“أربعينية الضحايا”.. اشتعال الاحتجاجات الإيرانية مجددًا وتدابير أمنية لوأدها

موجة احتجاجية جديدة يشهدها الشارع الإيراني بعد أيام من الهدوء النسبي الذي خيم على الأجواء، فيما أعلنت السلطات الإيرانية حالة الطوارئ القصوى استعدادًا لأي تطورات تصعيدية من شأنها أن تزيد من مأزق النظام الحالي الذي يتعرض لهجوم كبير في الداخل والخارج على حد سواء.
الاحتجاجات التي بدأت قبل شهر ونصف تقريبًا بسبب لجوء الحكومة لرفع اسعار الوقود، تجاوزت نطاقها الاقتصادي الضيق إلى المطالبة بإسقاط النظام بأكمله، وهو ما قوبل برفض شديد أسفر عن مواجهات حادة بين الطرفين خلفت ما بين 300 – 1500 قتيل وفق التصريحات المتضاربة بشأن عدد الضحايا.
واليوم تنطلق العديد من المسيرات الاحتجاجية استجابة لدعوات إحياء “أربعينية ضحايا الاحتجاجات الأخيرة” التي شهدتها البلاد الشهر الماضي، وسط اتهامات من الحكومة لأطراف خارجية بتأجيج المشهد ومحاولة إثارة البلبلة وتهديد الاستقرار، في الوقت الذي اتخذت فيه طهران إجراءات مشددة لوأد التحركات الجديدة.
تدابير أمنية
قبل 24 ساعة من دعوات إحياء أربعينية الضحايا استبقت السلطات الإيرانية بحزمة من التدابير الأمنية والتكنولوجية التي تستهدف في المقام الأول الحيلولة دون تجاوز التظاهرات للخطوط الحمراء، وتضييق الخناق على سبل التواصل بين المشاركين فيها، للخروج بأقل الخسائر الممكنة.
البداية كانت فرض قيود على الإنترنت والوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك وفق ما أشارت بعض المواقع التابعة لصحيفة “إيران” والتي كشفت أن هذه القيود يبدوا أنها “تعود إلى قرار مجلس أمن الدولة لمواجهة دعوات مناوئي الثورة (للاحتجاج) في السادس والعشرين من الشهر”.
ورغم نفي وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات الإيرانية أنباء قطعها للإنترنت عن أي مدينة إيرانية، إلا أن مصادر مطلعة في إحدى شركات الهواتف المحمولة، أكدت أن الإنترنت مقطوع عن الهواتف في ست محافظات إيرانية، هي أصفهان، وفارس، وخوزستان، وكرمانشاه وكردستان وألبرز، بالإضافة إلى أجزاء من غرب محافظة طهران.
وفقًا لتقارير ميدانية، فإن خدمة الإنترنت الـ4G السريعة أصبحت غير متوفرة في خمس محافظات، بينما خدمة الـ3G ذات السرعة الأقل بكثير ما زالت متاحة، فيما تذهب أراء أخرى إلى احتمالية قطع الخدمة عن بقية المحافظات التي من المرجح أن تشهد أي حراك شعبي.
كما لاحظ مراسلو وكالة فرانس برس في طهران حدوث انقطاعات في الإنترنت وغيرها من الخدمات المرتبطة. وأشار موقع “نيتبلوكس” الذي يراقب حركة الإنترنت حول العالم إلى حدوث انقطاعات قائلًا عبر تويتر “كانت هناك أدلة على انقطاعات في الإنترنت عبر الهواتف النقالة في أجزاء من إيران منذ الساعة 06,30 (03,00 ت غ)”. وأضاف “تظهر بيانات الشبكة الآنية حدوث انخفاضين ملحوظين في الاتصال هذا الصباح وسط تقارير عن انقطاعات حسب المناطق. الأمر متواصل”.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها السلطات الإيرانية لسياسة قطع الإنترنت في مواجهة المتظاهرين، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني عطلت طهران الخدمة لمدة أسبوع تقريبًا للمساعدة في قمع الاحتجاجات على رفع أسعار الوقود وذلك بعدما تحولت إلى احتجاجات سياسية.
Confirmed: Evidence of mobile internet disruption in parts of #Iran beginning ~6:30 a.m. (03:00 UTC); real-time network data show two distinct drops in connectivity this morning amid reports of regional outages; incident ongoing ? #Internet4Iran
?https://t.co/BNTPP9wEyt pic.twitter.com/1l1ZkLnQKJ
— NetBlocks.org (@netblocks) December 25, 2019
التدابير لم تقف عند حاجز قطع الاتصالات وفقط، بل لجأت السلطات إلى سياسة الترهيب عبر اعتقال عدد من أقارب ضحايا الاحتجاجات ممن كانوا ينتون المشاركة في الأربعينية في محاولة لترهيب الباقي من النزول والمشاركة، وهو ما كشفته بعض المصادر بشأن اعتقال أقارب شاب يدعى بوريا بختياري، قتل خلال الاحتجاجات الأخيرة على خلفية رفع أسعار البنزين في مدينة كرج، غرب طهران.
وفي التفاصيل جاء الاعتقال بسبب إصرار العائلة على إحياء مراسم الأربعين لابنها، بحسب شبكات التواصل، ورفضها طلب السلطات إلغاء الحفل، خشية أن يتسبب باضطرابات أمنية، وكان والد هذا الشاب، منوجهر بختياري، قد أطلق دعوة على “تويتر”، دعا من خلالها الناس إلى المشاركة في الذكرى الأربعين لمقتل ابنه.
بينما تشير منظمة العفو الدولية في تقرير نشرته هذا الشهر إلى أن عدد ضحايا الاحتجاجات يتجاوز الـ 300 بقليل، نقلت وكالة رويترز عن مصادر خاصة بها أن العدد قارب الـ 1500 شخص
وأورد تقرير نٌشر يوم الثلاثاء في موقع (مركز حقوق الإنسان في إيران) على الإنترنت أن وزارة الاستخبارات والسلطات القضائية في بلدة كرج الواقعة غربي طهران استدعت منوشهر، والد بختيار، مرتين في الأسبوع المنقضي لاستجوابه، وأضاف أنهم طلبوا منه إلغاء إحياء ذكرى الأربعين لوفاة ولده في 26 ديسمبر كانون الأول خشية أن يتسبب ذلك في حدوث اضطرابات، إلا أنه رفض هذا الطلب.
وفي السياق ذاته أعلنت المواطنة الإيرانية شهناز أكملي، التي قتل ابنها خلال الاحتجاجات، عبر حسابها على “إنستغرام”، أنها تسحب دعوتها لتنظيم مراسم الأربعين لضحايا الاحتجاجات، مشيرة إلى أنها “ملغاة”، عازية السبب إلى طلب السلطات الأمنية والقضائية.
دعوات للتصعيد
استبق المحتجون تظاهرات اليوم بعشرات المسيرات ليلة أمس الأربعاء، وانتشر على وسائل التواصل الاجتماعي العديد من المقاطع المصورة للتظاهرات التي جابت شوارع مدينة قلعة حسن خان غرب العاصمة طهران، وكرمانشاه غرب إيران، وأصفهان وسنندج حيث قال الناشطون انهم تعرضوا لإطلاق نار وقنابل مسيلة للدموع بهدف تفريقهم.
الشعارات التي رددها المتظاهرون تمحورت معظمها ضد المرشد على خامنئي والرئيس حسن روحاني فيما طالبت أخرى بالقضاء على الفساد ومراعاة الأوضاع المعيشية المتردية، بينما أظهرت بعض الصور وجود عناصر ملثمة من قوات مكافحة الشغب، وعناصر يحملون هراوات حديدية، وعربات مصفحة مزودة بخراطيم مياه.
حالة من القلق تخيم على السلطات الإيرانية خشية أن تتحول ذكرى الأربعين لضحايا الاحتجاجات السابقة إلى موجة تظاهرية جديدة يصعب التعامل معها خاصة بعد الرقم الكبير لأعداد القتلى، الأمر الذي ربما يدخل البلاد في شلالات جديدة من الدماء في وقت تتعرض فيه طهران لضغوط اقتصادية وسياسية غير مسبوقة.
وفيما يتعلق بعدد القتلى، فهناك حالة من التضارب في التصريحات، فبينما تشير منظمة العفو الدولية في تقرير نشرته هذا الشهر إلى أن العدد يتجاوز الـ 300 بقليل، نقلت وكالة رويترز عن مصادر خاصة بها أن العدد قارب الـ 1500 شخص سقطوا منذ اندلاع موجة الاحتجاجات الشهر الماضي.
وذكرت الوكالة أنها حصلت على هذه المعلومات من خلال ثلاثة مسؤولين بوزارة الداخلية الإيرانية، لكن السلطات الإيرانية نفت صحة تقريرها، متهمة إياها بـ”الكذب والافتراء”، وفي آخر رد فعل على أرقام القتلى التي نشرتها “رويترز”، اعتبر المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، أمس الأربعاء، أنها “مبالغ فيها كثيرًا”، قائلًا “إنني أنفي صحتها”، مع التأكيد على أنه “سيتم الإعلان عنها”.
يذكر أنه منذ فبراير الماضي وصلت الاضطرابات إلى أكثر من 100 مدينة وتحولت إلى احتجاجات سياسية، فيما طالب المتظاهرون وهم من مختلف طبقات وفئات المجتمع بتنحي القيادات الدينية، والقضاء على الفساد والمحسوبية وفتح المجال العام أمام الشباب للتعبير عن أرائهم.
لم تتحمل السلطات الوضع كثيرًا، فبحلول 18 نوفمبر بدأت شرطة مكافحة الشغب تطلق النار عشوائيًا على المحتجين في الشوارع وقالت واحدة من سكان طهران في اتصال هاتفي إن ”رائحة البارود والدخان في كل مكان“، مضيفة في تصريحاتها للوكالة الإنجليزية أن الناس يتساقطون على الأرض وهم يهتفون بينما سعى آخرون للجوء إلى البيوت والمتاجر.
وروت أم لفتى عمره 16 عامًا كيف احتضنت جثته التي غطتها الدماء بعد إصابته بالرصاص خلال احتجاجات في مدينة بغرب إيران في 19 نوفمبر تشرين الثاني. ووصفت المشهد في مكالمة هاتفية اشترطت فيها إخفاء هويتها، قائلة ”سمعت الناس يتصايحون ’أصيب بالرصاص. أصيب بالرصاص‘. فجريت ناحية المتجمهرين ورأيت ابني لكن الرصاص نسف نصف رأسه“. وأضافت أنها كانت قد حثت ابنها، الذي ذكرت أن اسمه الأول هو أمير حسين، على عدم المشاركة في الاحتجاجات لكنه لم ينصت لها.
مأزق صعب بات فيه النظام الإيراني أمام الاحتجاجات التي تتجدد بين الحين والأخر، في ظل التأرجح بين الفشل والتباطؤ في التعاطي معها
صحيفة “واشنطن بوست” في افتتاحيتها في 18 نوفمبر الماضي تعليقًا على الاحتجاجات التي اندلعت في طهران عقب قرار رفع أسعار الوقود، قالت إن إغلاق شبكات الإنترنت أصبح استراتيجية عامة تلجأ إليها الأنظمة الديكتاتورية الراغبة في إضعاف قوة المتظاهرين، وتخفيف حدة سخطهم، إلا أن الخبراء يقولون إن رد فعل الحكومة الإيرانية هذا الأسبوع على التظاهرات الواسعة بسبب زيادة أسعار البنزين هو الأكبر”.
وبينت في افتتاحيتها أن “التهديد هو أن الدول التي لم ترتبط بالإنترنت ستقوم بخلق شبكات كما يقول ألب توكر من منظمة الرقابة (نيتبلوكس)، (تم تصميمها لتخريبها عندما الحاجة)، تمامًا كما فعلت الصين مع (غريت فايروول)، وهذه الدول معظمها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي في قلب معركة تطرح أسئلة على طبيعة الإنترنت، وإن كانت ستظل (الشبكة العنكبوتية العالمية)، وفيما إن كانت الحكومات ستواصل السيطرة على سيادة الإنترنت والمعلومات المسموح لها بنشرها داخل حدودها وما يسمح خارجها”.
مأزق صعب بات فيه النظام الإيراني أمام الاحتجاجات التي تتجدد بين الحين والأخر، في ظل التأرجح بين الفشل والتباطؤ في التعاطي معها بالشكل المرضي، وهو ما يعمق الغضب الشعبي الذي بات من الواضح أنه عرف الطريق جيدًا مهما كانت الخسائر، وتبقى الكرة الآن في ملعب روحاني وحكومته، فإما امتصاص الغضب سريعًا أو تكرار سيناريو 2009، لكن هذه المرة ربما تكون التداعيات كارثية.