ما يزيد على ساعتين ونصف تقريبًا قضيناها سيرًا على الأقدام من وسط البلد بالقاهرة إلى منطقة الحسين، تلك المسافة التي قد لا تأخذ في الأوقات العادية أكثر من خمس دقائق، لا يوجد موطئ قدم واحد على الأرض، حالة التحام غير طبيعية، الأجساد تتلاصق والأنفاس تداعب بعضها البعض، وبعد ماراثون من الجهاد الطويل استطعنا أخيرًا الوصول إلى قلب الحدث.. حيث مسجد الحسين بوسط العاصمة المصرية.
احتفالات مبهرة وأصوات منشدين تطرب الأذان وتتمايل معها الأبدان، وألعاب نارية تغطي السماء، روحانيات تأخذ النفس إلى آفاق تتجاوز جغرافيا الأرض وحدود الخيال، سكن نفسي عميق، وهدوء عقلي حد السكينة.. هكذا كانت الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين (رضي الله عنه).
من كل حدب وصوب، من الإسكندرية شمالًا، وأسوان جنوبًا، ومن سيناء شرقا، ومطروح غربًا، الكل جاء ليحيي هذه الليلة التي يصفها الكثيرون بأنها “بألف ليلة وليلة”.. حيث تتلاقى النفوس وتجتمع على حب ابن بنت النبي، سيد شباب أهل الجنة الذي يحتل مكانة كبيرة في قلوب المصريين لا تقل عن جده عليه الصلاة والسلام.
ورغم الأجواء الباردة والطقس القارس الذي ألزم الكثيرين منازلهم إلا أن مريدي الحسين وأحبابه لا يحول بينهم وبين إحياء مولد سيدهم أي عائق، فخرجوا كالأمواج الهادرة يستقبلون مقامه، مرددين الأشعار والأهازيج التي تعيد عبق الزمن الجميل فتشعر الجميع بالدفء.
عشرات الطرق الصوفية حشدت لهذه الاحتفالية على مدار الأيام الماضية، حيث تحول شارع الحسين بمنطقة الأزهر القابع بها المسجد إلى ساحة كبيرة لسرادقات الطرق الصوفية التي يتجاوز عددها 77 طريقة، ومنها انطلقت الكلمات والخطب ومعها الأناشيد والأهازيج ثم استعراض كل طريقة لطقوسها الخاصة.
احتفالية الليال السبع
تستمر الأجواء الاحتفالية بالمولد قرابة أسبوع كامل، يكتظ المكان بالمريدين، وتكثف الطرق الصوفية من أنشطتها، حلقات قرأنية، وندوات وعظية، وأهازيج ممزوجة بلغة الجسد تشبه لوحة فنية متكملة الأركان، لتتحول هذه البقعة الطاهرة في قلب القاهرة إلى مسرح كبير تقدم فيه العديد من الفنون الصوفية.
وأمام الباب الأخضر لمسجد الحسين، ذلك المغطى بأقبية تشبه التي في المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنور تنصب الخيمة الرئيسية الكبرى التي تخصص لجميع الطرق الصوفية، حيث تتخذ كل طريقة مكانًا خاصًا بها بداخلها استعدادًا لإحياء المولد، ويكون هذا كله تحت إشراف وزارة الأوقاف ومحافظة القاهرة بخلاف الرقابة والتشديد الأمني خاصة أن هذه المنطقة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسائحين الأجانب.
هذا الوقت من كل عام تتحول منطقة الأزهر إلى ساحة كرنفالية تضم عشرات التصاميم الفنية الرائعة التي تأخذ الروح إلى أزمنة التراث الإسلامي والحضارة الخالدة التي تعرضت في الأونة الأخيرة لتشويه متعمد
فعاليات الليلة الكبيرة كما يطلق عليها المصريون، بدأت عصر أمس الثلاثاء، الخامس والعشرين من ديسمبر، حيث الموكب الكبير الذي يضم عشرات الأعلام الخاصة بالطرق المختلفة، وينطلق من مسجد الشيخ صالح الجعفري بمنطقة الدراسة وصولاً إلى المشهد الحسيني، مرددًا مجموعة روحانية من الأهازيج والمديح.
وما أن استقر الحال أمام المشهد الحسيني حتى صعد الخيمة الرئيسية كبار المنشدين في مصر والعالم العربي، على رأسهم نقيب منشدي مصر الشيخ ياسمين التهامي، صاحب الجماهيرية والشعبية الغفيرة، ومن بعده تلامذته من خريجي مدارس الإنشاد المختلفة، في أجواء تبعث الأمل والراحة في نفوس المستمعين.
تسوق وترفيه
بين كل منشد وأخر فاصل زمني قد لايتجاوز العشر دقائق، وفي هذا الفاصل قررنا القيام بجولة حول المسجد، إذ أن التهليل والصلاة والتكبير لم تكن المظهر الاحتفالي الوحيد لإحياء مولد الحسين، إذ شاهدنا زحاما كبيرا في شوارع المعز وخان الخليلى الملاصقين للمسجد بغرض التسوق بالمنتجات اليدوية والإكسسوارات والتحف الفرعونية والنحاسية، هذا بخلاف الرواج الكبير الذي تشهده المنتجات النسيجية البدوية والتركية في مثل تلك الأيام في ظل تدفق السائحين الباحثين عن التراث المصري والإسلامي في هذه المنطقة وسط تلك الأجواء الاحتفالية الهائلة.
“بجانب روحانيات المكان التي تبعث الطمأنينة في النفس إلا أن المنتجات المعروضة بشارع خان الخليلي لا يمكن تجاهلها… باختصار هي تحف فنية مصنوعة بدقة متناهية”.. هكذا علق عمر، الطالب الماليزي الذي يدرس في جامعة الأزهر، لافتا إلى أنه يحرص دوما على حضور تلك المناسبات.
عمر في حديثه لـ “نون بوست” أشار إلى أنه رغم الخلاف الفقهي بشأن إقامة الموالد إلا أن الأجواء هنا أكثر من رائعة، وبعيدًا عن بعض الممارسات التي ربما تتعارض مع صحيح الدين إلا أن الراحة النفسية والألفة واللحمة بين المسلمين والمريدين تغطي على كل شيئ.
وأضاف كذلك أن هذا الوقت من كل عام تتحول منطقة الأزهر إلى ساحة كرنفالية تضم عشرات التصاميم الفنية الرائعة التي تأخذ الروح إلى أزمنة التراث الإسلامي والحضارة الخالدة التي تعرضت في الأونة الأخيرة لتشويه متعمد أفسدها وأفسد صورتها في الداخل والخارج.. هكذا اختتم الطالب الماليزي حديثه.
وعلى مقهى الفيشاوي الشهير بجوار المسجد كانت أعذب الألحان تعزف هنالك على أنغام العود الشرقي، حيث التقينا بالباحث الهولندي، مصري الأصل، محمد عثمان، الذي أوضح أن مولد الحسين بالنسبة له من الأمور المقدسة التي لا يمكن تخطيها مهما كانت الظروف.
وأضاف خلال حديثه لـ “نون بوست” أن الأجواء في هذا الوقت من كل عام كفيلة بإجراء ما وصفه بـ “عملية غسيل للروح” تنقيها مما علق بها طيلة العام كله، لافتًا إلى أن هذا المكان هو قبلته السنوية خلال زيارته لمصر، وفيه يتلقى أصحابه والمقربين منه بعيدًا عن ملامح القاهرة التي شوهت، على حد تعبيره.
زحام غير مسبوق
زحام من نوع مختلف، شهدته منطقة المشهد الحسيني المحيطة بمسجد الحسين بشارع الأزهر من أبناء الطرق الصوفية للمشاركة بالاحتفال بالليلة الكبيرة، بحضور شيخ مشايخ الطرق الصوفية الدكتور عبد الهادى القصبى زعيم الأغلبية بمجلس النواب ورئيس لجنة التضامن بالمجلس ونقيب الأشراف السيد الشريف وكيل مجلس النواب وأعضاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية ومشايخ الطرق وعدد من رجال الأزهر والدولة.
ومما عزز من هذا الزحام الخيم الصغيرة التي افترشها المواطنون في محيط المسجد، تلك الخيم التي تشبه مخيمات اللاجئين، وبسؤالنا عن سبب تواجدها أجاب أصحابها أنهم اعتادوا المشاركة في الاحتفال كل عام، وأنهم يأتوا قبل الليلة الكبيرة بأسبوع تقريبًا حيث يقيمون خارج المسجد.
وعن سبب بقائهم كل هذه المدة في الهواء الطلق في هذا البرد الشديد قالوا: هكذا تعودنا أن نقيم بجوار الحسين، لا نفارق الأعتاب أبدًا، نحضر معنا كل أمتعتنا، مأكل وشراب، يكفينا طيلة الأسبوع الذي نقضيه هنا” وأضاف : ليس هذا حالنا فقط، بل هناك المئات من الأسر تحذوا ذات النهج حبا في آل البيت خاصة حفيد النبي.
في ظل عدم وجود إحصاء رسمي للمنتسبين للتيار الصوفي في مصر بات الأمر خاضعًا لتصريحات وتصورات بعض أقطاب هذا التيار ممن أشاروا إلى أن العدد يقترب من 15 مليون مصري
معلوم أن الإقامة بهذا الشكل غير قانونية بالمرة، كما أنها تمثل تهديدًا لأمن المارة من جانب آخر، وبسؤال أحد ضباط الشرطة المكلفين بحراسة الاحتفالية أجاب بأنهم حاولوا مرارًا وتكرارًا على مدار سنوات طويلة إزالة هذه الخيم لكن أصحابها افترشوا الطرقات دفاعًا عنها، وتابع: أمام هذا الإلحاح في القرب من الحسين ارتأينا السماح لهم بذلك حتى لانفسد عليهم فرحتهم خاصة وأن بعضهم جاء من أقصى الصعيد ولا يملك المال الكاف للنزول في فنادق.
لا توجد إحصائية رسمية لعدد المشاركين في الليلة الكبيرة لمولد الحسين، غير أن الشيخ أحمد القصبي، من مشايخ الصوفية بمحافظة الشرقية “شرق القاهرة” كشف أن عدد المشاركين في الليلة الكبيرة سواء في منطقة المسجد أو المناطق المجاورة له يتجاوز مليوني مشارك، ليس كلهم من الصوفيين، أتوا جميعًا لأجل التنعم ببركات صاحب المقام، لافتًا إلى أن كل من شارك في هذه الاحتفالات لن يعود إلى بيته إلا مجبور الخاطر، على حد قوله.
القصبي أوضح لـ”نون بوست” أنه خلال أيام الاحتفال بمولد الحسين تتحول المنطقة ومحيطها إلى ساحة للاستشفاء والتداوي بذكر الله ورسوله وآل بيت النبي، ومن ثم لا يمكن أن نقول أن من شارك هم فقط أبناء الصوفية وحدهم، لافتًا إلى أن الكثير من معتنقي الأديان الأخرى يحرصون على المشاركة بسبب الأجواء المريحة للنفس التي يشعرون بها.
15 مليون صوفي
في ظل عدم وجود إحصاء رسمي للمنتسبين للتيار الصوفي في مصر بات الأمر خاضعًا لتصريحات وتصورات بعض أقطاب هذا التيار ممن أشاروا إلى أن العدد يقترب من 15مليون مصري، كما يبلغ عدد الطرق الصوفية نحو 76 طريقة تنتمي في أصولها إلى 6 طرق رئيسية، من أشهرها: البدوية، الرفاعية، القادرية، الشاذلية، الدسوقية، الخلوتية، الطريقة العزمية.
وبعيدًا عن الأرقام التي يشير إليها شيوخ التيار الصوفي فإن الغالبية العظمى من المنتسبين لهذا التيار “غير مسيسين” فضلًا عن خروجهم عن دائرة السيطرة والخضوع لتوجهات وإملاءات القيادات العليا على عكس بقية الكيانات الأخرى، غير أنه في المجمل يمكن القول أن الصوفيين في مصر من أكبر الفصائل الإسلامية في العالم لما يمتلكونه من حضور شعبي ومادي قد لا يتوفر لدول وحكومات بأكملها.
بصرف النظر عن التراشق بين الصوفية والسلفية بشأن حكم مثل هذه الاحتفالات، إلا أن القاهرة في هذا الأيام تتحول إلى لوحة فنية مبهجة
يبلغ عدد الأضرحة والمقامات الصوفية ما يقرب من 6 آلاف ضريح في مختلف محافظات مصر، بحسب – وزارة الثقافة بعضها يحتل أبرز المناطق الحيوية في العواصم الإقليمية، حيث يوجد 294 ضريحًا في القاهرة، أشهرها “الحسين – السيدة زينب – السيدة نفيسة”، فيما تتوزع البقية على المدن والمحافظات، على رأسها مركز تلا بالمنوفية حيث يوجد به 133 ضريحًا، يليه مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ وبه 81 ضريحًا، كذلك مركز طلخا بمحافظة الدقهلية وبه 54 ضريحًا.
يؤمن الصوفيون بأربعة أئمة يطلقون عليهم “أقطاب”، هم أحمد البدوى صاحب مسجد السيد البدوى بطنطا، الشيخ الجيلانى، إبراهيم الدسوقى، الشخ أحمد الرفاعي الذي يعد أشهرهم إذ يحتفل بمولده ثلاث مرات في العام، ومن أبرز مظاهر الاحتفال به ارتداء العمامة والشارة الحمراء إضافة إلى رفع العلم الأحمر.
ويعود تقنين الصوفية في مصر إلى القرن التاسع عشر حين أصدر محمد علي باشا، حاكم مصر، فرمانًا بجعل الطرق الصوفية تحت سلطان شيخ السجادة البكرية، ومثل ذلك عهدًا جديدًا لهذه الجماعات التي لم تكن قبل صدور هذا الفرمان خاضعة لسلطة مركزية.
وهكذا.. تتحول منطقة الحسين في هذا الوقت من كل عام إلى قبلة لما يقرب لعشرات الطرق الصوفية، فضلاً عن مئات الآلاف من المريدين، وبصرف النظر عن التراشق بين الصوفية والسلفية بشأن حكم مثل هذه الاحتفالات، إلا أن القاهرة في هذا الأيام تتحول إلى لوحة فنية مبهجة، وأنشودة تراثية يتمايل لطربها القاصي والداني.