اشرح أيها البحر الأسود
يرى منتجو المحتوى المرئي أن الأفلام والمسلسلات يجب أن تعكس واقع المجتمعات، وتهدف من خلال عرضها للمشاكل وتسليط الضوء على القضايا الأكثر أهمية إلى معالجتها، وبالتالي يحاول المخرجون والمنتجون الدخول للزوايا ذات الحساسية المرتفعة والتي نادرًا ما يتم التطرق لها بشكل مباشر في أحاديث الناس اليومية.
عندما سُئل “عثمان سيناف” مخرج مسلسل “اشرح أيها البحر الأسود” Sen Anlat Karadeniz قبيل عرض الحلقة الأولى بدقائق، عن الرسالة التي يريدها أن تصل من خلال مسلسل اشرح أيها البحر الأسود، أجاب بأنه يرغب أن “يدرك الناس أن الرجل لايصبح رجلًا بالعنف والشدة والغضب بل يصبح رجلًا بالحب وباستخدام قلبه وحنانه، وأن النساء هم نعمة من الله علينا، جعلهم بجانبنا مواساة لنا وقت الشدائد، فكيف يقوم شخص بإيذائهن نفسيًا وجسديًا؟”.
مسلسل اشرح أيها البحر الأسود الذي عرضت حلقته الأخيرة أواخر نوفمبر، واجه الكثير من الانتقادات والاحتجاج بسبب مشاهد العنف التي تضمنها ضد المرأة، وخاصة بعد حادثة مقتل التركية أمينة بولوت على يد زوجها السابق في الشارع، وعلى مرأى عيون طفلتها، حيث طالب المحتجون بإيقاف عرض مسلسل اشرح أيها البحر الأسود، لكن مخرج ومنتج العمل عثمان سيناف قال إن مشاهد العنف المتضمنة لا ترقى لجرائم القتل بالإضافة إلى أن تصويرها كان بهدف إذكاء الوعي بالعنف ضد المرأة في تركيا، وأضاف أن هناك نساء قُتلن أمام أطفالهن في هذا البلد؛ وتذكروا أنهن يعيشن أسوأ بكثير من هذه المشاهد الدرامية في الحياة الحقيقية.
يعالج مسلسل اشرح أيها البحر الأسود قضايا العنف ضد المرأة وتزويج الفتيات في سن مبكر رغمًا عن إرادتهن بالإضافة لقضايا الاغتصاب واستخدام الأثرياء للمال في سبيل “شراء الفتيات” من أهلهن، وحرمانهن من حقهن في إكمال تعليمهن واختيار أزواج المستقبل. ويبلغ عدد المتزوجات تحت 18 عام في تركيا 200 ألف، ويتم تزويج 40 ألف فتاة كل عام وهي ماتزال تحت السن القانوني، وهي إحصائيات عرضها مسلسل اشرح أيها البحر الأسود في شارة النهاية لإحدى حلقاته.
بطلة المسلسل مع طفلها بعد تعرضها للتعنيف والضرب من زوجها
قصة مسلسل اشرح أيها البحر الأسود
يحكي مسلسل اشرح أيها البحر الأسود قصة فتاة في السادسة عشرة من عمرها تم بيعها من قبل والدها، بتزويجها لرجل ثري عاشت معه ثمان سنوات تعاني من العنف الجسدي والنفسي لكنها لم تنحن أبدًا وتستسلم لهذا الظلم، إلى أن تمكنت أخيرًا من الهرب من سجنها مع طفلها حيث التقت بمن سيكون زوجها المستقبلي، شاب من البحر الأسود يساعدها ويحمي طفلها حيث تظهر فيه نخوة أهل البحر الأسود في الدفاع عن الضعيف وإكرام الضيف وغيرتهم وعنادهم.
وفي حين كان الجزء الأول من مسلسل اشرح أيها البحر الأسود يركز على معاناة فردية، انتقل بنهاية الجزء الثاني إلى أن البطلة تدافع عن الأخريات ممن يعانين بصمت وتشجعهن على رفع صوتهن ومواجهة الأذى الذي يتعرضن له.
وتدور أحداث مسلسل اشرح أيها البحر الأسود في مدينة صغيرة تدعى سورمينى Sürmene بالقرب من مدينة طرابزون وتقع ضمن محافظات البحر الأسود، ومن هنا اشتق اسم المسلسل، حيث تتمثل قيم الأصالة والعراقة وأخلاق سكان البحر الأسود وطيبتهم وشهامة أخلاقهم، إذ ما تزال أغلب مجتمعات مدن البحر الأسود على العادات والتقاليد التركية، بالإضافة لما يعرف عن أهل “الكاردينيز” من حماسهم وعنفوانهم.
أحد المشاهد من وسط حقول الشاي الشهيرة وفيها ملامح لباس أهل طرابزون
ومن اللافت، أن ثلاث من مدن البحر الأسود كانت من أصل خمس مدن سجلت أقل نسبة تزويج للقاصرات بين المحافظات التركية على الرغم من أن الحداثة ليست واضحة المعالم في تلك المناطق البعيدة بالمقارنة مع مدن كبرى متطورة كإسطنبول على سبيل المثال.
الجانب الديني
عربيًا، اعتدنا في الدراما التي تنتجها منطقتنا أن يكون الجانب الديني مشوهًا قدر الإمكان، كرسم صورة نمطية عن الشيخ بوصفه إنسانًا شرهًا يبحث عن طعامه وشرابه، أو كشخص ضعيف يقصده الناس للبركة أو البحث عن الفتوى، أو الرجل المتصالح مع السلطة والأقوياء، وفي أحيان أخرى يستخدم المتدين لمعالجة ظاهرة التشدد والإرهاب بأسلوب ينتقص من الدين ذاته، فيصور الحوارات بين الشيخ “المتشدد” والآخر “المعتدل” على أنها تناقض بين النصوص الدينية.
في مسلسل “اشرح أيها البحر الأسود”، يظهر الشيخ عثمان بأفضل نسخة درامية من إمام المسجد، يدافع عن المرأة المظلومة الهاربة ويحميها في منزله، فينفض الناس عن المسجد، يخطب بهم في مكان تجمعهم ويشرح بحكمة أن قبول الفتاة بالزواج هو شرط أساسي من عقد القران ويدفع ألسنة السوء عنها، ويستحضر المواقف من السيرة النبوية دفاعًا عنها وتوعية للمجتمع، وما إن ينتهي حتى يتبعه القوم لصلاة الجمعة. في حين يقف شيخ الحارة في المسلسلات العربية خلف الباب يسمع كلمة: “موافقة يا بنتي؟” من فتاة، وينتهي دوره فلا يعلم كيف قالتها.
إمام المسجد مبينًا للناس أحكام الزواج وشروط صحته
يقف إمام مسجد كارادينيز ليقيم صلاة الجنازة على راقصة ملاهي، باعها مجرم لمجرمين يتاجرون بها بعد أن اغتصبها، ثم قتلها عندما وجدت طريق النجاة. يقف ويشرح ويدعو الناس للخروج في جنازتها كابنة له، مواجهًا نميمة مجتمع كامل لم يحسم أمره بشأن تلك السيدة، ولسوف تتساءل هنا: كيف استطاع كاتب المسلسل التركي أن يصور المفاهيم الإسلامية بهذه الدقة ويأتي بالشواهد والآيات والأحاديث والفهم القرآني الصحيح لإشكاليات المجتمع رغم حواجز الزمان واللغة؟ في حين ذهل وزهد بها مخرجون عربًا؟!
إمام المسجد في مقدمة الجنازة
من الملفت للنظر الاستخدام الصحيح والمؤثر للآيات والأحاديث ومقاصدها في المسلسل التركي اشرح أيها البحر الأسود، على الرغم من اختلاف اللغة وعمليات التغريب التي لحقت بالمجتمع التركي على مدار 100 عام تقريبًا، بينما نجد أن شيخ باب الحارة في المسلسل العربي والذي يفترض أنه أكثر قدرة على إدراك معاني اللغة العربية وأكثر قربًا من المعاني الإسلامية بحكم البيئة، نجده يوضح لأحد الشباب: أن كلمة ” الغلو” جاءت من التوغل في الدين!
يأتي الجميع لدار الشيخ عثمان محبون ومذنبون وخائفون وقلقون وغاضبون ونادمون، فيفيض عليهم بكلمات بسيطة مليئة بالحكمة، دون أن يفتي أو يقول افعل أو لا تفعل. يظهر الإسلام كما هو دور الدين الأزلي مصدرًا للأمان والطمأنينة وسكنًا للنفس ونصيرًا للحب والمودة، لا تمل من الفقرة الدينية في المسلسل التركي اشرح أيها البحر الأسود ولا تبدل القناة حتى تنتهي هذه الكليشة المملة، بل تتعلم منها وكأنها حقيقة وليست دراما!
الشيخ يفسر سورة الإنشراح
المرأة المحجبة
من المعروف عن الشعب السوري أنه متدين بطبعه، وتدينه شعبي غير مرتبط بالأيديولوجيات أو التنظيمات، وكانت مظاهر هذا التدين واضحة المعالم في شوارع وحارات المدن الصغيرة والكبيرة، فكانت السمة العامة لنساء سورية هي المرأة المحجبة مع اختلاف شكل وطبيعة هذا الحجاب باختلاف المكان والسن.
وعمل نظام حافظ الأسد على إقصاء المحجبات عن الحياة العامة، وبدأ ذلك منذ فرض النظام العسكري على المدارس الثانوية وإجبار الفتيات على خلع الحجاب في حصص التدريب العسكري الإلزامي، مما ساهم في تخلي الكثير من المحجبات عن متابعة دراستهن فيما عمدت أخريات إلى استبدال الطاقية العسكرية (بشكل معين) بالحجاب ضمن أوقات محددة.
يعلم السوريون المضايقات التي تعرضت لها النساء المحجبات في بعض المهن واستثنائهن من الحضور الإعلامي أو تقلد المناصب أو التصدر في أي مناسبة عامة، والتي شهدت بعض الانفراجات الخجولة في عهد بشار الأسد بفعل ضغوط مجتمعية ومشيخية. أما بعد اندلاع الثورة في عام 2011 فقد عمد النظام السوري لاستخدام المحجبات في محاولة لنفي تهمة الطائفية عن نظامه ولاستمالة فئات شعبية سنيّة محافظة، حيث حرص رأس النظام على الظهور بين المحجبات في أكثر من مناسبة كما ملئت المسيرات المؤيدة بهن وظهرت المرأة المحجبة لأول مرة تقريبًا على الإعلام السوري الرسمي في مناسبات عديدة بالإضافة لتعيين وزيرة محجبة للشؤون الاجتماعية قبل أن تتم إقالتها لاحقًا.
كانت الدراما السورية بمجملها منسجمة مع التربية الفكرية لنظام الأسد فلم تظهر المرأة المحجبة بشكل طبيعي تؤدي دورًا عاديًا في المسلسلات إلا بعد استخدام النظام ورقة المحجبات في إطار سعيه لتلميع صورته بعد الثورة.
لقطة من المسلسل السوري “الندم” 2016 – طالبة جامعية محجبة وتنتمي لأسرة ثرية
ففي حين عودتنا الدراما السورية طوال عقود على تقديم صورة نمطية للمحجبة كامرأة جاهلة ضعيفة وأحيانًا “همجية” أو مقهورة من قبل عائلتها وإخوتها لا تفقه شيئًا من الحياة وبالتالي كانت ضحية للعلاقات غير الشرعية أحيانًا، مما يرسخ النظرة للحجاب كرمز للتسلط الذكوري في المجتمع العربي، أو حجابًا يمنع المرأة من تأدية دور فاعل في المجتمع، عمدت الدراما السورية بعد الثورة وبشكل يلفت الانتباه إلى تقديم أدوار لنساء سوريات محجبات بأدوار عادية، غير سلبية.
وعودًا إلى مسلسل “اشرح أيها البحر الأسود”، فقد قدم صورة متميزة رزينة للمرأة المحجبة؛ إذ ظهرت في دور المحامية المدافعة عن حقوق النساء في القرية الصغيرة، ليست معاقة أو معقدة ولا تعاني من مشاكل نفسية. بل إنها ومن بين كل النساء الأخريات على رأس عملها حيث كانت الفتاة العاملة الوحيدة في المسلسل حتى نهاية الجزء الثاني.
المحامية الشابة – Sen Anlat Karadeniz
ليس المقصود مما سبق المقارنة بين الدراما التركية والعربية أو السورية خاصة، وإنما تسليط الضوء على الفرق في معالجة القضايا الاجتماعية ومشاكل المجتمع، انطلاقًا من قيم ومبادئ هذا المجتمع بدلًا من هدم أسوار الفضيلة والأخلاق، بل الاعتماد والبناء على شبكة الأمان التي يؤمنها المجتمع للأفراد، والتي ما تزال سمة رئيسية من سمات مجتمعاتنا.