حلقت في فضاء الأدب لتلامس بمشاعرها معاناة المعتقلات السوريات داخل سجون الأسد، فنجحت في إيصال قضيتها منذ تجربتها الأولى، بعد أن كتبت عن أحلامها، عن هويتها، وعن مدينة حمص التي هجرت منها قسرًا، إنها الكاتبة السورية “وفاء علوش” التي فازت روايتها “كومة قش” في الدورة الخامسة من مسابقة المؤسسة العامة للحي الثقافي “كتارا” عن فئة الرويات غير المنشورة والتي وزعت جوائزها في حفل ختام مهرجان الرواية العربية السنوي في العاصمة القطرية الدوحة، تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
الرواية الأولى
نون بوست أجرى حوارًا خاصًا مع الكاتبة السورية الشابة والوجه الجديد على الساحة الروائية “وفاء علوش” في تجربتها الأولى للرواية “كومة قش” والتي سلطت الضوء على وضع المعتقلات في سجون النظام السوري، والأزمات والتحولات النفسية التي تجتازها النساء السوريات وحجم الأذى النفسي والجسدي وحتى الاجتماعي الذي عانين منه، وتشير إلى التحولات الاجتماعية الحاصلة في المجتمع السوري في مرحلة ما بعد ثورة 15 آذار.
لم تولد “علوش” في بيئة بعيدة عن فنون الأدب، فقد نشأت في أسرة محبة للشعر والقصص وتتهم بالقراءة، تقول: “جدي كان يكتب الشعر وأبي كان قارئًا نهمًا ويهتم بمكتبته بشكل كبير، لدي أختان تكتبان الشعر العمودي والتفعيلة، وأخت تعمل في الترجمة وأخرى تعمل في النقد فيما اتجهت أنا إلى كتابة القصة والنصوص النثرية والقصة القصيرة”.
أكتب لحقوق المرأة
تشجعت “علوش” وشقت طريقها بنفسها فكتبت نصوص نثرية وقصص قصيرة ومقالات رأي ونشرتها في المواقع الإلكترونية، كما كتبت في مجال تمكين المرأة والعمل على المساواة الجندرية بين الجنسين، لكن “كومة قش” كان عملها الروائي الأول، مشيرةً إلى أنه كان التحدي الأصعب الذي خاضته طيلة حياتها، لتنتفل إلى كتاباتها الروائية الموهبة المدفونة منذ سنوات على حد تعبيرها.
أكتب للمرأة لأنني أشعر بمعاناتها، ولأن صوت المرأة ما زال غير مسموع على الرغم من كثرة الادعاءات التي تقول بغير ذلك، فمسألة حقوق المرأة ما زالت تحتاج كثيرًا من الوقت والجهد لتحقيق المساواة الحقيقية
درست “علوش” القانون في جامعة دمشق وتابعت الدراسات العليا في مجال الإدارة في المعهد الوطني للإدارة العامة في دمشق، تصف علوش تلك الفترة بالقول: “تربيت في حمص وبعد الثورة السورية انتقلت بين أكثر من مكان إلى أن خرجت من سوريا في عام 2017 لأستقر في مصر وبالتحديد بالقاهرة، عملت هنا مدربة دراما مع فريق يعمل مع المنظمات الدولية ضمن برنامج لتحسين بيئة اندماج الأطفال اللاجئين في مصر تعليميًا، وعملت محررة أخبار في مواقع إخبارية”.
وتقول: “أكتب للمرأة لأنني أشعر بمعاناتها، ولأن صوت المرأة ما زال غير مسموع على الرغم من كثرة الادعاءات التي تقول غير ذلك، فمسألة حقوق المرأة ما زالت تحتاج كثيرًا من الوقت والجهد لتحقيق المساواة الحقيقية وليس الصورية، هناك كثير من المواضيع القابلة للنقاش روائيًا، في المجالات الاجتماعية والسياسية، غير أن هناك أحداثًا قد تصبح ذات أهمية أكبر لدى الكتاب كونها أكثر تأثيرًا فيهم، مثل مسألة الحرب التي أصبحت الحدث الحاضر في أغلب الأعمال”.
طمس الحرية الفكرية
وترى “علوش” أنه على الرغم من حضور الرواية السورية في بلد تتنوع فيه الثقافة والأدب إلا أن الحريات الفكرية كانت مكبوتة في ظل حكم الأسد، ولكن بعد الثورة السورية عزز ظهور عدد كبير من المبدعين وتم تداول أسماء جديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد غرق كتاب سوريا في ظلام دامس استبدادي على حد تعبيرها، وأضافت: “أصبحت المأساة السورية حاضرة بشكل كبير في الأعمال الأدبية كونها مليئة بالحكايات، وربما بات انتشار فن الرواية أكبر وأصبحت هي الديوان الذي يدون فيه التاريخ في الفترة الحديثة بعد انتشارها بشكل كبير، وكان لمسألة اللجوء جوانب إيجابية من حيث انتشار الأدب العربي في أوروبا، والتوسع الفكري الذي منح الكتاب آفاقًا جديدة من دون رقابة أمنية أو خوف”.
تحدثنا “علوش” عن محور ومضمون رواية “كومة قش” التي فازت بها، وتقول: “تحكي بطلة الرواية والتي تدعى مريم الفتاة الجامعية التي تتعرض لتجربة الاعتقال، وتبدأ شخصيتها بالنضوج والتبلور بسبب خوضها هذه التجربة، حيث برزت معاناة النساء السوريات وما يتعرضن له في معتقلات النظام، على الرغم من أن المأساة السورية والمعاناة النسوية فيها قد لا تتسع لها روايات”.
الكاتبة “علوش” من خلال روايتها ثارت على الأزمات والتحولات النفسية التي تجتازها النساء السوريات في الداخل السوري وكشفت عن حجم المعاناة التي أفرزها قمع النظام للثورة وتأثيراتها النفسية والاجتماعية.
لغة بسيطة
ومن حيث الشكل والبناء الفني لرواتيها، تقول: “اتبعت في الرواية تقنية السرد المتوازي حيث كان يوجد شخصيتين رئيسيتين تعيشان أحداثًا مختلفة وتلتقي طرقاتهما في نهاية الرواية، عملت على البناء التقليدي (بداية وسط نهاية)، وحاولت قدر الإمكان الكتابة بلغة بسيطة تتمكن من إيصال الفكرة بطريقة غير معقدة”.
وتلتزم “علوش” قدر المستطاع بعدم البوح بكل الرواية وفق شروط الجهة المنظمة “كتارا”، لحين أن تقوم بنشرها وتسويقها، وتفتح الجائزة باب المنافسة أمام دور النشر والروائيين على حد سواء بما فيهم الروائيون الجدد الذين لم تُنشر رواياتهم.
وعلى الرغم من خطواتها الأولى في عالم الرواية، لكن فوز “كومة قش” حفزتها لأعمال أدبية أخرى تستعد لها، وتضع “وفاء” نُصب عينيها هدفًا مستقبليًا بأن تصل كلماتها إلى الشعوب العربية، والأجنبية من خلال ترجمة مؤسسة “كتارا” لروايتها. مؤكدةً أنه لا يوجد معيار وحيد لفوز رواية أو نجاحها أو لتحظى باهتمام واسع فالأمر متعلق بالذائقة الأدبية أولًا، علاوة على مدى قربها من القارئ وتأثره بشخصياتها وأحداثها أو ملامستها لقضاياه ومعاناته.
كما وأهدت “علوش” روايتها إلى مدينتها حمص والذي بمثابة اعتذار للمدينة التي نشأت فيها، تقول: “أعتقد أننا فشلنا في حمايتها جميعًا، وإلى كل المدن السورية التي ما زال سكانها يرزحون تحت آلة الحرب في ظل صمت وتعامي دوليين”.
وتحلم “علوش” بأن تفيق يومًا ما تجد الحرب في سوريا قد انتهت لينعم الناس بسلام، قائلة: “أتمنى من العالم أن يقدر حجم المعاناة التي يرزح تحتها السوريون منذ قرابة عشر سنوات، فقد آن لنا أن ننهي هذه المجزرة ونبدأ بالعمل على مرحلة جديدة تضمن مستقبلًا آمنًا وجيدًا لأطفالنا”.
النشر للنخب!
إلى ذلك، أعربت “علوش” في نهاية حديثها عن أسفها ولومها الشديدين لدور النشر والتوزيع التي أصبحت هي الوسيلة الوحيدة لنشر الأعمال الأدبية وحكرًا على النخب.
وتتابع: “المشكلة الحقيقية التي تواجه الكتاب من الشباب هي مسألة النشر فعلًا، لأن مسألة النشر تتوقف على عوامل كثير، فبعض دور النشر تعمل على نشر وترويج الأعمال الأكثر مبيعًا وبالتالي الأكثر ربحًا، وهنالك دور لا تحبذ نشر أي عمل لأسماء مغمورة، لكن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم باتت تساعد كثيرين على ترويج أعمالهم ونشرها، وهذا يعد ميزة إيجابية”.
تحولات
“وفاء علوش” التي أصبحت نموذج نجاح للكاتب العربي الناشئ في مجال كتابة الرواية العربية، والذي يواجه بطبيعة الحال أسئلة مرتبطة بطبيعة النص الروائي الجديد، من قبيل: هل هناك بناء فني معتمد للرواية الجديدة؟ وأيهما أفضل الاهتمام بالشكل أم المضمون أم الإثنين معًا؟ وكيف أصبحت الرواية القديمة ركامًا لا يمكن أن يتأسس عليه؟ وماهي المعايير اللازمة لنجاح الرواية؟ وهل نحن إزاء نمط معين جديد يجب اتباعه في روايتنا الجديدة؟ للإجابة على هذه التساؤلات من ناحية أكاديمية وعلمية، “نون بوست” أجرى حوارًا مع الناقد الفلسطيني في علم الأدب الأستاذ الدكتور محمد البوجي.
وعن أهم التحولات التي دخلت على الرواية العربية منذ الألفية الثالثة من حيث بناءها الفكري والفني، يقول البوجي: “استطاعت الرواية العربية منذ نشأتها أن تمر في مراحل مفصلية عبرت عن واقع المجتمع العربي سواء الواقع الاجتماعي او الواقع السياسي أو العسكري، وتعبر بطريقة فنية بحيث وصلت في بعض مراحلها للعالمية مثل نجيب محفوظ وايميل حبيبي ويوسف ادريس وغيرهم من العرب الروائيين، وبطريقة استوعبت المتغيرات الشكلية والموضوعية للرواية العربية فهي لا تقل أهمية عن الرواية العالمي”.
ويضيف البوجي: “بدايات الرواية العربية كانت تقليدية إلى أن وصلت الآن إلى التغيرات الشكلية، الزمن اليوم تقاطعيًا نبدأ بالماضي ثم نعود إلى الحاضر، ثم المستقبل ثم إلى الحاضر، ثم نرجع إلى التذكر وأخيرًا إلى الأحلام، واستطاع الروائيون العرب توظيف هذه التقنيات بصورة راقية جدًا، مثل نجيب محفوظ الذي دخل أسطورة الرواية، بحيث استفاد هؤلاء الكتاب من التراث العربي القديم وتحديدًا مقامات الهمداني والجاحظ وغيرها، التي تحتوي على طرائق سرد متطورة في الأدب العربي القديم فأصبحت وسيلة جيدة في الرواية العربية الحديثة”، مشيرًا إلى أن وسائل التكنولوجيا جميعها دخلت في تقنيات السرد الروائي، مما استفاد منها الشباب العرب واستطاعوا أن يقفزوا إلى مستوى متقدم في الكتابة الروائية.
ليس هناك شكلًا معينًا للرواية
كما عرج “البوجي” لمعايير الإبداع المختلفة من حيث الزمن والعمل والكاتب نفسه، يضيف: “ما كان يصلح من خمسين عامًا في الكتابة الأدبية قد لا يصلح اليوم، تطورت الأدوات، وأصبح الشباب لديهم قدرات متطورة في الكتابة، وأحث الشباب أن يبدؤوا من حيث انتهى إيميل حبيبي ويوسف ادريس ونجيب محفوظ وحنا منيا، وبالتالي عليهم أن يقفزوا فوق الابداعات القديمة، الرواية الحديثة لديها لغة وإيقاع سريع تتجاوب مع العصر ومن حق الشباب أن يكون لديهم أدوات ومن حق الشباب أن نشجعهم في هذا الاتجاه وأن ينالوا جوائز في الوطن العربي، ليس عيبًا على الشاب أن ينال جائزة وليس قدحًا في الكبار أن كاتبة جديدة أخذت جائزة للرواية العربية على العكس فإنه يعد مدحًا للرواية العربية القديمة ولكبار الكتاب وهذا يدل بأننا نسير وفق خطة صحيحة”.
يؤكد الأستاذ الدكتور محمد البوجي أنه لا يوجد معايير ثابتة للرواية، موضحًا: “اليوم ليس هناك بطل بالرواية الحديثة، البطل هو الجمهور هو الشعب، هناك عدة شخصيات كبيرة تسير في الرواية وتهندس أحداث الرواية، ليس هناك شخص واحد يحدد مصير المجتمع، مثلًا نقرأ نجيب محفوظ في “الحرافيش”، المجتمع هو الذي يأثر في كل شيء، نقرأ من إيميل حبيبي في “المتشائل”، المجتمع هو الذي يحدد كل شيء، ليس هناك بطلًا واحدًا يحمل أفكار الكاتب الروائي دفعة واحدة، وكل الاتجاهات الفكرية في المجتمع وهذه العناصر تحدد سير الأحداث، وعلى القارئ أن يتتبع ويتجلى وهو يقرأ كيف تنمو الأحداث والشخصيات تحمل فكرًا جديدًا أو تتحول لفكرة جديدة”.
“أعطيني أدبًا بغض النظر عن الشكل أحترم هذا الأدب، أنا لست معنيًا بشكل معين، بل الكاتب يحدد الشكل بما يتناسب مع المضمون، هناك تعادل بين الشكل والمضمون، فينبغي أن يكون الشكل هو الوعاء لعدة مضامين يريدها الكاتب في روايته، أعطيني مضمونًا قويًا وشكلًا يستوعب هذا المضمون، أما أن تعطيني شكلًا جديدًا ومضمونًا سخيفًا ضعيفًا فلا يمكن بأي حال من الأحول القبول به، بل ينبغي أن تكون الرواية معبأة فكرًا، معبأة سيرورة اجتماعية، معبئة رؤية حداثية مستقبلية، كما أننا نرى الماضي في الرواية ينبغي أن نشرح المستقبل ونضع أصبعنا على ما سيأتي ونعالج ما سيأتي قبل وقوعه”، يختتم البوجي حديثه.