ليس سهلًا أبدًا أن تقنع أحدهم بمشاهدة فيلم سينمائي أو الاستمتاع بالذهاب لأحد دور العرض في الوقت الذي ترزح فيه بلاده تحت وطأة الحرب والثورة والتخبط السياسي؛ فحالات القتل والتهجير تجعل الناس مع الوقت يفقدون الإحساس بأبسط جوانب المتعة، ولكن.. هناك في ساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد نُصبت خيمة كبيرة بين خيام الثوار أُطلق عليها اسم خيمة “سينما الثورة” وذلك من أجل عرض أفلام سينمائية كشكل من أشكال الاحتجاج السلمي الذي بدأ في العراق منذ مطلع أكتوبر الماضي.
وقد ارتكزت فكرة سينما الثورة التي طرحها المخرج العراقي علي رحيم على أن المقاومة لا تتجزأ وأن الفنون والثقافة جزء أصيل وأساسي من مقاومة الاستبداد، ومن أشهر الأفلام التي عُرضت في خيمة سينما الثورة: فيلم “حسن في بلاد العجائب” للمخرج علي كريم و”جاري الاتصال” لبهاء الكاظمي، و”أحلام تحت الأنقاض” للمخرج محمد خليل، و” الساعة الخامسة” لأيمن الشطري و”تجريد الله” لكرار موسى، فمتى بدأت مسيرة السينما العراقية؟ وماهي المراحل والتحديات التي واجهتها.. لنحكي القصة من البداية.
البداية من أفلام السينما الصامتة
في قديم الزمان كان هناك صندوق خشبي كبير يحمله صاحبه ويجوب به قرى ومدن العديد من الدول العربية جامعًا حوله الكبار والصغار الراغبين في مشاهدة الصور التي تحكي بطولات أصحاب السير الشعبية العربية المشهورين، وقد عُرف هذا الصندوق الخشبي الذي يحوي العجائب والغرائب ويحكي القصص باسم “صندوق الدنيا”، وقد كان هذا الصندوق موجودًا في سوق الميدان ببغداد وأحبه العراقيون جدًا.
وفي ليل السادس والعشرين من يوليو عام 1909 تحركت للمرة الأولى تلك الصور التي طالما أثارت شغف العراقيين حيث عُرض أول فيلم صامت في “دار الشفاء” الواقعة في الجانب الغربي من مدينة بغداد والتي سُميت لاحقًا باسم “سينما بلوكي”.. حينها تابع العراقيون بانهبار شديد تلك الصور التي تتحرك فوق شاشة بيضاء كلما اشتد الظلام وهو الأمر الذي وثقه الكاتب العراقي شفيق مهدي في كتابه “سينمات بغداد” الصادر عن مكتبة الحبيب.
وفي عام 1911 قدمت سينماتوغراف بغداد تحت رعاية الوالي أحمد جمال بيك عرضًا للأفلام القصيرة الصامتة وذلك في بستان العبخانة، أما الأفلام التي عُرضت حينها فهي؛ الرجل الصناعي، صيد الفهد، التفتيش عن اللؤلؤة السوداء، سباق مناطيد، طيور مفترسة في أوكارها وخطوط حية.
وعادة ما كانت تُقدم عروض السينماتوغراف في الاحتفالات العامة والمناسبات المهمة بالبساتين العمومية؛ وذلك مثل فيلم “معارك هذه الحرب” الذي عُرض في 24 مايو من عام 1918 وسجل مآسي الحرب العالمية الأولى ومن هنا تحديدًا تضاعف اهتمام المشاهدين بمتابعة أفلام السينما الصامتة وهو ما حدا ببعض الأثرياء في التفكير ببناء دور خاصة بالعرض السينمائي فظهرت حينها للوجود كل من “رويال سينما” و”أوليمبا سينما”. وفي مساء 26 يوليو 1920 افتُتحت دار جديدة للعرض السينمائي وهي “سينما سنترال” وأُضيفت فيما بعد أيضًا إلى دور العرض “سينما العراق” التي شهدت عرض أفلام؛ الطاحونة الحمراء وجزاء الخيانة وخطايا البشر.
وبداية من عام 1928 نطقت السينما الصامتة للمرة الأولى في العراق ولم يعد أصحاب دور العرض بحاجة إلى العازفين الذين كانت تتم الاستعانة بهم لإبعاد الملل عن المشاهدين، وتكلمت السينما لأول مرة في العراق من خلال فيلم “ملك الموسيقى” وبعد تلك الفترة بسنوات أنتجت العراق أفلامها الخاصة.
بداية صناعة الأفلام
ظل القطاع الخاص في العراق يستورد الأفلام من أوروبا ولم يحالفه الحظ لبدء الإنتاج إلا في الأربعينات وتحديدًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ إذ بدأت بعدها صناعة الفيلم في العراق حيث أنتجت شركة الرشيد العراقية المصرية خلال عام 1946 أول فيلم عراقي بعنوان “ابن الشرق” للمخرج المصري نيازي مصطفي، وفي العام نفسه تعاونت شركتا “اتحاد الفنانين المصريين” و”السينما الحمراء” من أجل إنتاج فيلم ثاني وهو “القاهرة بغداد”.
ويعتبر الناقد السينمائي العراقي الشهير مهدي عباس تاريخ 3 ديسمبر 1949 هو التاريخ الحقيقي للسينما العراقية، حيث أنتجت حينها الكوادر الفنية العراقية –حسب قوله- فيلمًا عراقيًا كاملًا وهو فيلم “عالية وعصام” لتتشكل بعدها شركة دنيا الفن لصاحبها ياس علي الناصر والتي أنتجت فيلم “فتنة وحسن” الذي يحكي عن الريف العراقي، ويعد هذا الفيلم من أنجح الأفلام العراقية حيث حصد أرباح وصلت إلى خمسة أضعاف تكلفة إنتاجه.
وفي عام 1959 تأسست مصلحة السينما والمسرح لتدخل الدولة بشكل رسمي في هذا المجال، وقد أنتجت هذه المصلحة أربعة أفلام هي؛ فيلم “الجابي” الذي عُرض عام 1968 وفيلم “شايف خير” و”جسر الأحرار” وفيلم “الحارس” وهو أول فيلم عراقي يحصد جائزة دولية وقتذاك في مهرجان قرطاج، وبعد عام 1968 صدر قرار بدمج المصلحة مع المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون ليصدر قانون آخر خلال عام 1972 يقضي بفصل المصلحة عن الإذاعة.
فيلم “الحارس” وهو أول فيلم عراقي يحصد جائزة دولية وقتذاك في مهرجان قرطاج
وخلال عام 1975 صدر قانون بإنشاء المؤسسة العامة للسينما والمسرح وقد ركزت المؤسسة في البداية على إنتاج الأفلام الوثائقية واستطاع حينها الفيلم العراقي الوثائقي تصدر المشهد بجدارة إذ اشترك في الكثير من المهرجانات السينمائية الدولية، ووصل عدد المنتج منه إلى أكثر من 40 فيلم تناولت موضوعات ثقافية وعلمية وتربوية.
وفي الثمانينات كانت المؤسسة العامة للسينما والمسرح تملك جميع مقومات السينما الناجحة من أجهرة تصوير ومعدات واستديوهات تحميض وقد أثارت تلك المقومات إعجاب الكثير من الفنانين العرب الذين زاروا العراق حينها مثل المخرج المصري يوسف شاهين والممثل فريد شوقي والمخرج المصري رأفت الميهي وغيرهم، وقد أنتجت السينما العراقية في ذلك الوقت مجموعة كبيرة من الأفلام أشهرها؛ “شيئ من القوة” للمخرج العراقي كارلو هارتيون، وفيلم “البيت” لعبد الهادي الراوي، و”فائق يتزوج” و”حب في بغداد” و”عريس ولكن” بعدها جاءت فترة التسعينات أي مرحلة الحصار الاقتصادي على العراق وفرض عقوبات وُصفت بأنها الأقسى في تاريخ منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها لتتوقف بذلك عجلة الإنتاج السينمائي في العراق.
السينما ما بعد الغزو
في الأيام الأولى التي تلت سقوط نظام صدام حسين كان من المتوقع أن تسود في العراق ثقافة ليبرالية ولكن ماحدث هو صعود لقيم أصولية دينية متشددة جاءت كانعكاس أصيل لوجود من يمثلها في النخب السياسية والاجتماعية الجديدة وعليه فقد أغلقت السينما أبوابها وانطفأت أنوار شاشاتها وعلى غرارها أغُلقت أيضًا بل وأُحرقت بعض المسارح في أغلب المحافظات، وطال النسف محلات بيع اسطوانات الموسيقى والفيديو وحتى اليوم توجد صالات سينما في البصرة ثاني أكبر مدينة في العراق، ولا في الموصل التي عانت لسنوات طوال ما بعد عام 2003 من التطرف الديني والعرقي.
وقد ذكر المخرج العراقي الشهير سعد سلمان أن التطرف الديني والعرقي ساد في العراق بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين بسبب الاضطهاد الذي مارسه النظام السابق ضد النخبة الثقافية العراقية وعليه اضطر الكثير من المثقفين العراقيين مغادرة البلاد ليس بسبب تخلف المجتمع العراقي ولكن تحت وطأة استهداف السلطة السياسية لهم والتضييق عليهم دون رد فعل مناهض من المجتمع والذي اعتبره المخرج العراقي خلل في التركيبة السياسية والاجتماعية والأخلاقية في العراق.
فعلى الرغم من سقوط النظام البعثي الصدامي ظل الاضطهاد عالقًا في خلايا الجسم العراقي متجسدًا في الميشيليات التي نصبت نفسها بديلًا عن السلطة السياسية، وبجانب حظر عروض هوليوود في العراق كان هناك حظرًا من نوع آخر وهو الحظر العائلي؛ فبسبب صعود القيم المتشددة باتت السينما ممنوعة في أغلب بيوت العراقيين ومعظم الآباء يسارعون إلى تشفير لائحة القنوات السينمائية فور نصب معدات استقبال البث الفني وبالنسبة لباقي المواطنيين فتتكلف رداءة خدمة الإنترنت في العراق بجعل متابعة أي عمل فني أمرًا مستحيلًا.
سينما الشباب العراقيين وحصد الجوائز الدولية
مؤخرًا خرجت العراق قليلًا من ظلام المحظورات؛ فمن جهة فتحت بعض صالات العرض السينمائي أبوابها مرة أخرى في المراكز التجارية الكبيرة، ومن الجهة الأخرى اقتحمت السينما العراقية بعد مرحلة ركود طويلة أملتها الظروف السياسية والأمنية مجال الإبداع السينمائي وشاركت بالمهرجانات الدولية وذلك رغم صعوبات نقص التمويل وغياب البنية التحتية المناسبة وانعدام الدعم الحكومي.
وقد شاركت السينما العراقية في مهرجان دبي السينمائي عام 2013 بعدة أفلام روائية قصيرة مثل “خزان الحرب” ليحي العلاق، و”أطفال الله” لأحمد ياسين و”عيد ميلاد سعيد” لمهند حيال و”أحمر شفاه” للؤي فاضل و”أطفال الحرب” للمخرج ميدو علي، وقد فازت ثلاثة أفلام عراقية بجوائز المهرجان، كما مُنحت جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم العراقي “القاع” وفاز فيلم “أطفال الله” بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد.
بجانب حظر عروض هوليوود في العراق كان هناك حظرًا من نوع آخر وهو الحظر العائلي؛ فبسبب صعود القيم المتشددة باتت السينما ممنوعة في أغلب بيوت العراقيين
وفي السياق نفسه فاز المخرج العراقي مهند حيال في الدورة ال41 من مهرجان القاهرة السينمائي 2019بجائزتين؛ أفضل فيلم بمسابقة آفاق السينما العربية وأفضل ممثل وذلك عن فيلمه الروائي الطويل “شارع حيفا” والذي حصد أيضًا جائزة مرموقة بمهرجان بوسان في كوريا الجنوبية.
ويحكي الفيلم عن يوميات العنف الطائفي في بغداد خلال عام 2006 وخاصة الصراع المسلح بين الطوائف؛ ذلك الصراع الذي تحكم في الشارع العراقي وسيطر عليه في غياب تام للشرعية السياسية، خلال أحداث الفيلم نرى المجتمع البغداداي وهو غارق في الجثث: خمس مفخخات يوميًا وأكثر من 50 جثة مجهولة الهوية ومن أكثر المشاهد الموجعة في الفيلم ذلك الذي نرى فيه تكليف شركة متخخصة لانتشال الجثث من الشوارع في تواطؤ رهيب بين سلطة الاحتلال والسلطة الحاكمة آنذاك.
هناك أيضًا الكثير من المشاهد المرعبة: ممثلو الطوائف يتحكمون في الأرواح، أكثر من 20 قومية في البلاد والناس يموتون بأبشع الطرق، ولكن مع تصاعد وتيرة الأحداث داخل الفيلم ندرك أن العراق حُكم بسلطة مخيفة للغاية وهي السلطة البعثية ثم جاءت السلطة الدينية ثم حروب طائفية شرسة وتدخل من دول الجوار والدول الكبرى، ماذا كان يُنتظر من المواطن العراقي؟ هذا الفيلم مشهد مشترك في البلاد العربية.. نحن جميعًا بدرجة أو بأخرى مغمّسون بالعنف، مدمرون وبنية مجتمعاتنا منخورة.