ترجمة وتحرير: نون بوست
أسبوع واحد قبل عيد الميلاد، أراقب من ميدان المهد الحجاج وهم ينزلون من الحافلات ويشقون طريقهم إلى كنيسة المهد، التي بُنيت لأول مرة في القرن الرابع، في المكان الذي وُلد فيه يسوع، وذلك وفقًا للتقاليد المسيحية.
داخل الكنيسة، انضممتُ إلى مجموعة من الحجاج الإسبان، وتوقفنا لبرهة للغناء. وتجدر الإشارة إلى أنه لا شك في صدق أو تفاني أولئك الذين يأتون للحج في بيت لحم كل سنة. وبالنسبة لي، كمسيحي إنجليكاني، تعد هذه التجربة مؤثرة للغاية. ولكن لسائل أن يسأل: ما الذي يعرفه معظم هؤلاء الحجاج عن المجتمع المسيحي الفلسطيني الصغير المحاصر الذي يعيش حوالي 2000 عام منذ وفاة المسيح؟
يتدفق الحجاج إلى بيت لحم للاحتفال بعيد الميلاد، لكن المسيحيين الفلسطينيين يخشون على بقاء مجتمعهم في أرض ولادة المسيح.
تقع بيت لحم الحديثة داخل الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، وهي مكان صعب، حيث يوجد مخيمان للاجئين داخل حدود المدينة، كما يجري تطوير المستوطنات الإسرائيلية باستمرار. وفي الواقع، يمتد الجدار الفاصل في المدينة، حيث يجب على كل حاج المرور من خلاله للوصول إلى ميدان المهد. فهل يزعجهم ذلك؟ وهل يلاحظونه؟
نجت المسيحية من اضطهاد أوائل المهتدين إليها خلال الحكم الروماني. كما ازدهرت خلال الإمبراطورية البيزنطية، وصمدت خلال أوائل الخلافة الإسلامية، واستمتعت بإحياء الإمبراطورية العثمانية قبل أن تنتقل أراضي فلسطين الحديثة إلى السيطرة البريطانية سنة 1917.
مع ذلك، يشك كل مسيحي فلسطيني تحدثت إليه فيما إذا سيكون هناك وجود واسع للمسيحية قريبا في الأرض التي وُلد فيها مؤسس المسيحية وبشر بإنجيله قبل وفاته. وعلى الرغم من وجود بعض الاستثناءات القليلة، إلا أن الأغلبية أخبرتني أنهم الجيل الأخير من المسيحيين الفلسطينيين. وبناء على ذلك، قد يكون هناك حاجة ماسة لرعاية الأماكن المقدسة، وقبل كل ذلك كنيسة القيامة (كنيسة القبر المقدس) في القدس، والتي يُدعَى أنها بنيت على كل من موقع صلب اليسوع والقبر الذي بعث منه، وكذلك كنيسة المهد.
يصلي الحجاج المسيحيون في كنيسة المهد، المكان الذي يعتقد المسيحيون أنه ولد فيه، في مدينة بيت لحم المقدسة بالضفة الغربية
تجذب هذه الأماكن المقدسة ملايين الحجاج، مما يشكل ثروة لأخذي القرارات الدينية الذين يسيطرون عليها. في المقابل، يتم اتخاذ هذه الأوامر من الخارج. وغالبًا ما يعمل بها رجال دين أجانب، لا يتحدث بعضهم العربية.
يميز المسيحيون الفلسطينيون بين ما يسمونه “الأحجار الميتة” والمزارات والكنائس التي تركت منذ حوالي 2000 عام من العبادة المسيحية المستمرة في المشهد، و”الأحجار الحية”، والأشخاص الذين يواصلون ممارسة العقيدة المسيحية في مسقط رأس الدين. وفيما يلي، بعض الحقائق صارخة على غرار أن أعدادهم تتراجع شيئا فشيئا، حيث يقدر عدد المسيحيين في الضفة الغربية اليوم بحوالي 40 ألف مسيحي و11 ألف فقط في القدس، وذلك وفقًا للأرقام التي نشرتها مطبعة البطريركية اللاتينية- أي أنهم بالكاد يمثلون واحد بالمئة من إجمالي سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
وفقا لمسح للمسيحيين الفلسطينيين الذين يعيشون في “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية، انخفضت نسبة السكان الذين حددوا أنهم مسيحيون من 7.4 بالمئة سنة 1947، قبل إنشاء إسرائيل، إلى اثنين بالمئة فقط سنة 2007. من جانب آخر، وفقًا للمعلومات التي نشرتها هذا الأسبوع دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، هناك ما يقدر بحوالي 177 ألف مسيحي يعيشون في إسرائيل، أي حوالي اثنين بالمئة من إجمالي سكان البلاد.
لفهم هذا التهديد المميت، زرت غزة والقدس والضفة الغربية و”إسرائيل” خلال رحلتين، إحداهما في الصيف الماضي والأخرى خلال الفترة التي سبقت عيد الميلاد. وفي بيت لحم، بدلاً من الصلاة في كنيسة المهد، انضممت إلى 200 من المصلين في كنيسة عيد الميلاد اللوثرية. وانسجم اللوثريون مع الغناء الرائع للجوقة المحلية. وفي خدمة قدمها باللغة العربية، كرّس القس منذر إسحاق الخطبة لإدانة مقتل امرأة بالقرب من بيت لحم على يد أقاربها، وقال للمصلين: “إخبار النساء بأن مكانهن في المنزل، تعد الخطوة الأولى نحو ترسيخ العنف ضدهم”.
وتجدر الإشارة الى أنه أخبرني لاحقا أن “وراء الأضواء والاحتفالات، نشعر أن بيت لحم سجن كبير محاط بالمستوطنات ومقسمة بجدار”. كما قال إسحاق إن الزوار لا يأتون سوى “لزيارة الكنائس القديمة والبقاء في فنادق بأسعار معقولة”. وأضاف إسحاق متسائلا: “هل يهتمون حقًا بالفلسطينيين؟ بالنسبة لمعظم السياح، يبدو الأمر كما لو أن التاريخ توقف في سنة 70 بعد الميلاد. وفي الواقع، يزورون الأرض المقدسة حيث أجرى يسوع معجزاته، لكنهم يتجاهلون الواقع”.
كما أورد إسحاق قائلا: “أشعر بصراحة أن عبء التاريخ هو أننا الجيل المسيحي الأخير للبقاء في هذه الأرض. انظر إلى المصلين، نحن 160 عضوا، حيث تتراوح أعمار الكثير منا بين 50 سنة وما فوق. لقد فحصنا سجلات الكنيسة واكتشفنا أن لدينا الآلاف من الأعضاء الذين يعيشون خارج فلسطين”.
مضايقة الأزواج
يغادر معظمهم البلاد للهروب من التمييز على أيدي إسرائيل، وهو المصير المشترك لجميع الفلسطينيين؛ المسيحيين والمسلمين على حد سواء. ويهاجر الآخرون للحصول على وظائف غير متوفرة في الضفة الغربية. علاوة على ذلك، هناك ضغوط أكثر غدرا. وفي هذا الصدد، أخبرتني إيلين زغبي، وهي زميلة، قصة نموذجية للمضايقة التي يتعرضون لها من قبل السلطات الإسرائيلية.
تواجه المواطنة الأمريكية، إلين، عقبات بيروقراطية وقانونية جعلت بالنسبة لها من الصعب العيش مع زوجها الفلسطيني وأطفالهم الأربعة. وبدأت المشكلة عندما سافرت إيلين من مطار بن غوريون من الولايات المتحدة لحضور حفل زفاف ابنها. وعلى الرغم من أنها قامت بالرحلة نفسها عدّة مرات من قبل، إلا أنها مُنعت من الدخول إلى “إسرائيل” وافتك جواز سفرها واحتُجزت لمدة 12 ساعة. وأخيرًا، عند منتصف الليل تقريبًا، وضعت على متن طائرة لتٌسافر خارج إسرائيل. وعندما طلبت تفسيرا، أخبروها بأنها “متزوجة من فلسطيني”.
كانت إيلين متزوجة من “الزغبي الزغبي”، وهو قائد مسيحي محترم، ويعيشان معا في مدينة بيت لحم منذ حوالي 30 سنة.
إلين وزوجها الزغبي في مدينة بيت لحم.
بعد معركة مع البيروقراطية، تحصلت إلين على إذن من “إسرائيل” لدخول فلسطين عبر جسر ألنبي في الحدود البرية بين الأردن والضفة الغربية، الذي يعد الوسيلة الوحيدة للفلسطينيين للسفر من الضفة الغربية إلى الخارج. فضلا عن ذلك، منحت تأشيرة إيلين الجديدة إقامة لمدة ثلاثة أشهر، ونصت عليها أن تظل مقيدة في الأراضي الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية.
فضلا عن ذلك، كان ينبغي عليها أيضًا دفع ضمان بقيمة 70 ألف شيكل إسرائيلي أي 20 ألف دولار لضمان التزامها بقيود التأشيرة. وكان هذا هو المال الذي اضطرت عائلتها على اقتراضه من الأصدقاء، كما قيل لها إن هذه التدابير القاسية تعود إلى “اشتباه السلطات في أنشطة استيطانية غير قانونية في المنطقة”.
عندما سألتُها عن معنى ذلك، أجابتني أنها ليس لديها أدنى فكرة، وطرحت السؤال التالي؛ “كيف يمكنك أن تكون في نشاط استيطاني غير قانوني عندما تحاول ببساطة العيش مع زوجتك على أرض أجداد عائلته؟”. وأكدت قائلة “منذ زواجي سنة 1990، طلبنا من السلطات الإسرائيلية منح الإقامة الدائمة لي ولزوجي للعيش في بيت لحم. وكانت طلباتنا ترفض ذلك باستمرار. وعلى مدار الثلاثين سنة الماضية، كنت أعتمد على هبات السلطات الإسرائيلية في تمديد تأشيراتي السياحية لكي أعيش مع زوجي. وفي الوقت الراهن، يبدو أن الهبات قد نفدت”.
في هذا الإطار، كشفت إيلين أنه تم استهداف أفراد أسرتها الآخرين بالطريقة نفسها. وعلى سبيل المثال، تزوجت ابنة أخت زوجها من مواطن أمريكي، وتم ترحيله لدى وصوله إلى مطار بن غوريون الدولي. علاوة على ذلك، تزوج ابن عم آخر لها من امرأة هولندية، لكنها مُنعت من الإقامة الدائمة فاضطرت العائلة أن تعيش في الخارج.
في شأن متصل، صرحت إيلين قائلة: “أعرف الكثير من الأزواج الدوليين الذين يعيشون في الوضع نفسه، حيث يكون أحد الزوجين فلسطينيا والآخر من ألمانيا أو اليونان أو الولايات المتحدة أو غيرها من الدول. في المقابل، إذا كنت فلسطينيًا، فسيكون عليك أن تختار بين العيش مع زوجتك بدوام جزئي أو العيش على مدار السنة في المنفى مع زوجتك وأطفالك”. وأضافت إيلين قائلة: “على الرغم من أن القدس على بعد أقل من خمسة أميال، إلا أنه لا يُسمح لي بزيارة أسرتي هناك، حيث أننا بذلك سنخاطر بفقدان الضمان البنكي البالغ 70 ألف شيكل المقدم من السلطات الإسرائيلية”.
في الواقع، صادفت فلسطينيين مسيحيين يواجهون هذه الصعوبة ذاتها مرارا وتكرارا. وعلى سبيل المثال، تعتمد زوجة قسيس فلسطيني على تأشيرة سياحية منذ 19 سنة وقيل لها في الآونة الأخيرة إن التأشيرة ستستمر لمدة شهر واحد. كما كان ينبغي على أحد المسيحيين، الذي طلب مني عدم ذكر اسمه خوفًا من إساءة السلطات له، الانتظار أكثر من سنة حتى يتم السماح لزوجته المولودة في الخارج بالدخول إلى القدس.
في هذا الصدد، أوضحت إيلين أن “هذه المضايقات المستمرة ترهق الروح، لا سيما وأن الإجهاد الذي يتعرضون له عاطفي وجسدي. وغالبا ما يختار أولئك الذين لديهم خيار، المغادرة”. وأضافت إيلين قائلة: “أنا أعتبر هذا النوع من النقل إجباريا. ويواجه الكثير منا مستقبلاً غير معروف حول ما إذا كان سيتم السماح لنا بالعيش في منازلنا في بلد أزواجنا”. والجدير بالذكر أن موقع ميدل إيست أي طلب من السلطات الإسرائيلية التعليق على القضايا التي أثارتها الزغبي، لكنهم قالوا إنهم لن يقدمو أية تبريرات إلا إذا قدم الموقع أرقام هوية الزوجين.
المسيحية في غزة
قبل 15 سنة، كان هناك أربعة آلاف مسيحي في غزة. لكن في الوقت الراهن، يشهد هذا الرقم انخفاضا حادا ليبلغ 1000 شخص. كما اكتشفت عندما سافرت إلى هناك في تموز/ يوليو لإحضار معدات طبية إلى مستشفى الإنجليكي الأهلي العربي. وعندما غادرت معبر إيرز من “إسرائيل” إلى غزة، استقبلني الأب القس الكاثوليكي ماريو دا سيلفا وقادني إلى كنيسته التي أطلق عليها اسم كنيسة العائلة المقدسة، بعد رحيل جوزيف وماري وفقاً للتقاليد المسيحية، عبر غزة كلاجئين مع طفل يسوع أثناء فرارهم من مذبحة هيرودس ضد الأبرياء.
أثناء توجهنا بالسيارة، أخبرني الأب ماريو أنه وصل إلى غزة قادما من روما بعد مرور يومين على اندلاع حرب سنة 2012. وفي هذا السياق، قال الأب ماريو: “لقد كانت الصدمة كبيرة بالنسبة لي، حيث كنت قادمًا من روما، إنها مدينة جميلة للغاية، وكنت أفكر أن كل شيء تدمر، ولكن سيتحسن الوضع شيئا فشيئا. بعد ذلك، اكتشفت أن الأمر ازداد سوءا في الوقت الراهن”. وإلى جانب كنيسة العائلة المقدسة، يوجد ملاذ تديره راهبات بقيادة الأمّ تريزا. وفي الداخل، رأيت الفرح والحب والإخلاص الذين يعاملون به الأطفال المحليين ذوي الاحتياجات الخاصة.
في هذا الإطار، أضاف الأب ماريو عندما ذهبنا إلى مكتبه قائلا: “نحن نقدم خدماتنا لما بين ستين إلى سبعين شخصا”. وفي سنة 2003، كان هناك 4500 مسيحي في غزة. أما في الوقت الراهن، فلا يوجد سوى 1000 شخص. وعندما وصلت إلى سنة 2012، كان هناك 170 مسيحيا لهم دور انتخابي”.
خدمة الكنيسة في غزة. وتضاءل عدد السكان المسيحيين في غزة إلى بضع مئات من الأشخاص خلال السنوات الأخيرة.
نهض من مقعده وتوجه إلى مكتبه حيث بدأ العد: “الآن هناك 117 شخصا”. وعلى الرغم من أن السكان المسيحيين يشكلون نسبة ضئيلة من سكان غزة، إلا أنهم يقدمون مساهمة كبيرة في الصحة والرفاهية والتعليم. وعموما، توفر خمس مدارس مسيحية في غزة التعليم لثلاثة آلاف طفل، 180 منهم من المسلمين. وبجانب المستشفى الأنجليكي الأهلي العربي، توجد عيادات تقدم الخدمات الطبية لعشرات الآلاف من سكان غزة. ومؤخرا، افتتح مستشفى العيون في القدس فرعه في مدينة غزة، وهناك جمعية شبابية مسيحية مكونة من 500 شاب تقدم أنشطة رياضية وثقافية واجتماعية.
خلال الهجوم الإسرائيلي على غزة سنة 2014، فتحت الكنائس وجمعية الشبان المسيحيين أبوابها لإيواء النازحين، وقدّمت خدمات الإعاشة والمساعدات الطارئة. وبعد انتهاء القتال، أعادت المدارس المسيحية فتح أبوابها في غضون ثلاثة أسابيع. وسواء كنت من المسلمين أو المسيحيين، تعدّ الحياة في غزة صعبة بشكل لا يمكن تصوره.
خلال هذه السنة، تعرض المسيحيون هناك لضربة أخرى عندما أعلنت السلطات الإسرائيلية في 12 كانون الأول/ديسمبر أنه لن يُسمح لهم بزيارة بيت لحم والقدس خلال عيد الميلاد. بالإضافة إلى ذلك، أُعلن عن إلغاء الحظر في 22 كانون الأول/ديسمبر. في المقابل، كان الوقت متأخرا للغاية بالنسبة لمعظم الناس لوضع خطط سفر.
المسيحية في “إسرائيل”
يوجد عدد أكبر بكثير من المسيحيين الفلسطينيين داخل “إسرائيل” مقارنة بالضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وجميعهم تقريبا من المواطنين الإسرائيليين. وعموما، أعتقد أن المسيحية ستستمر لفترة أطول داخل “إسرائيل” نفسها مقارنة بالأراضي الفلسطينية المحتلة. وعموما، يتلقى المسيحيون الفلسطينيون في “إسرائيل” التعليم والرعاية والخدمات الصحية غير المتاحة للفلسطينيين في الضفة الغربية أو غزة.
ينحدر معظم سكان “إسرائيل” المسيحيين من أسر فلسطينية بقوا في الأراضي التي أصبحت في الوقت الراهن لإسرائيل خلال ما يسميه الفلسطينيون بالنكبة أو الكارثة، عندما فرّ مئات الآلاف أو طردوا من أراضيهم على أيدي الجماعات شبه العسكرية اليهودية خلال النزاع، نتج عنه تقسيم فلسطين وإنشاء إسرائيل.
أحد القادة المسيحيين مقتبسا كلام المسيح: كونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام نحن أقلية ضمن أقلية، يجب أن أجهد نفسي طيلة الوقت لأثبت أنني لست إرهابيًا”.
منذ ذلك الحين، أغلقت العديد من الكنائس داخل “إسرائيل” بأوامر عسكرية. وعلى غرار جميع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، يعاني المسيحيون من التمييز وصعوبة العثور على وظائف. وفي سياق متصل، يوضح قانون الدولة الأساسي الجديد بوضوح أن العرب الفلسطينيين ليسوا مواطنين متساوين في بلدهم. وتجدر الإشارة الى أن هناك عضوان مسيحيان في الكنيست، وهما عايدة توما سليمان ومتانيس شحادة.
بالنسبة للمسيحيين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل، يضيف إيمانهم طبقة أخرى من التعقيد إلى قضايا الهوية الحساسة بالفعل، سواء المحددة ذاتيا أو التي يفرضها الآخرون. وفي هذا الصدد، قال أحد القادة المسيحيين مقتبسا كلام المسيح: “كونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام”. وأضاف قائلا: “نحن أقلية ضمن أقلية، حيث يجب أن أجهد نفسي طيلة الوقت لأثبت أنني لست إرهابيًا”.
تابع أحد القادة بإصرار حديثه قائلا: “أنا مواطن مخلص. ولا ذلك يعني أن أكون متعاونًا. يجسّد كتابنا المقدس الحب، وأنا أوعظ بالحب، وبالعدالة. يحب الناس أن يسمعوا عن الخدمات القومية في الضفة الغربية، لكننا أصبحنا أقل قومية”. علاوة على ذلك، أخبرني الكاهن أنه “تحت ضغوط إسرائيلية للتمييز بين المسيحيين والمسلمين يقولون أنت مسيحي، فلْنمنحك شقة في منطقة يهودية.
صورة مأخوذة من مدينة بيت جالا بالضفة الغربية، إحدى ضواحي بيت لحم، والطريق الإسرائيلي وجدار الفصل المثير للجدل بين مدينة بيت لحم بالضفة الغربية والقدس.
تحاول حكومة نتنياهو محاكمة المسيحيين الذين يتبعون التراث الثقافي الآرامي أو الماروني. وفي سنة 2004، اعترفت “إسرائيل” رسميا بالأقلية الإثنية من الآراميين، بدلاً من اعتبارهم عرب مسيحيين. كما يتم منحهم الوصول إلى كل من التعليم اليهودي والعربية، ويختار الكثيرون الخدمة في الجيش الإسرائيلي. وتوجّهت إلى الناصرة، مسقط رأس يسوع، حيث قابلت أسقف القدس السابق، رياح أبو العسل، الذي أخبرني كيف هاجر مع جميع إخوته وأخواته. وقال لي: “قد نكون الجيل الأخير من المسيحيين الفلسطينيين”.
اصطحبني الأسقف ريا إلى جبل التطويبات، حيث قيل إن يسوع ألقى الخطبة على الجبل. وهناك أخبرني قصة بدت مألوفة لي: “لقد غادر معظم أفراد عائلتي إلى كندا والولايات المتحدة. وطلبوا مني أن أنضم إليهم. ولكنني لن أترك الأرض المقدسة”.
بينما وقفنا مطلين على بحر الجليل، قال الأسقف إن منسوب المياه ينخفض جزئيًا نظرا لأن المياه كانت تتحول من قبل الإسرائيليين إلى منطقة النقب الصحراوية. وفي هذا الصدد، أفاد الأسقف قائلا: “حسب رأيي، إذا هاجر جميع المسيحيين من أرض القدوس، فسيكون من السهل على “إسرائيل” أن تتخلص من بقيتنا. وسيجعلون الصراع حربًا دينية بين الإسلام واليهودية، وسيدفعون بالبلدان المسيحية إلى الوقوف إلى جانبهم. ودون المسيحية، لن تبقى الأرض المقدسة فسيفسائية، كما عهدناها”.
راهبة أرثوذكسية تصلي في كنيسة المهد، المكان الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح ولد فيه، والواقع في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية.
تراجع الأرقام
لسائل أن يسأل؛ لماذا يهاجر المسيحيون الفلسطينيون بأعداد كبيرة وبسرعة؟ يعاني المسيحيون الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة والقدس من الضغوط نفسها التي يتعرض لها بقية الفلسطينيون من حيث التمييز والمضايقة. وغالبا ما يكون لديهم أسر أصغر من أسر المسلمين. كنتيجة لذلك، يكون من الأسهل على المسيحيين مغادرة فلسطين أسرع من المسلمين. وفي الواقع، يعدون موضع ترحيب أكبر من المسلمين في الغرب الإسلامي نظرا لأن الكثير منهم يجيدون اللغة الإنجليزية وهم من الطبقة الوسطى بالأساس، ونادرا ما يعودون إثر رحيلهم.
أخبرني أولئك الذين بقوا في البلاد بأنهم يشعرون بالخيانة من زملائهم المسيحيين. وفي هذا الإطار، أورد سالم منير، مدير ومؤسس مصالحة، وهي وزارة تعمل من أجل المصالحة بين المسيحيين الإسرائيليين والفلسطينيين عندما قابلته في مكتبه بالقدس، أن “الشباب المسيحيين الفلسطينيين يقولون لي إننا لا نعتبر جزءًا من الأسرة، ويكتفون بتقديم الدعم المعنوي. نحن لا نعتبر جزءًا من المسيحية في جميع أنحاء العالم. وعموما، لدينا العديد من وفود الكنائس القادمة لزيارة هذه الأرض ببيانات تدعم ذلك. في المقابل، لم يتم اتخاذ أي إجراء إلى الآن”.
على سبيل المثال، ذكر منير أن إدارة ترامب قطعت تمويل المساعدات للمستشفيات في القدس الشرقية. ولكن الكنائس الأمريكية لم تندد بهذا الفعل، حيث أن هناك صمت وخوف من التحرك من أجل الشعب الفلسطيني”. وفي الحقيقة، أخبرني العديد من المسيحيين الفلسطينيين أنهم يشعرون بالتهديد من قبل حركات الكنيسة المسيحية الصهيونية، التي ترحب بها الحكومة الإسرائيلية. وفي هذا السياق، قال منذر إسحاق: “من المفارقة أن أولئك الذين يهتمون بمستقبل المسيحية في الشرق الأوسط، كما تم التعبير عنه من خلال مؤتمرات في واشنطن، يسمحون في الواقع بالاحتلال، وهو ما يعد السبب وراء خسارة المسيحيين لأرضهم”.
حلفاء “إسرائيل” الإنجيليين
بالنسبة للعديد من الصهاينة الإنجيليين، بمن فيهم الدعاة الأمريكيين الذين يتمتعون بشعبية وتأثير كبيرين مثل جون هاجي وروبرت جيفريس، يعتمد مستقبل المسيحية على عودة الشعب اليهودي إلى “إسرائيل” للاستعداد لعودة المسيح، وغالبًا ما يشار إليها على أنها نهاية العالم.
في هذا الشأن، كتبت ميمي كيرك، من مؤسسة الشبكة الفكرية الفلسطينية، التي اتخذت من الولايات المتحدة مقرا لها: “نتيجة لهذا الاعتقاد، يتم إما تجاهل احتلال “إسرائيل” وقمعها للفلسطينيين، بما فيهم المسيحيين، أو النظر إليهم على النحو المطلوب لتحقيق النتيجة النهائية. وفي هذا السياق، يعتبر المسيحيون الصهاينة أن توسع “إسرائيل” في الضفة الغربية عبر المستوطنات غير القانونية يعد تطورا إيجابيا، ويدعمون التوسع الإسرائيلي في الضفة الشرقية للأردن”.
من جهتهم، صرح العديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم إن المسيحيين الفلسطينيين الذين يعارضون الاحتلال يعاقبون من خلال أساليب مختلفة على غرار رفض تصاريح السفر ومنع زيارات الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم. في المقابل، يكافئ بعض القساوسة المزعومين الذين يتعاونون مع “إسرائيل” بالسيارات الدبلوماسية وغيرها من علامات الموافقة الرسمية.
مع ذلك، يرى بعض الإنجيليين القصة من جانب مختلف، حيث يقولون إن المسيحيين يهاجرون نظرا للتهديد الذي يشكله الإسلام نفسه. وفي هذا الإطار، تقول السفارة المسيحية الدولية في القدس، على سبيل المثال، إن اضطهاد المسلمين يعدّ سبب الهجرة الجماعية التي يقوم بها المسيحيون. وإذا ما طلبتُ مقابلة هذه المجموعة الإنجيلية في مكتبها الواقع بالقرب من باب الخليل في القدس، فإنها لن تأتي لزيارتي.
على الرغم من حدوث بعض التوترات الطائفية في بعض الأحيان، إلا أن كل فلسطيني مسيحي تحدثتُ إليه أكد أن المسيحيين والمسلمين يتقاسمون هوية فلسطينية مشتركة. وعندما سافرت عبر الضفة الغربية، وجدت مثالا متحركا لمجتمعين يخوضان صراعا مشتركا ويعملان جنبا إلى جنب.
المصلون يضيئون الشموع في كنيسة بربارة اليونانية الأرثوذكسية في قرية عابود الواقعة في بالضفة الغربية المحتلة.
بشائر الأمل
تقع قرية عابود العتيقة على بعد 30 كيلومتر شمالي القدس. إنه مكان مناسب لكل زمان ومكان، ويُعدّ بالأحرى مكانا خالدا، حيث يضم أشجار التين والبيوت الحجرية القديمة والكنائس المدمرة ويخيم الشعور بالهدوء التام. وفي الواقع، يُقال إن المسيح مرّ عبر قرية عابود في رحلاته من منطقة الجليل وصولا إلى القدس. ومن جانبهم، يعتبر البعض إنه كان يُبشر ويجذب بعض أتباعه الأوائل هناك. وخلال الأسبوع الماضي، انضممتُ بدعوة من القسّ الأرثوذكسي اليوناني في القرية، الأب إيمانويل، إلى مئات القرويين أثناء إنارة أضواء شجرة عيد الميلاد، حيث قامت جوقة محلية بغناء ترانيم الكنيسة الكاثوليكية وإقامة رقصات خلال احتفال ديني.
عادة ما تبدأ الاحتفالات بعيد الميلاد في قرية عابود في 16 من كانون الأول/ ديسمبر، تاريخ استشهاد القديسة بربارة، شفيعة القرية، إذ أخبرني القرويون أن القديسة بربارة اعتنقت المسيحية في وقت مبكر، وهي ابنة رجل ثري كان يعتنق الوثنية. وتقول الروايات إنها وقعت في حب مسيحي ما دفعها إلى تغيير دينها واعتناق الدين المسيحي. وعندما اعترفت لوالدها بذلك فيما بعد، تملّكه الغضب وحاول قتلها، لكن القديسة بربارة هربت إلى كهف في تل يُطلّ على المدينة. وهناك، اختبأت حتى خانها راعِِ وأخبر عن مكان تواجدها لتلقى حتفها الأخير.
بدأت الاحتفالات في الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية بالقرية، التي يعود تاريخها إلى العصر البيزنطي، حيث تعتبر أحد أقدم الكنائس التي لا تزال مستخدمة في كلّ مكان في العالم. وانضممتُ إلى المصلين الذين يصلون من أجل القديس في حفل أشرف عليه رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، عطالله حنا. وعندما انتهت الصلوات، انتقلنا في موكب عبر القرية، إلى أعلى التل، المكان الذي يُعتقد أن القديسة بربارة استُشهدت فيه.
قاد الطريق مجموعة من الكشافة مُرتدين الزي الرسمي الخاص بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وهم يعزفون على مزمار القِربة ويقرعون الطبول. وخلال هذه المسيرة، انضم إلينا حشد من المسلمين. وعندما وصلنا إلى الكهف الصغير الذي قيل إنها ماتت فيه، دخلنا ضمن مجموعات صغيرة. وحينما جاء دوري، صعدتُ إلى هناك، وأشعلتُ شمعة، وصليتُ من أجل أن يحلّ السلام، لقد كانت بالفعل لحظة تتسم بالقُدسيّة. أوشكت الشمس على الغروب عندما كنتُ بصدد الخروج، ولكنها كانت كافية لتُمكنني من رؤية مشهد مذهل يتجلّى عبر التلال المتدحرجة باتجاه تل أبيب والبحر.
عابد، مسيحي يقبّل نجمة فضية متكونة من 14 حدا، يُعتقد أنها المكان الدقيق الذي وُلد فيه السيد المسيح، في مغارة كنيسة المهد في بيت لحم.
المسيحيون والمسلمون
تقع معظم منطقة عابود داخل المنطقة “ج” من الضفة الغربية، التي لا تزال تخضع مباشرة للحكم العسكري الإسرائيلي. ووقعت مصادرة الأراضي من القرويين لإفساح المجال أمام مستوطنة بيت أرييه القريبة. وقبل سبعة عشر سنة، قامت القوات الإسرائيلية بالتفجير باستخدام الديناميت الضريح الموجود أعلى التل، على الرغم من أنه رُمم منذ ذلك الحين.
أخبرني رضا، صاحب متجر مسيحي، أن القرويين البالغ عددهم 2500 شخصا الذين يعيشون في عابود منقسمون تقريبًا إلى النصف بين مسلمين ومسيحيين. وأضاف رضا قائلا: “يعيش الجميع كإخوة. وفي عطلتنا يأتون إلينا لتهنئتنا، وفي عطلهم نذهب لنهنئهم، نحن جميعا بشر”. كما صرّح مايسر، تاجر مسلم من عائلة مجاورة، يقف بجانبه: “يمكنني أن أؤكد أن هذا الأمر صحيح، حيث أننا نعيش كأخوة”. وبعد أن صلينا إلى القديسة بربارة، تابعت الموكب عائدا إلى أسفل التل إلى قاعة المدينة للغناء والرقص والخُطب. وتجدر الإشارة إلى أن أحد المعلمين في إحدى المدارس المحلية، عمل كمرشد ومترجم لي، حيث أورد قائلا: “نحن شعب واحد له الظروف والمعاناة نفسها”.
غنت الجوقة أغنية كارولز، في حين أن الكنيسة الكاثوليكية ركزت على رقص الشباب الذين يرتدون الكوفية، كما كان هناك تسليم للنشيد الوطني الفلسطيني. وفي النهاية، ألقى رئيس الأساقفة، حنا، خطبة رنانة أخبرنا فيها أن القديسة بربارة ماتت “لإيصال الرسالة بأن تعيش إيمانك وأن تكون صادقا مع الآخرين”. بعد ذلك أعلن قائلا: “سنذهب ونضيء شجرة عيد الميلاد كأسرة فلسطينية واحدة مسيحية وإسلامية. وتتمثل رسالة عيد الميلاد بالنسبة لنا في منحنا العدل والسلام حيث لا يمكن أن يكون هناك سلام دون عدالة”.
خرجنا إلى الشارع الذي كانت فيه شجرة عيد الميلاد مضاءة، وتبعها المزيد من الغناء والألعاب النارية. وعلى الرغم من أن عيد الميلاد أصبح مهرجانا استهلاكيا لا عقائديا في العديد الدول في أنحاء العالم، إلا أن الاحتفالات ظلّت راسخة في الوعظ والمعتقدات المسيحية في مدينة عبّود. وعموما، يؤمن المسيحيون بأن المسيح جاء إلى العالم لمساعدة الفقراء والضعفاء الذين يعانون من الظلم. وبالنسبة للمسيحيين الفلسطينيين، تعد هذه هي الرسالة التي لا يزال صداها يتردد.
عندما غادرت عبّود، شعرت بأنني كنت محظوظًا إلى حد كبير بالمشاركة في حدث سيبقى راسخا في ذاكرتي الثمينة طوال حياتي. وفي الواقع، تُبين مثل هذه الأحداث أن المسيحية الفلسطينية تضيء نورًا يجب ألا يُسمح له بالاندثار.
المصدر: ميدل إيست آي