شهد العراق في عهد الخلافة العباسية نهضة عمرانية كبيرة، إذ كانت بغداد عاصمة الدنيا ومقر العلم والمعرفة والعمران، حيث شجع الخلفاء حينها على بناء واستحداث المدن وازدهارها.
تنوعت العمارة العباسية في العراق ما بين المساجد والرباط والمدارس والأضرحة والحمامات والأسواق والخانات والتكايا والقصور والدور والمطابع والأسوار والقلاع، وفي الأسطر التالية نذهب في رحلة إلى أهم ما أقامته الحضارة العباسية في العراق وأبرز آثارها الباقية إلى اليوم.
عاصمة الدولة العباسية
تعد بغداد مدينة عباسية بحتة حيث بناها ثاني خلفاء بني العباس “أبو جعفر المنصور” وجعلها عاصمة للخلافة العباسيّة عام 762 للميلاد، إذ لا تزال بعض آثار العباسيين شاخصة حتى يومنا هذا على الرغم من الإهمال والخراب الذي عمها، فالمدرسة المستنصرية تعد أبرز معالم بغداد التي كان العباسيون قد شيدوها ولا تزال آثارها واضحة.
خبير التاريخ الاسلامي “محمد رؤوف” يرى في حديثه لـ “نون بوست” أن الآثار العباسية في العراق كثيرة جدًا، لكن وبفعل الإهمال والحروب التي شهدها العراق على مدى التاريخ، فإن الكثير من المعالم التاريخية للدولة العباسية اندثرت ولم يبق منها الشيء الكثير، إذ فقدت بغداد جل آثارها العباسية ولم يبق منها سوى عدد قليل منها أبرزها المدارس المستنصرية التي تعاني هي الأخرى من إهمال كبير وبعض الآثار المتبعثرة هنا وهناك.
ويضيف رؤوف أن هناك بعض الشواخص العباسية الأخرى كمئذنة سوق الغزل التي كانت تتوسط مسجدًا كان يسمى قبل عشرات السنين بمسجد الخلفاء، إلا أنه لم يعد هناك وجود لهذا المسجد وظلت المنارة منتصبة بين مجموعة من الأزقة والأسواق، إضافة إلى آثار أخرى في بغداد أيضًا كالجدارات المبنية بالآجر والتي لا تزال بعضها موجودة بالقرب من المبنى القديم لوزارة الدفاع.
سامراء ومئذنتها الملوية
وإلى سامراء التي تقع على ضفاف نهر دجلة وعلى بعد 130 كيلومترًا شمال العاصمة العراقية بغداد، فقد كانت مقرًا وعاصمة للخلافة العباسية في فترة تناهز الـ 6 عقود بعدما شيدها الخليفة العباسي “المعتصم بالله” عام 221 للهجرة، وشهدت الدولة العباسية حينها مد نفوذها من تونس إلى وسط آسيا. تضم مدينة سامراء ابتكارات هندسية وفنية ابتدعها مهندسو الدولة العباسية قبل أن تنتقل إلى أقاليم العالم الإسلامي، إذ لا تزال آثار الدولة العباسية شاخصة في المدينة في موقع المسجد الجامع ومئذنته الملوية الشهيرة، إلا أن نحو 80% من آثار العباسيين في سامراء لا تزال مدفونة ولم يتم التنقيب عنها حتى الآن.
كما تضم سامراء آثارًا عباسية أخرى طالها الخراب، كسورها الذي كان يتكون من 19 برجًا و4 أبواب، منها باب بغداد الذي بقي صامدًا حتى 1936، إضافة إلى قصرالخلافة العباسية وجامع أبي دلف.
وقي الموصل، التي تقل فيها الآثار العباسية التي لا تزال قائمة رغم أن المدينة كانت عاصمة للعديد من الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، فهناك آثار الحضر والنمرود والآشوريين وغيرها، إلا أن الآثار العباسية فيها اندثرت إلى حد كبير، ولعل القنطرة العباسية التي تقع على بعد 10 كيلومترات جنوب سد الموصل على نهر المر في منطقة أسكي موصل أكثر الآثار العباسية التي لا تزال قائمة لكنها معرضة للسقوط، فهذه القنطرة تعد من عجائب الهندسة المعمارية، فقد بنيت من صخور كبيرة جدًا وترتفع نحو عشرين مترًا عن سطح الارض وبعرض خمسة أمتار على شكل قوس دقيق في تصميمه.
ويحذر الباحث في مجال الآثار “عمر كريم” من اختفاء كثير من المعالم الأثرية في محافظة نينوى ومدينة الموصل نتيجة الإهمال الحكومي، مبينًا أن القنطرة العباسية تعد من المواقع الأثرية البارزة في الموصل، وأن ما أصابها من ضرر جراء الأمطار يمثل امتدادًا لإهمال السنوات السابقة.
كما لا يزال الجسر العباسي في منطقة زاخو التابعة لمحافظة دهوك العراقية شامخًا حتى الآن، وقد اختلف المؤرخون في تحديد فترة إنشائه، إذ تقول بعض المصادر أنه يعود إلى العهد العباسي عندما أوعز الأمير حسن في سنة 935 للميلاد إلى نائبه في زاخو الأمير ناصرالدين العباسي أن ينشئ على نهر الخابور جسرًا لتسهيل عملية تموين الجيش وتأمين المواصلات إذ استغرق بناؤه أكثر من عام.
قصر الأخيضر
يقع حصن أو قصر الأخيضر في بادية محافظة كربلاء ويبعد عن النجف قرابة الـ 70 كيلومترًا إلى الغرب بينما يبعد نحو 100 كيلومتر إلى الجنوب من بغداد، الحصن أو القصر بني على شكل مستطيل بطول يصل إلى 176 مترًا، وعرض مشابه تقريبًا، وبسبب بناءه في البادية ولأغراض دفاعية، فقد استخدمت الحجارة والنورة في تعزيز جدرانه الخارجية ليصل سمكها إلى ما يقرب من 5 أمتار، ويضم الحصن داخله عشرات القاعات والأروقة.
اختلف المؤرخون في تاريخ بنائه، إلا أن روايات متطابقة تشير إلى أنه بني في العصر العباسي من قبل الخليفة أبو العباس السفاح في عام 161 للهجرة.
يقول الباحث في مجال الآثار العراقية “سعد موسى” إن اوضاع العراق الأمنية والإهمال خلال السنوات الماضية لم تمنع السائحين من المجيء إلى قصر الأخيضر للتمتع بما يحتويه من هندسة مكنته من الصمود طيلة القرون الماضية، مضيفًا أن القصر أو الحصن يتمتع بحالة جيدة من الناحية المعمارية وأن العمل على صيانته وديمومته سيحوله إلى معلم سياحي بارز ومتكامل.
قنطرة بهرز
تقع قنطرة بهرز على نهر خرسان داخل مدينة بهرز (10 كيلومترا جنوب مدينة بعقوبة) في محافظة ديإلى شرق العراق، إذ تتكون هذه القنطرة التي لا تزال قائمة حتى الآن من ثلاث دعامات، وتشير المراجع التاريخية إلى أن بناءها يعود إلى العهد العباسي المتأخر.
رئيس مجلس ناحية بهرز “عبد المطلب السامرائي” يقول إنه تم بناء هذه القنطرة قبل أكثر من ألف عام، وكانت القنطرة نقطة رئيسية لتدفق الجيوش نحو الشرق من أجل الفتوحات العسكرية، إضافة إلى اتخاذها ممرًا رئيسيًا سلكته القوافل التجارية القادمة من بلاد فارس صوب بغداد وبقية مدن العراق فيما يعرف قديمًا بطريق الحرير.
ويكشف السامرائي عن أن عملية ترميم وصيانة جرت للقنطرة قبل سنوات لكنها فشلت، الأمر الذي أبقى حالها السيء على وضعه.
مدينة عباسية مندثرة
تشير المراجع التاريخية إلى أن أول خلفاء بني العباس كان قد بنى مدينة جديدة اتخذها عاصمة للدولة العباسية في أول نشأتها وهي مدينة الهاشمية أو “هاشمية الأنبار”، وهي أول عاصمة للخلافة العباسية. وقد أشار إلى مدينة الهاشمية اليعقوبي في كتابه (البلدان) بقوله: “بنى السفاح مدينة على شاطئ الفرات أطلق عليها اسم الهاشمية نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف”، إذ انتقل إليها سنة 134هـ.
تقع المدينة على بعد 10 فراسخ (58 كيلومترا) عن بغداد، ولا تزال بعض أطلال المدينة شاخصة في شمال غربي مدينة الفلوجة على بعد 4 كيلومترات منها.
لم يتبق شيء يذكر من مدينة الهاشمية لعوامل عدة، كان من أبرزها الصراعات الداخلية التي حدثت بين خلفاء بني العباس ولعهود طويلة، الأمر الذي ساهم في هجرانها من أهلها ثم دمارها بحسب الكثير من المراجع التاريخية.
كانت هذه إطلالة سريعة على أهم الأوابد التاريخية والأثرية التي خلفتها الحقبة العثمانية في العراق، والتي تشهد على إرث البلاد الثقافي الممتد والذي يستحق أن تبذل السلطات جهودًا جادة في العناية به وحفظه من أعمال النهب والتدمير والخراب وترميم ما يحتاج إلى ترميم منه، فضلًا عن تسويقه وتقديمه للجمهور المحلي والعالمي كجزء من الهوية الخالدة لبلاد الرافدين.