ربما يعود تاريخ البقعة الجغرافيّة التي يشغلها الأردن حاليًا إلى كثير من القرون الغابرة قبل الميلاد حسبما تشير عدد من الاكتشافات الأنثربولوجية الحديثة، كما يعتبر العرب وعدد من جذورهم العرقيّة بالفعل جزءًا من متوالية التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ لهذه البقعة في بعض من الفترات المتقدمة نسبيًا، كما كان الحال في العصر النبطيّ والعهد البيزنطيّ (الغساسنة مثلًا).
ولكنّ المؤكد قطعيًا أن الأردن، المملكة التي نعرفها حاليًا كدولة عربيّة صغيرة المساحة تقع في جنوب غرب قارة آسيا، قد ارتبطت نشأتها بـ”العائلة الهاشمية”، بدايةً من منتصف العقد الثاني من القرن العشرين على وجه التحديد.. فما قصة هذا الحكم؟
الثورة العربية الكبرى
بحلول نهايات العقد الأول من القرن العشرين، كان الوجود العثمانيّ في شبه الجزيرة العربيّة قد بدأ في الانحسار والأفول، كنتيجةٍ حتمية لعدد من العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تعاضدت لترسم مشهد شيخوخة هذا الكيان، وقد حلّ محلّه عدد من الهويات الثقافية الفرعية مثل الأشراف الهاشميين في الحجاز، وآل سعود في نجد، والأدارسة في عسير، وآل رشيد في الساحل والجوف؛ فيما لم يتبق من النفوذ العثمانيّ إلا وجود هامشيّ يهدف لحماية طريق الحجّ.
ورغم ضعفها العامّ، ونفوذها الآخذ في التراجع، كانت بريطانيا العظمى تتحيّن الفرصة لتحييد الخلافة التركية عن العالم الإسلاميّ بالكامل، وذلك نظرًا لاعتباراتٍ “إستراتيجية” تتعلّق بخطورة انضواء المسلمين تحت رايةٍ واحدة على مخططاتها المستقبلية في الإقليم بشكل عامّ. وقد تزايدت هذه الحاجة البريطانيّة إلى إقصاء الأتراك عند اصطفاف الدولة العثمانية مع الألمان ضد كلّ من إنجلترا وفرنسا وروسيا القيصريّة في الحرب العالمية الأولى 1914.
في هذه الآونة، بدأت بريطانيا تفكر جديًا في الاستثمار بالقوة الاجتماعية والسياسية التي باتت تجاهر بالعداء للخلافة العثمانيّة وتخطط بالفعل للثورة عليها؛ الهاشميين من نسب قتادة، بقيادة الشريف الحسين بن علي الذي يعود نسبه التاريخيّ إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ حيث راهن الإنجليز على طموح “الشريف” الجامح في السيطرة على آسيا العربية، والتي تتضمن فلسطين وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية، وسطوة سرديّته الرائجة حينها عن أفضلية الوحدة العربيّة على الوحدة التركية، وتأييد كثير من الشرائح الاجتماعية والسياسية لثورته المنتظرة، وعلى رأسهم عبد العزيز آل سعود في نجد.
لم يستفق قائد الثورة العربية من سباته إلا بعد أن وجد نفسه في الإقامة الجبريّة بقبرص، وقد سيطرت إنجلترا على فلسطين، واستحوذت فرنسا على سوريا ولبنان
وبحسب وثائق الأرشيف البريطاني فإن الإنجليز قد تبنّوا دعم ثورة “الشريف” منذ انطلاقها من الحجاز، يونيو/ حزيران 1916، بنحو 71 ألف بندقية و2 مليون طلقة وآلاف الأسرى والعملاء، بل وإيصال السجائر لأبنائه المدخنين، حتى سلّم الشريف زمام أمره إلى البريطانيين، ورفض تصديق التسريبات الواردة من روسيا – بعد انهيار النظام إثر نجاح الثورة البلشفية – عن تخطيط لندن وباريس لابتلاع المنطقة بدلا منه؛ ووثق فيهم إلى الحدّ الذي جعله يبارك سيطرتهم على القدس، باعتباره احتفاظًا مؤقتًا وستؤول إليه المدينة في النهاية.
ولم يستفق قائد الثورة العربية من سباته إلا بعد أن وجد نفسه في الإقامة الجبريّة بقبرص، وقد سيطرت إنجلترا على فلسطين، واستحوذت فرنسا على سوريا ولبنان، بل وأسس عبد العزيز بن علي آل سعود، الذي كان يتماهى مع الجميع شكليًا بينما كان يدين بالولاء إلى لندن، دولةً في نجد؛ فيما حصل أبناء الشريف على الفتات بالحجاز (علي)، وفي العراق (فيصل الأول)، وقد أسس نجله عبد الله دولة في الجزء الشرقي من نهر الأردن، تحت اسم “إمارة الأردن الشرقية” عام1921.
نكبة الابن المؤسس
ربما نجح الابن المؤسس، عبد الله الأول نجل الشريف حسين، في تأسيس نواة وحدةٍ سياسيّة مركزيّة جديدة في إقليمٍ يعتمد في الأساس على المكوّن العشائريّ والبدويّ من الناحية الاجتماعية، خاصّة إذا علمنا أنه قد وضع أول دستور عرفته للبلاد عام 1928 وأقام انتخاباتٍ محلّية صغيرة يرجع إليها الفضل في تدشين هُوية البلاد السياسية المنفتحة حاليًا.
ولكنّه ظلّ يتأرجّح في سياساته الخارجية بين النفوذين البريطانيّ والصهيونيّ، فلم يحصل على أكثر من استقلال شكليّ عام 1946 تبعه قرار أمميّ رسميّ بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب في العام التالي. وباستثناء بعض المعارك التي أبلت فيها قواته حسنًا أمام العصابات “الإسرائيلية” في القدس، فقد سُحق جنوده عام 1948، شأنهم شأن معظم القوات العربية، حيث نجح اليهود في تثبيت وضع ميداني احتلالي جديد على الأرض في الشمال والوسط.
وأمام هذه الهزيمة النكراء، وشعور بعض الفلسطينيين بالخذلان من التقاعس العربيّ عن أداء واجبهم في حماية البلاد، وفي أجواء من الشحن السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ على خلفية استقبال الملك الأردني الجديد عددًا من القيادات “الإسرائيلية” مثل “جولدا مائير”، اغتيل عبد الله الأول أثناء دخوله للصلاة في القدس يوم الجمعة عام 1951، على يد أحد الشباب الفلسطينيّ، حيث كان برفقته وقتئذ حفيده الصغير، الملك حسين، وقد مثلت هذه الحادثة نقطة سوداء في تاريخ العلاقات الأردنية الفلسطينية، ومشهدًا فارقًا في خيال الحفيد الصغير.
حسين بن طلال: ملك الصدفة
في الوقت الذي تعرّض خلاله الابن المؤسس للاغتيال، كان وليّ العهد الأردنيّ – الأمير طلال – في رحلة علاجيّة بالخارج، حيث كان يتداول آنذاك خبر إصابته بمرض نفسيّ مزمن. لذلك، كان من الطبيعيّ أن يُدفع بشقيقه الأصغر، الأمير نايف، إلى السلطة، خاصّة أنه كان مستعدًا لذلك من الناحية النفسية، وقد حمل بالفعل من الملك عبد الله وصيةً ضمنيّة تفيد بتولّي “الأكثر صلاحيّة” سلطة الحكم، تمهيدًا لإعلان الوحدة مع الملكيّة الهاشمية التّي كان يتولّى حكمها أبناء عمه في العراق.
ومع ذلك فلم تكن فجائية موت الملك، ومرض “طلال”، وجهوزيّة “نايف” – المدعوم عراقيًا ومن بعض وحدات الجيش – للحكم، وصغر سن نجل الأمير طلال الأكبر (حسين) أسبابًا كافية لإرضاء النزق البريطانيّ السعوديّ، الذي قرر أن يدفع بطلال المريض إلى الحكم مؤقتاً، لحين اكتمال نجله الذي كان يدرس في أكاديمية “ساند هيرست” السنّ القانونية للحكم (18 ربيعًا)؛ وهو ما حدث بالفعل.
بيدَ أن الملك المختار لم يكن وفيًا لصانعيه كلّ الوفاء، وإنما كان يمارس السياسة بحذافيرها مستخدمًا “مشرَط جرّاح”، فهو يعلم علم اليقين قلة الموارد وضيق الخيارات، وليس أمامه خيار أفضل من توظيف أخطاء الآخرين. يريد الملك حماية دولته الوليد وإرثَ أجداده الهاشميين، ولكنه ملك بلا جيش، فالجيش بريطانيّ من الألف إلى الياء تقريبا، ويتربص به أعداء خارجيون مدعومون من الغرب، وقد عاد لتوّه مهزومًا أمامهم،. ويستنجد به منهم في نفس الوقت أشقاء مقهورون، استنجادًا كان يعتبره “ابتزازًا” في بعض الأحيان. وبين هذا وذاك، كان قلقًا من المدّ القوميّ الناصريّ المتأثر بالشيوعيّة الذي يضطر مجبرًا للتعامل معه تحت مظلة العلاقات العربية.
استطاع الملك بعد ثلاثة أعوام فقط أن ينهي الهيمنة البريطانية على الجيش، عبر تنفيذه مخططًا “وطنيًا” للإطاحة بالجنرال “كلوب”، مستغلًا نهاية مدته القانونية وغضبَ “الضباط الأحرار” من وجوده، وشرع في تعريب الجيش، مستعينًا بخاله “ناصر بن جميل” وصديقه “زيد بن شاكر” وبعض الحرس القديم. ولكن تيّار القوميّة العربيّة الجارف كان أعلى من قدرته؛ فخسر الرافدَ الملكيّ الهاشميّ بالعراق، على يد “الضباط الأحرار”، عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، الذين قادا مجزرةً وحشية آب/ أغسطس 1958، انتهت بمقتل العائلة الهاشمية كلها في “قصر الروضة”، وعلى رأسها الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله وليّ العهد؛ ولم تنج منها إلا الأميرة بديعة، ابنة الملك علي.
وقد دفعت عوامل مثل مخاوف الملك حسين على السلطة، وتحركات ناصر الداعمة لانفصال الفلسطينيين عن الأردن عبر بوابة “منظمة التحرير” وشعارات القومية العربية، واستنفار المعارضة الفلسطينية المسلحة ضد “الإسرائيلييين” بعد نكسة حزيران 1967 انطلاقًا من الأردن، ثم انخراط نفس المقاومة في مشاريع سلام عقب حرب تشرين 1973، إلى تبني الملك الأردني خطًا تقاربيًا سريًا مع الاحتلال وصلت ذروته في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحاق رابين”، الذي وقع معه معاهدة “وادي عربة”، تشرين الثاني 1994، بعد إعلان “فك الارتباط” بين الأردن وفلسطين عام 1988.
وفي سبتمبر/ أيلول من العام الحالي، حذف مركز أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي” محاضرةً مصورةً للأستاذ بالجامعة العربية “آشر سسار”، بعد ما كشف الأخير معلوماتٍ خطيرة عن التعاون بين الأردن و”إسرائيل” في الفترة من 1948 إلى 1973. وبحسب مداخلةٍ لآرئيل كهانا، المحلل الإستراتيجي العبري أكتوبر/ تشرين الماضي، فإن الملك حسين وجه بالفعل إنذارًا لـ”إسرائيل” قبل موعد انطلاق الحرب. كما وصف إتيان هابير مدير مكتب إسحاق رابين العلاقة بين رئيس الوزراء “الإسرائيلي” والملك حسين – في لقاء مع الجزيرة – بأنها “صداقة من جانب الملك بنسبة 150٪. في أسوأ الظروف كانت زيارة قصيرة من رابين لمدة ساعتين إلى عمّان كفيلة بحل أي مشكلة، إذا لم تكن بمكالمة هاتفية!”.
عبد الله الثاني
توفيَ الملك حسين بن طلال فبراير/ شباط 1999 بعد ما أنهكه السرطان والسياسة، وقد كان بديهيًا في ذلك التوقيت أن ينتقل الحكمُ بسلاسة إلى وليّ العهد، شقيقه الأصغر، الأمير حسن بن طلال، الذي ظلّ يشغل هذا المنصب لمدة 33 عامًا، وحتى أيامٍ قليلة قبل وفاة الملك.
لا أحد يعلم ما الذي حدث على وجه التحديد كي تنتقل ولاية العهد – والسلطة – من جيل إلى جيل بهذه السرعة، وبهذا الشكل المفاجئ، ولكن المرجح أن تنسيقًا “إسرائيليًا” أردنيًا عالي المستوى قد تسبب في هذا التحوّل، وقد نجح الملك حسين في إخراج مشهد انتقال ولاية العهد إلى ابنه “عبد الله” بشكل لا يظهر منه أي توتر أو اضطراب في الأفق، حيث حضر الملك حسن نفسه مراسم التسليم – التي أشرف عليها الملك، وعلى وجهه ابتسامة راضية.
وبالنظر إلى كون الأردن بلدًا مُستقبلًا، صغير الحجم، ضعيف الموارد؛ فقد نجح الملك عبد الله الثاني في إدارة البلاد بأقلّ الخسائر الممكنة وتجنيبِ شعبه الهادئ ويلات الحروب والاضطرابات، بدءًا من اجتياح العراق (شرقي الأردن) عام 2003، مرورًا بالكساد العالميّ 2009، ووصولًا إلى موجة الربيع العربي، والأزمة السورية والإرهاب المعولَم، بل ويعتبره بعض المراقبين ساعيًا بقوة إلى التحوّل من “زبون سياسيّ” إلى “شريك سياسيّ”، خاصّة بعد تراجعه عن الانخراط في الحلف الرأسمالي الخليجي المحاصِر لقطر 2017، واتخاذه خطواتٍ جادة في سبيل تطبيع العلاقات معها، وتوطيد علاقته مع تركيا.
تنبأ باحثون بحصول تغير سلبيّ جوهريّ في بُنية المملكة الأردنيّة، قد يكون متعلقًا بخسارة أراضٍ جديدة أو بتغير في الحكم، خلال الفترة الحالية
ومع ذلك، يعيش الأردن واحدةً من أصعب فتراته السياسية والاقتصادية. فالاحتجاجات الاجتماعية الواسعة، على غرار “الدوار الرابع” وثورة المعلمين و”غاز العدو احتلال”، تفور بين الحين والآخر، والحكومات التي دأبت تمتص الصدمات نيابةً عن الملك عاجزة عن إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاد الوطني؛ حيث يعتبر الأردن واحدة من أعلى دول العالم إنفاقا على الأمن بنسبة تصل إلى 4.8٪، في نفس الوقت الذي يعد واحدًا من أغلى بلاد العالم في تكلفة المعيشة قياسًا على الدخل، وبحسب إحصائية عالمية متعلقة بالثروات (2016)، فإن عدد “المليونيرات” في الأردن يقدر بـ 6300 شخص.
وفي أحدث تقاريرها السياسية المتعلقة بالأردن، أشارت صحيفة “هآارتس” العبرية إلى وجود مخطط “يميني” بقيادة بنيامين نتنياهو، يستهدف الإطاحةَ بملك الأردن، الذي يقف عائقًا أمام خطة “الوطن البديل” الإسرائيلية، وذلك بحجة أن قيام المملكة الهاشمية بدعم بريطانيّ لم يكن شرعيًا منذ البداية. ويكتسب هذا التقرير أهميةً مخصوصة بعد فترة توتر ملحوظ في العلاقات بين البلدين، على خلفية عدة حوادث، أهمّها اعتقال أردنيين في “إسرائيل” بدون تهم واضحة ورفض الأخيرة شراء الأردن طائرات دون طيار متطورة من جهة، وإصرار الملك عبد الله على استعادة “الباقورة – والغمر” من جهة أخرى، كما تدرّب الجيش الأردني على التصدّي لاجتياح “إسرائيلي” للبلاد هذا الشهر.
وباستخدام نموذج رياضي يطوّع العلوم الإحصائية في خدمة العلوم السياسية (التغير التاريخي)، تنبأ باحثون بحصول تغير سلبيّ جوهريّ في بُنية المملكة الأردنيّة، قد يكون متعلقًا بخسارة أراضٍ جديدة أو بتغير في الحكم، خلال الفترة الحالية. ويخطط نتنياهو بالفعل إلى ضم “غور الأردن” الذي يمثل 28٪ من مساحة الضفة الغربية خلال الخمسة أشهر القادمة، وهو ما قد يستتبعه احتلال كامل لمنطقة نهر الأردن بحسب محللين. وعلى نحو ضمنيّ، يُعتبر الأمير حسين الابن الأكبر للملك من أصل 4 أبناء، الضابط في الجيش (ملازم أول) والمتخصص في التاريخ الدوليّ الذي يحظى بقبول عالميّ، أقرب المرشحين لخلافة الملك عبد الله، وذلك بعد إطاحة الملك بأخيه “حمزة” من ولاية العهد عام 2009.. فهل تفعلها “إسرائيل” مجددا؟