تمثل مطابخ الشعوب طابعًا ثقافيًا لدولها في البلد غير الأصلي، حيث أنها تعبر عن أصالة هذه البلدان من خلال أطباقها، بل حتى كأنها سفارات لشعوبها لكن برائحة طيبة، وخير مثال على ذلك مدينة إسطنبول التي تضم بداخل شوارعها مطاعم من دول كثيرة؛ وللعربية نصيبها العظيم في ذلك، فهناك مناطق بأكملها مشهورة بكثرة العرب ومطاعمهم، بل حتى أن هذه المناطق باتت تُعرف سياحيًا بالمطابخ العربية، وتحمل أهمية للمواطن العربي.
عندما يتجول المواطن العربي في شوارع إسطنبول، وتحديدًا في منطقة الفاتح وأكسراي فإنه لن يشعر بالغربة مطلقًا؛ فكيف يحدث ذلك ورائحة الملوخية والمنسف والمندي والمسكوف والكسكس والكشري والمقلوبة والكبة والمشاوي العربية تنتشر في كل مكان؟!
وهنا قمنا بجولة داخل بعض المطاعم العربية، غير السورية هذه المرة، وإجراء الحديث مع أصحابها لمعرفة كيف تحافظ هذه المطاعم على التراث الشعبي الخاص بأكل بلدانها، وهل يشعر الزائر لهم بأنه زار هذا البلد؛ أم أنه يشعر بالغربة، وعن فئة زبائنهم، وهل يوجد تقارب بين الأكل العربي والأكل التركي ومدى تقبل الجمهور التركي للمطاعم العربي؟
المطعم اليمني.. عراقة حضرموت
تُعتبر المطابخ اليمنية بأطباقها المميزة والمتنوعة والتراثية، من أكثر المطابخ انتشارًا وشعبية على مستوى العالم كله، وكذلك الحال في إسطنبول، حيث تلقى المطاعم اليمنية إقبالًا كبيرًا من الجاليات العربية، والمواطنين الأتراك، وغيرهم من السياح، ومن أشهر المطاعم اليمنية المنتشرة في إسطنبول “مطعم حضرموت اليمن”، و”مطعم باب اليمن السعيد”، و”المطبخ اليمني”.
وفي زيارة لمطعم حضرموت في منطقة الفاتح؛ أجرت نون بوست حديثًا مع الإداري في المطعم السيد اليمني عارف هلال، الذي قال: “قمنا بافتتاح أول فرع من مطاعم حضرموت في تركيا في منطقة الفاتح نهاية عام 2014، حيث واجهنا الكثير من الصعوبات في البداية من ناحية توفير الطباخين اليمنين الماهرين في أكلنا الشعبي المتنوع والواسع، والصعب في الوقت ذاته على غير اليمنين من أن يتقنوا طبخه، ثم وجدنا العديد من الطباخين اليمنين الذين يتقنون صنع الأكل ليشعر الضيف كأنه في اليمن تمامًا”.
تم افتتاح هذا الفرع الثاني العام الماضي، الذي يقدم الأكل اليمني مئة في المئة؛ من ناحية البيئة العامة والديكور في المطعم يمني، فحرص القائمون عليه بتخصيص لكل زاوية معلمًا من معالم اليمن؛ فهنا شبام حضرموت التي تعتبر أول ناطحة سحاب في التاريخ، وهنا معبد سبأ، ثم دار الحجر وباب اليمن وقصر سيئون، وشبوة اليمن المنطقة الصحراوية، ليشاهد الضيف جميع الثقافات اليمنية من شمالها لجنوبها مرورًا بتاريخها العريق.
يزور مطعم حضرموت شخصيات يمنية وحتى من القنصليات العربية كما يأتي للمطعم زوار بشكل خاص من المدن التركية
أما عن الهدف من ذلك، فيجيب هلال: “هو جعل الضيوف اليمنين أو العرب أو الأجانب والسياح أن يدخلوا مطاعمنا كأنهم دخلوا اليمن فعلًا، فقد مزجنا بين الديكور الحديث والقديم، وبهذه الطريقة نحاول المحافظة على التراث اليمني؛ سواء من ناحية الأكل أو الديكور، فتجد الجلسات العربية القديمة المرتبطة بالقهوة العربية”.
يزور مطعم حضرموت شخصيات يمنية من رجال أعمال لقضاء أعمالهم وصفقاتهم ومن السفارة والقنصلية، وحتى من القنصليات اليمنية والعربية الذين يلبي لهم المطعم ولائمهم واحتياجاتهم، كما يأتي للمطعم زوار بشكل خاص من المدن التركية.
أما بالنسبة للجمهور التركي فيخبرنا هلال بأنهم يشكلون حوالي 10% من ضيوف المطعم، والسبب في ذلك برأيه هو انطباع الأتراك المسبق بأن المطابخ العربية غير نظيفة وأن طبقهم يُقدم بكميات مسرفة، فضلًا عن كونه شعبًا متحفظًا بالنسبة للثقافات الأخرى -على عكس باقي الشعوب-، لكن ما أن يأتي الضيف التركي إلى المطعم حتى يُغير وجهة نظره تمامًا بصورة إيجابية ويصبح زبونًا دائمًا، فالقضية هنا كيف يأتي الضيف التركي لأول مرة الذي يعشق الأرز أصلًا.
سبب نجاح مطعم حضرموت ووجوده في قائمة السياح، هو أن المطعم يمني بكادره وجوه، وأكله متنوع أكثر من التركي، كما أن المندي مثلًا له طرقه وتوابله السرية التي يحضرونها من مصدرها في اليمن، على الرغم من صعوبة النقل وزيادة التكاليف، إلا أن المطعم يحافظ على أسعار مناسبة لأصحاب الدخل المحدود، حتى أنه يتعامل مع مزارع خصيصًا لتربية اللحوم الصغيرة الغير متوفرة بتركيا، وكذلك الحليب والأرز والشاي القهوة يحضروها بشكل خاص من اليمن، كما أن الأكل لا يقدم إلا طازجًا.
يختتم هلال حديثه مع نون بوست: “رسالتنا اليمنية الوطنية هي باختصار؛ اذا أنت يمني وقمت بافتتاح مطعم أو أي عمل آخر يعبر عن اليمن؛ فأتقنه لأنك سفير وواجهة لليمن السعيد، سواء كان في تعاملك أو إدارتك أو مهارتك”.
مطعم كايرو.. أنت في مصر
وسط أغاني أم كلثوم وعبد الحليم وأحمد عدوية، وعربية الكشري ورائحة التقلية الذكية تملئ المكان والعمال يرتدون الزي الإسكندراني ولوجة عربية الفول؛ أجرينا حديثًا مع صاحب مطعم كايرو في منطقة شيشلي المهندس المصري مجدي حجاب، للتعرف على المطعم المصري وما هي أطباقه وطبيعة زبائنه.
يخبرنا السيد حجاب أنه اتخذ أسلوبه الخاص من أول يوم لافتتاحه المطعم منذ عام ونصف بأن يكون محتوى مطعمه بأكمله يحمل الطابع المصري الأصيل بامتياز، بل ومذاق الطعام كأنه أكل مصري بيتي، ليس التجاري، وهذا ما يجمع عليه جمهور هذا المطعم، فضلًا عن قائمة الطعام كلها مصرية، فتجد المشاوي والأسماك والمأكولات الشعبية في مكان واحد.
أهم ما في الطعام المصري هو أن يؤكل “بالعيش البلدي”، وهذا ما حرص عليه السيد حجاب في أن يختص مطعمه في خبز عيش الردة البلدي الذي يؤكل مع جميع الأصناف لتغميس الملوخية مثلًا، والخبز الشامي كما يسمونه لعمل سانودتشات الفول والطعمية والعيش الفينو الخاص بالكبدة الإسكندراني والمخ البانيه والكفتة، وفطاير منطقة الشرقية بالسجق، لن تجد هذا الشيء في تركيا إلا في مطعم كايرو.
أما عن تقسيمة الزبائن، فيخبرنا حجاب أن فئة المصريين حوالي 25% من جمهور المطعم، و10% أتراك، والباقي من العرب والسياح الأجانب، وهناك نوع من الزبائن يدخل المطعم ثلاثة مرات في اليوم، ويأتون من مناطق بعيدة أو من خارج إسطنبول.
بالنسبة للجمهور التركي، فهي المشكلة بحد ذاتها كما حضرموت، وهي أن الجمهور متحفظ للثقافات الأخرى، لكن بمجرد أن تذوق الأكل المصري أصبح زبونًا دائمًا، مع ملاحظة أن الأكل المصري قريب جدًا للتركي خصوصًا في جزئية الصوصات لكنه متنوع أكثر، بحسب حجاب الذي يرى أن المطبخ التركي هو أصل المطبخ الشرقي، لكن كل بلد طور عليه بجزئيته.
وهنا يقول حجاب: “غالبًا ما يكون الزبون التركي الزائر لمطعمنا هو من الفئة المثقفة والمتحدث بالإنجليزية، التي تحب التجربة، ويرى مدى تعدد الخيارات هنا بدون أن يشعر بالملل، ومجى تشابه الأكل المصري والتركي لكن مع ملاحظة الفرق كالمسقعة مثلًا تركية الأصل لكن المصرية تفوقت عليها”، ويكمل حجاب: “كما هناك بعض الأتراك يأتون إلينا متشوقين لتذوق الأكل المصري، لأن آبائهم عاشوا فترة في مصر، وهنا للعامل الثقافي والتاريخي دوره”.
بالنسبة لسبب نجاح كايرو، فهو يكمن في وضوح الرؤية والسير على خطاها والصبر على الانتشار بهدف نشر الثقافة المصرية في تركيا، وهذا ما يرى حجاب أنه دوره، فقد قام بتصميم ورق للمائدة تضم 25 صورة فيها معالم سياحية مصرية، ليختتم حجاب حديثه بقوله: “مصر جميلة وتستحق أن نقدم لها كل ما نستطيع”.
مطعم كرم.. فلسطيني بالنكهة الغزاوية
تضم مناطق إسطنبول الهامة عدة مطاعم فلسطينية، بعضها أصبح مشهورًا كمقصدًا سياحيًا في تركيا، ومن أحد المطاعم الفلسطينية المهمة هو مطعم كرم في منطقة أكسراي حيث ترى التجمع الفلسطيني هناك حول الأطباق التي لا يعرفها سوى أهالي فلسطين.
أمام سيخ الشاورما الذي يتم طبخه على طريقة المطبخ الغزاوي؛ تحدثنا مع الإداري في مطعم كرم السيد ماجد الريس حول الأطباق الذي يقدمها المطعم، فهو يقدم الأكلات الشعبية التراثية في فلسطين على أصولها كالمفتول والمسخن والمشاوي، والأطباق الغزاوية كالسماقية والفول والحمص والكنافة العربية، والكنافة النابلسية بالجبنة العكاوي، فضلًا عن الشاورما بالطحينية كما يعشقها أهالي فلسطين، وذلك بحيث يأتي الزبون ويجد كل ما يرغب على طريقة بلده.
يقول الريس: “تعتبر فلسطين قريبة من جميع الثقافات والحضارات والدول العربية المجاورة، من ناحية الثقافة واللهجة والمطبخ، حيث أنها مرتبطة مع كل بلد على حدا، فجزء من أكلنا شامي وأردني وآخر خليجي كالكبسة والمندي، وآخر مشترك مع المطبخ المصري والمغاربي وكذلك التركي، الأمر الذي يجعلنا مقبولين عند الجميع”.
وبذلك فإن جمهور المطعم فلسطيني ومن الدول العربية وكذلك هناك جمهور تركي يصبح زبونًا للمطعم بمجرد تجربته لنوع جديد قريب من أكله، فعندما يجرب الشاورما مثلًا القريبة من التركية لكن ببهارات فلسطينية، تعجبه التجربة ويقدم على تجربة باقي الأصناف.
يرى الريس أن رسالة أي فلسطيني في أي مكان في العالم “هي نقل أفضل صورة ممكنة عن الشعب الفلسطيني، ومجال الطعام هو من أهم المجالات في بلد متعدد الجنسيات والسياح كتركيا، لنشر ثقافة الطعام الفلسطيني الذي تتم محاربته أيضًا”.
المطبخ الموصلي.. عبق التاريخ العراقي
المطبخ العراقي حكاية أخرى، حيث يُعّد مطبخ بلاد الرافدين من أقدم المطابخ في العالم، وله تاريخ يعود لأكثر من 6 آلاف سنة، وهذا ما يوصف به مطعم الموصلي في منطقة العراق بعبارته: “أطباقنا تعكس الثقافة السومرية، الأكدية والبابلية والآشورية ولطالما كانت هذه الحضارات هي مهد لكثير من الأمور التي نستخدمها في يومنا هذا، بالإضافة إلى لذة الطعام التي اعتادت هذه الحضارات أن تقدمه للعالم”.
وفي حديثنا مع السيد علي زين أحد شركاء المطعم حول رسالتهم الواضحة والعميقة، يقول: “في المطبخ الموصلي نضمن لضيوفنا الأعزاء أنّهم سيعيشون تجربة مميزة وفريدة من نوعها تجمع بين جمال الماضي والحاضر، حيث يحافظ مطعمنا على التراث الشعبي عن طريق الطعم المتميز وطريقة تقديم الطعام والضيافة والأجواء العراقية، وخبز التنور والشاي العراقي حيث يأخذنا إلى بلدنا العزيز”.
من يزور المطعم الموصلي يشاهد الديكور في طابق مخصص مصمم على شكل الحضارة الأشورية، وكذلك الرسومات داخل المطعم لشخصيات عراقية فنية وثقافية، كما أن المطعم حريص دمج الزبائن مع ما يحدث في العراق من أحداث كمباريات كرة القدم للمنتخب الوطني، أو عزف وغناء الأغاني التراثية العراقية.
أما عن أحد أسباب نجاح المطبخ الموصلي، فهو حرصه بتقديم الطعم الأصيل وطبخ البيت بأيادي الطباخات الموصليات والأكلات الطيبة مثل الدولمة والكبة والباجة والعروك الموصلي والخبز الحار، وهذا ما جعله أحد أهم المطاعم في إسطنبول على صعيد السياح والمقيمين، ومن الأتراك أيضًا.
ختامًا فيما يخص المطاعم السورية، فهناك حقيقة يدركها الجميع أن بعد الأحداث التي حدثت في سوريا وقدوم أعداد كبيرة إلى تركيا، وتجمهر جزء منهم في منطقة الفاتح وما حولها، ليفتتحوا مطاعمهم ويجعلوا هذه المنطقة غنية بمشاريع المطاعم من مختلف الجنسيات العربية، حتى أصبحت منطقة سياحية عربية مخصصة للأطعمة داخل تركيا، أصبحت هذه المطاعم تمثل الحضن لأبناء جنسياتها.