في الثاني عشر من مايو 2018 كان العراقيون على موعد جديد مع ماراثون انتخابي استثنائي، حيث أول انتخابات برلمانية تشهدها البلاد بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حينها عُقدت الأمال والطموحات في أن تكون الحجر الذي يحرك المياه الراكدة في مستنقع السياسة كريه الرائحة.
ومع ذلك، فقد واجهت تلك الانتخابات موجات متتالية من الاتهامات بالتشكيك في نتائجها وتخللها عمليات تزوير بالجملة، حسبما صدر عن الكيانات السياسية في البلاد التي اعتبرت أن القانون الانتخابي المعمول به وقتها هو رأس الخيمة في هذا الخلل لما ينطوي عليه من ثغرات تسمح ببقاء الوضع على ماهو عليه، حيث سيطرة أحزاب وقوى بعينها على المشهد برمته دون السماح لأي من التيارات الصغيرة الأخرى بالتواجد ولو كضيف شرف.
كان هذا الفساد الذي تفشى في الجسد العراقي أحد الأسباب القوية التي دفعت العراقيين للاحتجاج والمطالبة بإعادة هيكلمة المنظومة برمتها على كافة المستويات، على رأسها حزمة القوانين المعمول بها والتي تؤصل للفساد وتحمي القائمين عليه والمستفيدين منه، وتحول دون عودة العراق للعراقيين غير المؤدلجين.
وبعد قرابة 3 أشهر من الاحتجاجات التي اندلعت شرارتها الأولى في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نجح العراقيون في فرض كلمتهم، وانصياع الأحزاب المهيمنة على السلطة لمطالبهم، كانت البداية بإجبار رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي، على تقديم استقالته، تلاه تغيير أعضاء مجلس المفوضين واستبدالهم بقضاة، ثم أخيرًا إجراء تعديلات على قانون الانتخابات القديم (سيئ السمعة).
وفي جلسة استمرت حتى مساء أمس الثلاثاء، صوّت البرلمان العراقي لصالح قانون الانتخابات الجديد، بالصيغة التي ينادي بها المتظاهرون، وذلك بعد واحد فقط من إجراء قرعة اختيار أعضاء مفوضية الانتخابات الجديدة من بين عشرات القضاة من مختلف محاكم الاستئناف، تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة في بغداد.
ورغم ما يحمله القانون الجديد من علامات استفهام حيال بعض النقاط، إلا أنه تضمن العديد من الجوانب الإيجابية التي تضمن عدم العودة إلى القوانين الانتخابية السابقة التي كرست وجود الطبقة السياسية الحالية 14 عاماً في السلطة دون منافسة حقيقية من بقية أطياف الشعب.
تعديلات بنكهة الانتفاضة
نجح القانون الجديد بعد مناقشات دامت أسابيع طويلة في اعتماد بعض التعديلات التي كانت محل انتقاد في القانون القديم، تلك التعديلات تحقق نسبة كبيرة من الشعارات التي نادى بها الغاضبون على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، وتتمحور إنجازات القانون الجديد في 5 تعديلات رئيسية.
الأول: اعتماد نظام الدوائر الانتخابية المتعددة بكل محافظة على حدة، بواقع دائرة واحدة لكل 100 ألف نسمة، وهو تعديل يضمن التمثيل العام لكافة مناطق البلاد، على عكس ما كان معمولا به في السابق، حيث المحافظة بأكملها عبارة عن دائرة واحدة فقط، الأمر الذي غبات عنه الموضوعية في شمولية التمثيل.
أما التعديل الثاني فيتعلق بالسماح للأفراد في دخول المنافسة الانتخابية بصفة فردية، وليس شرطا أن يكون منضويًا تحت لواء حزب سياسي بعينه كما كان في القانون القديم، ما يفتح الباب أمام الجميع للمشاركة وتعزيز المنافسة بحيث يكون الفوز لمن يحصل على أعلى عدد من الأصوات كما هو معمول في العديد من البلدان العربية.
فيما يأتي اعتماد كوتة للنساء خطوة هامة في التعديلات الجديدة التي وضعت في اعتبارها دور ومكانة المرأة العراقية في تمثيل بلادها داخل البرلمان، وهو إنجاز يحسب وبصورة كبيرة للمشاركة النسائية الكبيرة في الاحتجاجات الأخيرة، حيث أقر التعديل تخصيص ربع مقاعد البرلمان للنساء.
التعديلات الطارئة على قانون الانتخابات قد تفضي إلى استعادة العراقيين الثقة بعملية الاقتراع بعد آخر عملية انتخابات العام الماضي والتي لم يشارك بها أكثر من 25 في المائة منهم
هذا بخلاف اعتماد التصويت الإلكتروني، الذي كان مطلبًا حيويًا للحيلولة دون ممارسة التزوير من جانب، وتسهيل إجراءات التصويت أمام الناخبين من جانب آخر، كما يحسب تقليص عدد مقاعد البرلمان من 329 عضوًا إلى 251 عضوًا فقط، بما يساهم مستقبلًا في تقليل النفقات وإعطاء مساحة كبيرة للتعبير عن الرأي ومناقشة قضايا الوطن داخل المجلس.
ومن إيجابيات القانون الجديد أنه ألغى واحدة من أكثر النقاط المثيرة للجدل، تلك المتعلقة بآلية “سانت ليغو” (التي تسحب أصوات الناخبين وتوزعها بين القوى السياسية بطريقة أقرب ما يكون إلى التقاسم بينها)، وهي الطريقة التي طالما أثارت حفيظة الناخبين العراقيين وأفقدت الشارع الثقة في العملية الانتخابية بأكملها.
وتعد زيادة فرص دخول القوى المدنية والحركات الوطنية الناشئة للبرلمان وإنهاء احتكار القوى الحالية للعملية السياسية في العراق، أحد أبرز المكاسب التي تضمنتها التعديلات الجديدة، إذ سيكون الفوز لمن يحصل على أعلى عدد من الأصوات دون أي ألغام وفخاخ تسمح بمصادرة صوت الناخب وتحويله لمرشح آخر لمجرد أن هذا المرشح يشترك مع الآخر بقائمة واحدة.
تبني الترشيح الفردي من شأنه منح الفرصة لأي مواطن أن يترشح عن دائرته بأريحية كاملة
وفي المجمل وبحسب خبراء فإن التعديلات الطارئة على قانون الانتخابات قد تفضي إلى استعادة العراقيين الثقة بعملية الاقتراع بعد آخر عملية انتخابات العام الماضي والتي لم يشارك بها أكثر من 25 في المائة منهم، فيما أجريت انتخابات 2005، و2010، و2014، و2018، بقانون اعتبر مفصلاً على مقاس الأحزاب السياسية الطائفية الرئيسية في البلاد.
وتعليقًا على القانون بصيغته الجديد ذهب خبراء إلى أن الجماهير الغفيرة هي التي أرغمت البرلمان على تبني تلك التعديلات التي ستساهم بشكل كبير في في إضعاف سطوة القوائم الانتخابية الكبيرة، إذ أن تبني الترشيح الفردي من شأنه منح الفرصة لأي مواطن أن يترشح عن دائرته بأريحية كاملة، وأن يكون الفصل في الموضوع هو صوت رجل الشارع العادي القادر على التمييز بين الجيد والردئ بين المرشحين دون الإجبار على التصويت بصورة عشوائية لصالح حزب سياسي وليس فرد.
فخاخ دستورية
وفي الجهة الأخرى لم تسلم تلك التعديلات من الانتقادات الحادة التي وصفت القانون بحلته الجديدة بأنه يعارض الدستور بصورة كبيرة، لاسيما فيما يتعلق بالنازحين والمغتربين بجانب الحقوق الدستورية للمكونات الدينية في التصويت والإدلاء بأرائها في مثل هذه الاستحقاقات.
وبالرغم من المبررات التي ساقها المشرعون لاعتماد تلك النقاط والتي تدور حول ضمان النزاهة وتقليل معدلات الفساد في العملية الانتخابية، إلا أنها ظلت محل تشكيك من قبل الكثيرين، على رأسها إلغاء تصويت النازحين والمغتربين بدعوى تلافي تزوير أصواتهم أو استغلالهم من قبل المرشحين.
سياسيون يرون أن هذه النقطة تتعارض بشكل واضح مع النص الدستوري الذي يمنع فيه مصادرة أصوات العراقيين الانتخابية أو حجبها، الموقف ذاته ينطبق على منع بعض المنتسبين لطوائف عرقية أو دينية مختلفة كالمسيحيين والصائبة وغيرهم ممن يسكنون خارج معاقلهم التقليدية، إذ ينص الدستور على عدم التمييز بين القوميات والمكونات الأخرى، وهو ما برز معه أحاديث تدور عن اعتزام بعض الكتل السياسية ذات الثقل الكبير داخل البرلمان بالطعن على تلك التعديلات.
القانون بما له وما عليه يعد خطوة مرحلية جيدة، مناسبة بشكل ما للمرحلة الانتقالية الحالية التي تمر بها البلاد
يذكر أن القانون القديم كان يتعامل مع العراق كدائرة انتخابية واحدة، ويتم توزيع جميع المقاعد في المجلس الوطني(البرلمان) على الكيانات السياسية من خلال نظام للتمثيل النسبي، متعمدًا ما يسمى نظام القائمة المغلقة، ويقصد به أن يقدم الكيان السياسي قائمة بمرشحيه وبعد المصادقة عليها من قبل المفوضية وانتهاء مهلة تقديم القوائم الأنتخابية والائتلافية لا يمكن للكيان السياسي أن يغير بترتيب الأسماء الواردة في القائمة وتعلن الأسماء الفائزة من المرشحين في القائمة حسب عدد الأصوات التي حصل عليها الكيان وبالترتيب العددي الوارد في القائمة نزولًا.
وعليه فإن الناخب الاعتيادي يصوت لرقم القائمة الانتخابية وهو لا يعرف أعضاء هذه القائمة لان هذا النظام الانتخابي لا يسمح للناخب اختيار اسم دون غيره من القائمة عملاً بنظام الاختيار الحر (القائمة المفتوحة) حيث ينفرد الحزب أو الكيان السياسي باختيار مرشحيه وينفرد أيضًا في اختيار ترتيب مرشحيه في القائمة ولا خيار أمام الناخب إلا باختيار القائمة كاملة، لذلك من ضمن الانتقادات التي توجه إلى نظام القوائم المغلقة أنه يلزم الناخب التصويت على مجمل الأصوات الواردة في القائمة دون أدنى حرية في الاختيار.
هذا النظام كان قد تعرض لموجة انتقادات من قبل خبراء يرون أن القائمة المغلقة تخدم وبشكل كبير الكتل والأحزاب التي لا تمتلك الشخصيات المقبولة اجتماعيًا او ذات الخبرات والكفاءات المرموقة ما يعرضها للخسارة، وعليه كان يوصف القانون بأنه مجحف وليس فيه من العدالة بل يضيع حق الناخب ويغيب إرادته وصوته ومن هنا تولدت الضغوط وبرز الميل الشعبي باتجاه تغيير قانون الانتخابات بصدور تكفل تسبعد نظام القئمة المغلقة والدائرة الانتخابية الواحدة.
وفي المجمل، فإن القانون بما له وما عليه يعد خطوة مرحلية جيدة، مناسبة بشكل ما للمرحلة الانتقالية الحالية التي تمر بها البلاد، وإن لم يكن ملائمًا لدولة ذات تاريخ وحضارة بحجم العراق، لكنه في المجمل سينجح في كسر احتكار الأحزاب التي جاءت بعد الاحتلال وتسلمت حكم البلاد، فصار هناك فرصة الوصول للبرلمان من قبل الأفراد والقوى المدنية والمستقلة، وإن كان في الوقت ذاته يتطلب المزيد من التعديلات لسد تلك الثغرات التي ربما تهدد نزاهة العملية الانتخابية مستقبلًا بشكل أو بآخر.