لم تعد الأخبار التي تتناول نقل أموال المسؤولين والحكام ورجال الأعمال العرب للبنوك الخارجية من الأخبار الملفتة للانتباه، وذلك بعدما فقدت قيمتها جراء ما تحولت إلى ورد شبه يومي، حتى باتت مثل هذه النوعية من الأخبار أمرًا عادية تطالعنا به الصحف والمواقع الإخبارية صباح مساء.
حزمة من الدوافع تقف وراء هذه الخطوة والتي في الغالب تنحصر بين الخوف من ضعف الاستقرار السياسي والاقتصادي ومن ثم احتمالية التعرض للمصادرة أو الابتزاز كما حدث مؤخرًا في بعض الدول العربية، أو نتيجة الحصول على هذه الأموال بطرق غير شرعية ومن ثم لابد من نقلها خارج البلاد خشية مصادرتها من قبل سلطات الدولة.
وتحتل البنوك السويسرية والأمريكية والبريطانية والفرنسية النصيب الأكبر من إيداع الأموال المهربة من الدول العربية، ورغم نسبة الأمان التي تحققها تلك البنوك إلا أنه في أوقات الصراعات وتغير الأنظمة من الممكن ألا تكون تلك الثروات في مأمن، وهو ما حدث بعد سقوط نظامي صدام حسين ومعمر القذافي، فعلى سبيل المثال تم تجميد ما يقرب من 70 مليار دولار حجم أموال صندوق الثروة السيادي الليبي لدى الغرب.
في تقرير مطول لـ “دويتشه فيله” تناول ملف الأموال العربية المهربة للخارج، نقل عن الغرفة العربية السويسرية للتجارة والصناعة في جنيف تقديرها لحجم الأموال العربية المنهوبة والمخفية في البنوك السويسرية بنحو 200 مليار دولار، فيما قدرت إجمالي المبالغ العربية المودعة في الخارج بصفة عامة بحوالي عدة تريليونات من الدولارات.
التقرير استعرض أبرز الوجهات التي تحتضن الأموال العربية إلى جانب سويسرا، منها على سبيل المثال جزر البحر الكاريبي البريطانية وليشتنشتاين وولايات نيفادا وجنوب داكوتا ووايومنغ وديلاوير، وهي الولايات التي تتمتع بـ”بإعفاءات ضريبية”، لافتا إلى أن قسمًا كبيرًا من هذه الأموال يعود إلى حكام ورجال أعمال فاسدين حصلوا على ثرواتهم بطرق غير مشروعة على مدار عقود طويلة مضت، ليبقى السؤال: كيف يمكن استرداد هذه المليارات المهربة؟
الفساد العربي
تتصدر البلدان العربية قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم بحسب تقرير منظمة الشفافية 2018 والذي كشف أن الفساد السياسي يعتبر التحدي الرئيس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالرغم من جهود الحكومات في مكافحة الفساد، منوها إلى أن العديد من الحكومات العربية تتأثر سياساتها وتتحدد ميزانياتها ومصارف أموالها بنفوذ شخصيات تعمل على مصالحها الشخصية على حساب المواطنين.
التقرير السنوي للمنظمة أضاف أنه بدون إرادة سياسية تعمل على مكافحة الفساد في القطاع العام، فإن بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا تجهض حقوق شعوبها، ومن ثم فمن المتوقع زيادة معدلات الفساد بشتى أنواعه حال فقدان تلك الإرادة التي تحتاج إلى نظما حاكمة تقدم مصالح شعوبها على مصالحها الشخصية.
في لبنان يقدَّر حجم الأموال التي وقعت مباشرةً ضحية الفساد وحده بنحو 50 إلى 60 مليار دولار خلال السنوات العشر الماضية، أي ما يعادل نحو 70 بالمائة من مجمل الدَّين العام
وفي التفاصيل، كانت الصومال الأكثر فسادًا حيث احتلت المرتبة الأخيرة (180)، وسبقتها سوريا واليمن حيث تشاركت الدولتان في المركز (178)، فيما احتلت الإمارات المركز الـ (23) ثم قطر في المركز الـ (33) ليكونا بذلك أقل الدول العربية فسادًا، وقد أرجع التقرير تقدم الدولتين عن باقي البلدان الأخرى في المنطقة، إلى أن ذلك مرتبط بشكل أكبر بفاعلية الإدارة العامة، والقدرة الإحصائية، ومستوى التنمية البشرية، والناتج المحلي الإجمالي، والصحة، والتعليم.
فيما حلت مصر ولبنان والعراق، في مراكز متأخرة من المؤشر، نظرًا لتحديات عدم الاستقرار والنزاع الدائر فيها، بينما سجلت اليمن وسوريا أشد انخفاض في مؤشر الفساد لعام 2018، ويعكس هذا التغيير العلاقة المباشرة بين الحرب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والفساد، بحسب التقرير.
وبجانب مئات المليارات المهربة من مصر، يرى القيادي بقوى الحرية والتغيير السودانية، محمد عصمت أن جملة الأموال المنهوبة لنظام البشير بماليزيا تقدر بمبلغ (٦٤) مليار دولار يمكنها أن تغطي مديونية السودان وتوفر ٩ مليارات دولار تمثل احتياطيًا نقديًا مثاليًا للبنك المركزي، منوهًا إلى وجود اتجاه عالمي لمعاملة أموال الشعوب المنهوبة كمعاملة الأموال القذرة، على حد قوله.
أما في الجزائر فيقدر الخبير المالي والاقتصادي الدولي “الدكتور سليمان ناصر” حجم الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج من قبل كبار المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال بطريقة غير مشروعة خلال 20 سنة الماضية بأنها تتراوح من 300 إلى 350 مليار دولار.
وفي لبنان يقدَّر حجم الأموال التي وقعت مباشرةً ضحية الفساد وحده بنحو 50 إلى 60 مليار دولار خلال السنوات العشر الماضية، أي ما يعادل نحو 70 بالمائة من مجمل الدَّين العام الذي يصل إلى أكثر من 150 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني، وهو الرقم الذي مثل صدمة كبيرة للشارع اللبناني.
الأموال المنهوبة المهربة إلى الخارج، يصعب استرجاعها في كون الكثير منها مسجل بأسماء مستعارة يصعب الوصول إلى أصحابها
عراقيًا.. يشير عضو لجنة النزاهة النيابية العراقية، جمعة البهادلي، إلى “وجود اكثر من 6 مليارات دولار من الأموال العراقية المهربة إلى الخارج في زمن النظام البائد، إلا أن هناك مشاكل كثيرة تقف حائلاً دون استرداد تلك المبالغ، ومنها ممانعة بعض الدول العربية والأجنبية، لأن بعضها مسجلة بأسماء مستعارة في زمن النظام السابق”.
وحسب دراسة صادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية، فإن كافة التقديرات تشير إلى أن مجموع قيمة ما تم تهريبه من دول الربيع العربي لصالح أنظمة مبارك وعلي عبدالله صالح والقذافي وبن علي، يقترب من 500 مليار دولار.
ما مصير تلك الأموال؟
منذ تنحي الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك عن الحكم في 2011 تم تشكيل 5 لجان (رسمية وشعبية) لمتابعة استرداد الأموال المهربة بالخارج والتي قدرتها بعض المصادر بـ 70 مليار دولار، وبصرف النظر عن صحة هذا الرقم إلا أنه وبعد مرور مايقرب من 8 سنوات على قرار السلطات السويسرية تجميد أرصدة مبارك في أعقاب سقوط نظامه لم تحرز تلك اللجان أي خطوة إيجابية تذكر.
اللجان التي تشكلت مع حكومة كمال الجنزورى بعد الثورة، وانتهت بالتشكيل الجديد الذي أجرى عليها خلال العهد الحالى، كلفت موازنة الدولة أكثر من 40 مليون جنيه، وفق ما ذكر المحامي الشخصي لمبارك، فريد الديب، مضيفًا فى تصريحات إعلامية له أن “اللجنة كانت بتصرّف الملايين على السفر للخارج، وعلى ترجمة أوراق وحاجات ملهاش لازمة، حاجات أي كلام، والناس قاعدة مستنية، وفي الآخر مفيش حاجة”.
السنوات الماضية أثبتت من خلال عشرات التجارب أن استعادة الأموال التي تم تجميدها في الخارج مهمة شبه مستحيلة، وذلك لأكثر من سبب في مقدمتها غياب الشفافية ووجود عوائق قانونية وسياسية كثيرة أمام ذلك، إضافة إلى أن مصالح الدول التي تحتفظ بهذه الأموال تتعارض مع استرجاعها، وعليه فإنها تفضل التصرف بها إلى حين.
من جهته يرى الخبير الاقتصادي الجزائري، كمال رزيق، أن الأموال المنهوبة المهربة إلى الخارج، يصعب استرجاعها في كون الكثير منها مسجل بأسماء مستعارة يصعب الوصول إلى أصحابها، مؤكدا أن الأموال المسجلة بأسماء أصحابها يمكن استعادتها بتفعيل الاتفاقات الدولية لمكافحة الفساد.
الاتفاقيات الثنائية
يبدو أن الدروب القانونية الرسمية التقليدية ماعادت تؤتي ثمارها في ظل التعقيدات والتشابكات التي تحول دون تحقيق أي منجز يمكن من خلاله استرداد تلك الأموال، ومن ثم بات الحديث عن إستراتيجيات أخرى أكثر فاعلية، يأتي في مقدمتها الاتفاقيات الثنائية بين الدول.
ويعد الاتفاق اللبناني السويسري على تبادل المعلومات الضريبية النموذج الأكثر وضوحًا لتلك الاستراتيجية الجديدة التي تعد خطوة هامة لمكافحة غسيل الأموال على مستوى البلدين ودول عربية، فبعد مراسلات طويلة امتدت بين الدولتين وافقت السلطات السويسرية على إدراج لبنان ضمن لائحة الدول المعتمدة من قبلها لتبادل المعلومات الضريبية.
وبحسب وزير المالية اللبناني حسن خليل، فإن تلك الاتفاقية تحقق “المساعدة على مكافحة الفساد وتبييض الأموال المنهوبة المشتبه بوجودها في الخارج”، كما أنها تكتسب أهمية أكبر مع استمرار احتجاجات اللبنانيين على الفساد المستشري برموزه السياسية الطائفية وأوجهه المتعددة.
خطوة كهذه حال نجاحها فإن من شأنها أن تحسن الأوضاع نسبيًا لدى اللبنانيين، فقرابة 50 إلى 60 مليار دولار حجم إجمالي تلك الأموال المهربة والذي يمثل كما ذُكر سابقًا 70 بالمائة من مجمل الدَّين العام من الممكن أن ينتشل البلاد من مأزقها الحالي ويعيد الأمور إلى وضعها الطبيعي.
ورغم التقليل من أهمية هذا الاتفاق فإن النتائج المتوقعة منه لا تقتصر على الداخل اللبناني فحسب، بل سيكون لها امتداد عربي طويل على مستوى سرقة ونهب المال العام، كونه إشارة تحذير إلى الفاسدين وسارقي الأموال العامة تفيدهم بأن أعين المصالح الضريبية تلاحق أموالهم حتى ولو كانت في كنف بلدان تقدس السرية المصرفية.