي التابعة لعدوتها اللدودة باكستان، ودعمت بنغلاديش عسكرياً ودبلوماسيا، وكانت أول من قدم لهم اعترافا بالاسقلال، وأقامت معهم علاقات دبلوماسية، ووقع البلدان على معاهدات طويلة الأمد في كل المجالات تقريبا.
يقول الكاتب ذكر الرحمن، رئيس مركز الدراسات الإسلامية في نيودلهي، أن الدعم السخي المقدم من الهند، لم يكن خافيا على البنغلاديشيين، الذي استشعروا رغبة هندية، في السيطرة على قرار دولتهم الوليدة، وبسبب تنامي هذا الشعور والسخط على وضع البيض كله في سلة دولة تحاول الهيمنة عليهم، وقع انقلاب عسكري من ضباط شباب عام 1975، وأسفر عن مقُتل الشيخ مجيب الرحمن وكل أسرته، ولم تنجو من هذه المذبحة إلا ابنته الشيخة حسينة التي كانت تعيش خارج البلاد.
لم تصمد بنجلاديش كثيرًا أمام الإنقلابات العسكرية وعاد نظام الحكم في بنغلاديش إلى النظام البرلماني الديموقراطي، بجهود كبيرة
أسفر الانقلاب عن توترات سياسية كبرى بين البلدين الجارين، وبدأت تظهر على السطح صراعات مكتومة حول تقاسم مياه الأنهار التي تتدفق عبر الهند وبنجلاديش، وانتهت هذه الندية الوليدة باختلاف شديد على تبعية نحو 144 جيباً على حدود تمتد بطول 4096 كيلومتراً، ولكن في الخلفية سريعا ما تكشف وجود أصابع خفية للصين، في دعم زعيم الانقلاب الجديد، ضياء الرحمن، الذي اندفع نحو بكين، وأقام معها علاقات عسكرية قوية، على حساب نيودلهي، ما أدى إلى تردي العلاقات بين الهند وبنجلاديش.
غادر ضياء الرحمن السلطة بانقلاب عسكري من حسين أرشاد عام 1982، ولم تصمد بنجلاديش كثيرًا أمام الإنقلابات العسكرية، وبعد انهيار النظام الشيوعي وضغوط البلدان الغربية، أجبر أرشاد على التنحي عام 1990، وعاد نظام الحكم في بنغلاديش إلى النظام البرلماني الديموقراطي، بجهود كبيرة لأرملة ضياء الرحمن خالدة ضياء دورًا، التي قادت الحزب الوطني البنغلاديشي إلى النجاح في البرلمان بالانتخابات العامة عام 1991 وأصبحت أول رئيسة للوزراء في تاريخ بنغلاديش.
عادت تقلبات السياسية بإلإبنة التي تغربت عن بلادها ما يقرب من من 35 عاماً، واستطاعت الشيخة حسينة إبنة الشيخ المؤسس المغدور قلب الطاولة على من قتلوا والدها، وعقدت تحالفات من الهند من جديد، يتم بموجبها تسليم كل الأراضي التي تم احتلالها بشكل غير مشروع إلى بنجلاديش، وبعد فوزها بمنصب رئيس الوزراء، توسعت في التعاون بمختلف المجالات، من الدفاع إلى الطاقة النووية للأغراض السلمية، فضلا عن توقيع اتفاق تاريخي بتقاسم مياه نهر «تيستا» بين البلدين.
مخاوف بنغلاديش من قانون المواطنة
تعرف الحكومة البنغلاديشية ــ بغض النظر عن الطعن في الكرامة ــ ومحاولة التقليل منها، أن إقرار الهند لقانون المواطنة المثير للجدل، سيعود عليها بأزمات كبرى، خاصة أنها تستضيف أكثر من مليون شخص من مسلمي الروهنغيا، ولن يلجأ البدون الجدد من الهند ــ الناطقون باللغة البنغالية ــ إلا إليها، وهؤلاء وحدهم عددهم لن يقل بحسب احدث الإحصائيات عن 2 مليون نسمة.
تصنيف الهند للمسملين الناطقين بالبنغالية، باعتبارهم مهاجرين غير شرعيين، واستبعادهم من قوائم السجل الوطني، بزعم أنهم فروا من أحداث 24 مارس 1971؛ إثر الحملة العسكرية الباكستانية على البنغاليين، سيعني مباشرة، أن بنغلاديش التي يبلغ عدد سكانها 165 مليون نسمة، فضلا عن كونها أكبر مستوطنة للاجئين في العالم؛ ستضاف إليها اعباء لن تقدر عليها، وكل ذلك بسبب رغبة شيطانية لكبار قادة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، الذين يرون في المسلمين لبنات إنفصالية، لا سبيل في مواجهتها إلا القمع والتشريد، حتى لو اضطرت الحكومة بنقلهم واحداً تلو الآخر وإلقاءهم في خليج البنغال.
الخوف الأكبر من استغلال الهندوس، للهوس بالتنكيل بالمسلمين، وقد تتزايد عمليات الاضطهاد، على خلفيات الصراعات القديمة بين الطرفين، وقد تتزايد الوشايات، وعمليات التزوير التي تزعم بانتماء مسلم على خلاف قديم مع هندوسي، لأفغانستان أو بنغلاديش أو باكستان، وخاصة إذا فشل المسلمون في تقديم ما يفيد بانتماءهم للعرق الهندي، ما يساهم في إنجاح الخطة الرئيسية لحزب بهاراتيا جاناتا، الذي يسعى بطريقة مجنونة لتحويل الهند إلى دولة هندوسية خالصة، بحلول انتخابات عام 2024، وتقديم ما يقرب من 200 مليون مسلم في البلاد، قربانا لبرنامج الحزب، وأهدافه النازية!