“الحزب الشيوعي يجرى مع الصيد ويطارد مع الكلاب”، يقول الصادق المهدي، السياسي المثير للجدل، ورئيس حكومة السودان الأسبق، وزعيم حزب الأمة، يستخدم الرجل كل حصيلته المعرفية والثقافية، وثرائه اللغوي، في قصف الحزب المهيمن على القرار السياسي للثورة السودانية، ويمضى للنهاية في حرب كلامية مشتعلة بين الطرفين، تكشف عن حقيقة العلاقة المأزومة، بين مكونات تحالف قحت، الذي شكل الحكومة، ويرسم المسار السياسي والفكري للمرحلة الانتقالية في السودان.
لماذا تصاعدت الحرب بين الطرفين؟
لا يرتاح الصادق المهدي ــ إسلامي الهوى والفكر ــ للتيار الشيوعي في بلاده، إما بحكم تعارض الأيدلوجيات الفكرية والسياسية، أو لأن الرجل وهو صاحب التاريخ الطويل، أصبح يتململ بشدة من سيطرة حزب لا يملك قاعدة جماهيرية كالتالي يملكها، ويحتجز لنفسه منصب المتحدث الرسمي باسم الثورة السودانية، ووحده دون سائر القوى السياسية، يتحكم في مسار المفاوضات الخارجية والداخلية، ويشكل الحكومة، ويفرض رؤيته على الواقع والمستقبل، حتى لو كان الصادق ضمن التحالف الذي دعم الثورة وقاد المفاوضات، وشهد كواليس الاتفاق على تفاصيل المرحلة الانتقالية، التي ينتقد الكثير من بنودها الآن.
في المقابل يرى الحزب الشيوعي في «الصادق» رجلًا براجماتيًا حتى النخاع، فهو دائمًا يرمى غيره بما فيه شخصيًا، ثم يحاول عبثًا التبرؤ من ما رمى به غيره، ويستند الحزب إلى مواقف المهدي السابقة للطعن في سيرته، التي يتعالى بها عليهم، حيث سبق له أن ذم المعارضة لتراخيها وتكاسلها عن بذل الجهد لإسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، مع أنه هو شخصيًا في نظرهم ليس أكثر من رجل ﻛﻤﻮﻥ ﻭﺧﻤﻮﻝ، ﻭﻻ ﻳﻔﻌﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﺍﻟﺘﻨﻈﻴﺮ.
يرد الشيوعي على الاستعراض اللغوي لرئيس الوزراء الأسبق في هجومه عليهم، باستعراض أكثر قسوة، ويعتبرونه بارعًا ولكن في ﺍﻟﺴﺮﺣﺎﻥ ﻭﺍﻟﺘﺤﺪﻳﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻀﺎﺀ، كما أنه بالنسبة لهم، أشهر راع في الساحة السياسية السودانية، وربما في العالم بأكمله ولكن لـ«غنم ﺍﺑﻠﻴﺲ»، فهو ﺍﻟﻮﺍﻋﻆ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺬﺭ ﺍﻟﺴﺎﻣﻌﻴﻦ ﻣﻦ ﻟﺒﺲ ﺍﻟﺬﻫﺐ، ﻭﻳﻘﺺ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺣﻜﺎﻳﺔ ﺃﺑﻮ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﻊ ﺍﺑﻨﺘﻪ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺭﺁﻫﺎ ﺗﻠﺒﺲ ﺧﺎﺗﻤﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻫﺐ، ﻓﺰﺟﺮﻫﺎ ﻭﻧﻬﺎﻫﺎ ﻗﺎﺋﻼً ﻳﺎ ﺑﻨﻴﺔ ﻻ ﺗﺨﺘﺘﻤﻲ ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻬﺐ، مع أنه ﻳﻠوﺡ لهم ﺑﻴﺪﻩ ﻣﻨﻔﻌﻼً ﺑﺎﻟﻘﺼﺔ، ﻭفي أصبعه ﺧﺎﺗﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻫﺐ.
يطرح السؤال نفسه: ما الذي فجر الوضع بهذه الطريقة، ولماذا خرج الصراع من الغرف المغلقة إلى التشاحن والتلاسن والاستعراض عبر وسائل الإعلام ؟.. تعود أصل الأزمة إلى الانتقادات الشرسة، التي تعود الصادق على توجيهها للحكومة الانتقالية، وتحالف قحت الذي هو جزء منه، وهنا قد يبدو الأمر طبيعيا، فالثورة قامت بالأساس من أجل التعددية وحرية الرأي والتعبير، وإن كانت اتهامات “المهدي” المتزايدة، تجرح النفوس وتبقى فيها الكثير من الضغائن، ولكن زعيم حزب الأمة، أصبح يطالب باقامة انتخابات مبكرة، ويؤكد في كل مكان أنه جاهزًا لها وسيكتسحها.
يعتبر “الشيوعي” نغمة الانتخابات المبكرة، محاولة انقلاب كامل على الشرعية الثورية، وتفاهمات المرحلة الانتقالية، التي تمهد أولًا لتمكين المؤسسات، وإزالة الإرث الباقي للشمولية والاستبداد، وتجهيز التربة السودانية بما يجعلها على استعداد لتحمل مسئولية الحداثة السياسية، وحكم دولة المؤسسات، فليست القضية من وجهة نظرهم في الانتخابات ومن الأكثر استعدادًا، ولكن المعضلة في كيفية زرع نبتة الديمقراطية في المجتمع بكل أطيافه.
مع الوقت ارتفعت حرارة الاتهامات بين الطرفين، خرجت الفيديوهات من داخل كل معسكر لتطعن في مواقف هذا أو ذاك، وعلى المستوى الحزبي، تبادل “الأمة” و”الشيوعي” الاتهامات بشأن تفجير الأوضاع الداخلية في السودان، وكل منهما يتهم الأخر بمعارضة الحكومة مع أنه جزء منها، ولكن إذا ما فعل غيره نفس تصرفاته زايد عليه، واعتبره ضد الثورة.
يعود «الصادق» لأصل الأزمة فيما يحدث على الساحة، «الخلاف الأيدلوجي» ويؤكد أن بعض قوى اليسار تريد أن يكون حزب الأمة في نظر المجتمع يمثل القوى الرجعية الإقطاعية، ويريدون في الوقت نفسه أن ينفردوا وحدهم بالمفاهيم التقدمية، بينما ينظر الشيوعي في سبب الصراع مع رئيس الوزراء الأسبق، ويؤكد أنه أصبح يسعى دون مواربة لإجهاض الثورة، وإعادة إنتاج نظام على مقاسه، سيكون أكثر فشلًا من نظام البشير، لذا يهدده بحسم: من يريد الردة والالتفاف على الفترة الانتقالية “سيجد الحبل ملفوفًا على رقبته”.
ماذا في جعبة كل منهما للآخر؟
خرجت الحرب بين الطرفين عن زمام التحكم فيها، ولم يعد أمام كل منهما إلا محاولة الإجهاز على الآخر، الصادق المهدي من ناحيته يلعب في اتجاهين كلاهما آخطر من الآخر، الأول التشكيك في ولاء وأفكار الحزب الشيوعي، واللعب على نفس الوتر الذي أنكره سابقًا على حزب المؤتمر الحاكم والبشير في إخضاع المعارضين لمحاكم التفيش السياسية والعقائدية.
يرمى المهدي وحزبه من كل صباح “الشيوعي” بكل نقيصة، يعتبرون أفكاره تنافي وجدان الشعب السوداني، ثم يزايدون على وطنيته وولاءه للثورة بالأساس، ويفتشون في مواقفه السابقة، ولاسيما أنه كان ضمن الأحزاب التي شاركت في الحكومة عام 2005، بينما المهدي لم يلوث نفسه ــ بحسب وصفه ــ بمشاركة النظام مثل الشيوعيين، الذين إذا دخلوا انتخابات لن يحصلوا فيها على دائرة واحدة أمامه.
يعتمد رئيس الوزراء الأسبق على تاريخه السياسي، ويؤكد أن حزب الأمة كان يحصل على الأغلبية، بعد كل انقلاب عسكري تعقبه انتخابات، ولهذا هو يدعو لانتخابات مبكرة، ستضع حتمًا كل طرف في وضعه الحقيقي الذي يستحقه، فقوى الحرية والتغيير، من وجهة نظره بلا تفويض شعبي وتحوز فقط تفويضاً ثورياً، والسبيل الوحيد لمعالجة ذلك الخلخل انتخابات شفافة ونزيهة.
أما الاتجاه الثاني في خطة المهدي للتسريع بالانتخابات، اللعب بالنار التي قد تحرقه قبل الجميع، بالعزف على وتر قوات الدعم السريع، وبعد أسابيع من مغازلتها على استحياء، وجه لها قبل أيام دعوة صريحة هي وقائدها محمد حمدان حميدتي، بالانضمام إليه في حزبه، فهي قوات «أعادت اكتشاف نفسها» حسب قوله، وقائدها أصبح عليه التفكير في المستقبل السياسي الذي ينتظره، دون أن يحدد أي مستقبل يقصد، وما هو موقعه منه!
يفتح الشيوعي خزائن اتهاماته لرئيس الوزراء الأسبق، ويعتبر أنه على استعداد دائما للتعاون مع أذناب النظام السابق
في المقابل، يحافظ الشيوعي على صورته الذهنية، ويحاول اكتساب المزيد من الشرعية والجماهرية، كما يستغل ارتماء المهدي في حضن العسكر، ومحاولته الاستقواء بهم للعودة للسلطة، ويركز الشيوعي على اتهامات محددة، لإبقاء «الصادق» في مربع الإبن البار للنظام البائد، الذي يتوق للسير على إرث سياساته، التي لاتهدف إلا لتغييرات شكلية على القضايا التي تهدد وحدة السودان.
يفتح الشيوعي خزائن اتهاماته لرئيس الوزراء الأسبق، ويعتبر أنه على استعداد دائمًا للتعاون مع أذناب النظام السابق، من خلال صفقة يدخل بعدها انتخابات 2020، بينما التسوية الحقيقة للأزمة السودانية برأيه، في تغيير المسار القديم، واختراع آخر جديد، يفتح الطريق نحو تحول ديموقراطي يديم السلام ويرسخ التداول السلمي ويستوعب كل مكونات الشعب السوداني.
يرد الشيوعي على دعوة الصادق للانتخابات، ويؤكد أن همه الوحيد دفع الحياة السياسية في اتجاه صحيح، لتحقيق متطلبات الشعب، وحل القضايا المتراكمة ورسم الطريق لحاضر ومستقبل السودان بمشاركة الجميع، ووضع دستور يتوافق عليه جميع أهل السودان، ويعتبره الطريق الوحيد لاستدامة الديموقراطية والسلام، وترسيخ التداول السلمي للسلطة.
ولاينسى الحزب الشيوعي استغلال ذلة الصادق ومحاولته الاستقواء بحميدتي، ويذكر الجماهير بتجاوزات المجلس العسكري الانتقالي الذي قاد محاولات لإجهاض الثورة، ويستغل اشتعال الروح الثورية بين صفوف جماهير شعب السودان، المتحفزة بالأساس ضد أي محاولات لاختطاف الثورة، ويذكرهم أن مشروع الصادق يعني أن هناك ثورة مضادة متحفزة لتعطيل تنفيذ تطلعات الشعب السوداني، وفق رأيه.
كما لاينسى الإشارة إلى انتصاراته الأخيرة واتفاق جوبا ــ الذي لم يشارك فيه زعيم حزب الأمة ــ بين مجلس السيادة والجبهة الثورية وحركة تحرير السودان، وهي خطوة موفقة في الاتجاه الصحيح لحل قضايا المناطق المتأثرة بالحرب، مما يعطي مصداقية أكبر للحزب وطريقته في قيادة المسار الثوري، لفتح الطريق وإرساء الثقة بين السودانيين، لا التربح على حساب تضحياتهم!
لا يبدو أن هذه المعركة الكلامية بين “حزب الأمة” و”الحزب الشيوعي” ستتوقف قريبًا، في ظل صراع متصاعد على موقع كل واحد منهما من الثورة، وحجم التمثيل في الشارع، وريثما تحسمها الانتخابات التي ما يزال الوقت مبكرًا عليها، سيكون على كلا الطرفين أن يحرص على ألا يتحول الموقف لأكثر من المشادات الكلامية.