على الرغم من تجاوز المدة الدستورية التي حددتها المادة 76 من الدستور العراقي الدائم لعام 2005، والتي أشارت إلى قيام رئيس الجمهورية بتكليف مرشح الكتلة البرلمانية الأكثر عددًا بتشكيل الحكومة الجديدة، والدخول في مرحلة التعطيل الجزئي للدستور منذ يوم الخميس الماضي، إلا أن إمكانية نجاح أي مرشح بمهمة تشكيل الحكومة تبدو صعبة للغاية في ظل الوضع السياسي المعقد الذي دخل فيه العراق بالوقت الحاضر، بل يمكن القول إن صراع الإرادات مابين تحالف البناء الذي يصر على أنه الكتلة الأكبر برلمانيًا، بعد تنازل تحالف سائرون عن استحقاقه الانتخابي من جهة، والمتظاهرين الرافضين لأي مرشح يفرزه هذا التحالف أو أي تكتل سياسي آخر داخل قبة مجلس النواب العراقي من جهة أخرى، قد يستمر حتى فيما لو نجح تحالف البناء في تمرير مرشحه لرئاسة الوزراء، والذي تشير أكثر المصادر بأنه وزير التعليم العالي والبحث العلمي قصي السهيل.
كان رئيس الجمهورية برهم صالح قد أرسل طلبًا يوم الخميس الماضي بعد مشاورات موسعة ضمت قادة الكتل السياسية في قصر السلام في بغداد، إلى المحكومة الاتحادية يستفتيها بموضع ماهية الكتلة البرلمانية الأكثر عددًا الوراد ذكرها في المادة 76 من الدستور، إلى جانب بيان موقف المحكمة الاتحادية من إمكانية ترشيح رئيس الجمهورية لأي مرشح خارج إطار الكتلة الأكبر، خصوصًا ونحن نتحدث عن عدد ترشيحات وصلت إلى 48 مرشحًا، فضلًا عن بيان صلاحيات رئيس الجمهورية في هذا الإطار، وقد جاء رد المحكمة الاتحادية في هذا الإطار:
“وضع الطلب المدرجة صيغته في أعلاه موضع التدقيق والمداولة من المحكمة الاتحادية العليا بجلستها المنعقدة بتاريخ 22/12/2019 وتوصلت بعد المداولة والتدقيق وبعد الرجوع إلى أوليات تفسيرها لحكم المادة (76) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005، وذلك بموجب قرارها الصادر بتاريخ 25/3/2010 بالعدد (25/ اتحادية/ 2010)، والذي أكدته بموجب قرارها الصادر بتاريخ 11/8/2014 بالعدد (45/ ت. ق/ 2014) ومضمونهما، أن تعبير (الكتلة النيابية الأكثر عددًا) الواردة في المادة (76) من الدستور، تعني الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية، ودخلت مجلس النواب وأصبحت مقاعدها بعد دخولها المجلس وحلف أعضاؤها اليمين الدستورية في الجلسة الأولى الأكثر عددًا من بقية الكتل، فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشحها بتشكيل مجلس الوزراء طبقًا لأحكام المادة (76) من الدستور وخلال المدة المحددة فيها، وهذا ما استقرت عليه المحكمة الاتحادية العليا بموجب قراريها المذكورين آنفًا في تفسير المادة (76) من الدستور، وببيان مفهوم الكتلة النيابية الأكثر عددًا.”
الأزمة الحالية عكست وجود ندرة برجالات الدولة، وخصوصًا لمن هم في مواقع مؤثرة على القرار السياسي
إن رد المحكمة الاتحادية قد وضع رئيس الجمهورية بين مطرقة تحالف البناء وسندان المتظاهرين، ففي الوقت الذي يصر فيه تحالف البناء على تقديم مرشحه المرفوض من قبل الشارع العراقي، (تقلد قصي السهيل مناصب حكومية عديدة منذ 2003 آخرها منصبه وزيرًا للتعليم العالي حين شهدت حقبته مظاهرات طلابية قمعت بعنف) وحتى وفي قمع الاحتجاجات، يصر المتظاهرين على تقديم مرشح آخر خارج إطار الكتلة الأكبر، مما جعل رئيس الجمهورية في حالة صدام مباشر مع الطرفينن، فمن جهة أعربت الكثير من الكتل السياسية المنضوية ضمن تحالف البناء بأنها في صدد توجيه اتهام لرئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى، كما قامت مليشيات مسلحة مرتبطة ببعض الكتل داخل هذا التحالف، بتسيير طائرات مسيرة فوق القصر الجمهوري في المنطقة الخضراء ليلة الخميس الماضي، في مايبدو رسائل مبطنة لرئيس الجمهورية بقبول مرشح التحالف، ومن جهة أخرى لايريد رئيس الجمهورية الصدام المباشر مع المتظاهرين، لعلمه بأن سقف مطاليب المتظاهرين بدأ يعلو يومًا بعد يوم، وقد يكون هو المستهدف المقبل من قبل المتظاهرين في حال ما إذا مرر مرشح تحالف البناء.
ومع تصاعد الأخبار الخاصة بقيام تحالف البناء بتقديم مرشحه لرئاسة الوزراء لرئيس الحمهورية مساء الأحد، حتى عبرت الكثير من الفعاليات السياسية والاجتماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن رفضها لهذا القرار، لماله من تداعيات سلبية على الواقع السياسي العراقي المعقد، خصوصًا وأن الإصرار على سياسة تدوير الوجوه أدخلت البلاد في أزمات سياسية معقدة خلال السنوات الماضية، وأنتجت حالة من الفشل السياسي والاقتصادي والأمني، على اعتبار أن أغلب هذه الأسماء تأتي عبر صيغة التوافق الحزبي والطائفي البعيد عن الاستحقاقات الوطنية.
إن الأزمة الحالية عكست وجود ندرة برجالات الدولة، وخصوصًا لمن هم في مواقع مؤثرة على القرار السياسي، والتي لن تزول ما لم تتجه القوى السياسية إلى فسح بعض المجال للكوادر المجتمعية والمهنية، وتحديدًا الشباب، في أخذ حيز في صنع القرار، فالعراق بحاجة إلى قيادات شبابية جديدة قادرة على تحمل أعباء مسؤولياتها.
ومن ثم فإن الحاجة لتصرف قادة الكتل السياسية كرجال دولة لا مغتصبي سلطة تفرض ضرورتها على المعادلة السياسية في العراق، من أجل الخروج من هذا النفق السياسي المظلم، والبدء بإرساء تقاليد سياسية تقوم على مفهوم المواطنة والتداول السلمي للسلطة، بعيدًا عن الاستحقاقات الحزبية والطائفية الضيقة، والتي تخدم في بعدها الأخير دول الإقليم والعالم التي ترغب في إبقاء العراق ضعيفًا مسلوب الإرادة.