تجثو فيكتوريا باسير بجوار شجرة عيد الميلاد الكبيرة المضاءة في منزل أحد أطفالها، وهي تنظر لصورة قديمة لنفسها وزوجها في يوم زفافهما في بداية الثلاثينيات، ويحيط بها ثلاثة من أحفادها وهم يلعبون بألعابهم الجديدة. وعلى الطاولة، توجد لوحات مليئة بشوكولاتة سانتا كلوز والبسكويت، حتى تتناولها العائلة والأصدقاء الذين سيتوقفون للاحتفال بالعيد.
تعدّ فيكتوريا أما لستة أطفال وأقدم متساكني قرية طيبة شرقيَ مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة، حيث تجاوز سنها 102 عامًا. وفي هذا الإطار، صرحت فيكتوريا قائلة إنها تقضي بعض الوقت في تذكر ذكريات طفولتها خلال عيد الميلاد، والتي كانت تحتفل به في الماضي بطريقة أبسط بكثير. وفي هذا الصدد، قالت فيكتوريا: “لا يوجد أي شيء كالسابق. واليوم، بات عيد الميلاد يرمز للتقليد والإسراف والمبالغة. ولم يكن ذلك جزءًا من تقاليدنا وعاداتنا”.
لا أشجار لعيد الميلاد
لوصف كيفية احتفال الفلسطينيين بعيد الميلاد في الماضي، أفادت فيكتوريا أنهم كانوا يبدؤون الإجازة بالصلاة في الكنيسة وينهونها بإجراء زيارات اجتماعية. ولم يكن هناك أشجار عيد الميلاد، ولا هدايا، أو ثياب جديدة وحلوى. ولم يكن يوجد سوى الحب والسلام والرضا.
سنويا، كانت والدتها تطبخ الطبق الفلسطيني الشهير “المفتول”، الذي يشبه في ملمسه الكسكس. وفي هذا الصدد، قالت فيكتوريا إنها ستصنع أيضًا نوعًا خاصًا من الحلوى التي تم نسيانها في الوقت الراهن. وفي هذا الإطار، صرحت فيكتوريا قائلة: “كانت حلوى سهلة الصنع تسمى القرصة. وكانت والدتي تحضر العجينة عشية عيد الميلاد، ثم تلفها بقطعة قماش وتعلقها في السقف حتى اليوم الموالي، ثم تخبزها في فرن الطين القديم. وعندما تنتهي من طهيها، تقوم بتقطيعها وسكب بعض قطرات زيت الزيتون على الوجه، ومن ثم ترش عليه القليل من السكر. وهذا ما كنا نتناوله في وجبة الإفطار في يوم عيد الميلاد”.
كان والدي يشتري بالضبط سبع قطع من حلوى “بيض الحمام” لكل واحد من أولاده
وتجدر الإشارة إلى أن فيكتوريا لا تتذكر أبدًا ارتداء ملابس جديدة أو تلقي الهدايا في عيد الميلاد، حيث لم يكن ذلك جزءًا من الطقوس. وفي هذا السياق، قالت فيكتوريا: “كان والدي لا يشتري سوى سبع قطع من حلوى “بيض الحمام” لكل واحد من أولاده. وكنت أنا وأخوتي نتحصل على قطعة من الحلوى ونشعر بأقصى درجات السعادة. وعلى الرغم من أنه توجد عدة أنواع من الشوكولاتة والبسكويت، في الوقت الراهن، إلا أن روح عيد الميلاد الحقيقية مفقودة”.
بالنسبة للزائرين خلال العطلة، ستقدم الأُسر التين المجفف الذي خزّنوه في الصيف إلى جانب القهوة. في هذا السياق، أشارت فيكتوريا إلى أن وضع شجرة عيد الميلاد في المنزل بات مؤخرًا جزءًا من تقليد الأعياد في فلسطين. وأضافت فيكتوريا قائلة إنه “خلال الصلاة في الكنيسة، كان الكاهن يمنح بركاته لمجموعة من أغصان الزيتون الصغيرة، التي كان سيوزعها علينا فيما بعد. بعد ذلك، ستعود كل عائلة إلى المنزل وتعلق غصن الزيتون في المنزل”.
على الرغم من بساطة احتفالات الأعياد في الماضي، أفادت فيكتوريا أن النقاء والسعادة الحقيقية التي كانت سائدة بين العائلات الفلسطينية في عيد الميلاد اختفت بعد النكبة، أو الكارثة التي حدثت في سنة 1948، عندما فرّ مئات الآلاف أو طُردوا من أراضيهم على أيدي القوات شبه العسكرية اليهودية خلال الصراع الذي نتج عنه التقسيم التاريخي لفلسطين وأدى إلى إنشاء إسرائيل.
في سياق متَصل، تساءلت فيكتوريا بنبرة حادة قائلة: “كيف يمكننا مواصلة الاحتفال بعد احتلالهم لفلسطين؟ سيمضي عيد الميلاد في صمت لسنوات، حيث رفضت أُسر القرية مراسم البهجة وتوزيع الحلويات. لقد علّقنا الأعلام السوداء على منازلنا وعِشنا في ظل خوف متواصل من الهجوم على القرية، الذي أصبح ممرا وملاذا للمقاتلين ضد الاحتلال”.
قد ترنُّ الأجراس
تتجمع نساء مسنات أيام الأحد في الكنيسة الأرثوذكسية في دير العذراء مريم، الواقعة شماليَ مدينة رام الله، وتحديدا في قرية عابود، حيث يشاركن في أداء الخدمة الدينية، ويرفعن أصواتهن أثناء الصلاة قبل التوجه إلى قاعة في الكنيسة. وأسبوعيا، تجتمعن لشرب القهوة والتواصل مع بعضهن البعض. وهناك، يُناقشن الاستعدادات لعيد الميلاد ويَستحضرن ذكريات الطفولة خلال الاحتفالات.
تجدر الإشارة إلى أن عددا من المسنات تشبَثن في منطقة عابود بتقليد ارتداء الثوب الفلسطيني المطرز؛ وهي ممارسة اندثرت تدريجيا مع مرور الوقت. تحضر رفيحة إلياس، البالغة من العمر 83 سنة، الصلوات وهي ترتدي ثوبا بنيا مطرزا بالحرير الأحمر وهي ترتدي وشاحا أبيضا لتغطية شعرها. في هذا الصدد، صرحت رفيحة لموقع ميدل إيست آي: “في عابود، نواصل التمسك بتقاليد عيد الميلاد وطرق الاحتفال في الماضي، إذ لطالما ترافقت سعادتنا بالقلق والخوف من غارات الجيش الإسرائيلي على القرية”.
تشتهر نساء عابود محليا بإبداعهن ومهاراتهن في صنع مأكولات أعياد الميلاد، وأهمها عصيدة القمح المعروفة باسم بربارة، في إشارة إلى عيد القديسة باربرا، وهي عطلة سنوية يتم الاحتفال بها في العالم العربي في الرابع من ديسمبر/كانون الأول. في السياق نفسه، أضافت رفيحة قائلة: “خلال عيد الميلاد، كنا نصنع جميع أنواع الحلويات الفلسطينية الشعبية، على غرار الزلابية والمطبق. في المقابل، لم تعد حالتي الصحية تسمح بذلك”.
رفيحة إلياس وزوجها سعد إلياس
يروي زوج رفيحة، سعد إلياس بشارية، البالغ من العمر 89 سنة، بشغف ذكريات عيد الميلاد قائلا: “كانت الأجراس ترن وتفتح الكنائس أبوابها، حيث نبدأ يومنا بالصلاة، قبل زيارة العائلة والأصدقاء والجيران وتبادل البركات وتقديم الحلويات والقهوة”. ومع ذلك، يشعر إلياس بالأسى نظرا لأن تقاليد عيد الميلاد، لم تعد كما ذي قبل.
أما اليوم، ذكر سعد أن “جميع هذه الإجراءات تراجعت اليوم، وباتت الزيارات الاجتماعية تقتصر على الأسرة”، موضحا أن الاحتلال الإسرائيلي جعل من الصعب، وربما من المستحيل، الوصول إلى العائلة والأصدقاء أو حتى الصلاة في كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس. وتابع سعد مُبيّنا وجود نقاط تفتيش تابعة للجيش الإسرائيلي في كل زاوية هذه الأيام حتى عند مدخل قريتنا، حيث تُجبرهم على التوقف والتأخير وتُقيّد تحركاتهم. لقد أصبحت الحياة بالنسبة لهم أكثر تشددا كل يوم، حيث يفقدون إرادتهم للاحتفال بالأعياد ويشعرون بالخوف والقلق طوال الوقت”.
بالنسبة لتطور شجرة عيد الميلاد، يستذكر سعد اليوم الذي كان يضع فيه رفقة “فرعا بسيطا من شجرة السرو ويزينونها بأزهار طبيعية”، والتي تختلف اختلافا كبيرا عن “الأشجار البلاستيكية الموجودة اليوم، المزيّنة بالأنوار والزينة والمصابيح الزجاجية الملونة”. كما يؤكد سعد أن حلويات عيد الميلاد والهدايا كانت أكثر بساطة في الماضي، حيث كانت حلوى الحلقوم تمثل الهدية التي يحصلون عليها خلال العطلة. وفي الواقع، اعتاد كل واحد مهم الحصول على قطعة واحدة. مع ذلك، كنا نشعرهم أننا تلقينا هدية كبيرة. ولتناول غداء عيد الميلاد، كانت عائلة سعد تطهو الدجاج، بينما تصنع رفيحة طبق المفتول التقليدي.
تقول رفيحة: “كل ما نتمناه هو السلام ووضع حد للاحتلال”. ويقول سعد، الذي يتابع السياسة عن كثب، إن الواقع المتدهور للفلسطينيين يشكل مصدر قلق دائم؛ خاصة أن “سياسات ترامب التي تخدم مصالح إسرائيل تقضي بمصادرة باقي أراضينا”. وأضاف سعد أن “مستقبل الفلسطينيين غير معروف، لكننا نواصل التمسك ببحثنا عن السلام وتحرير فلسطين”.
في حديثها مع مراسل “ميدل إيست آي”، قالت جليلة وهي أم لـ 10 أبناء وتبلغ من العمر 71 عامًا وجدة لـ 32 حفيدا، حضرت الكنيسة مع ابنتها: “في الماضي كان عيد الميلاد أكثر مرحا. لقد احتفلنا ونحن مغمورون بالأمن والأمان، على عكس وضعنا اليوم”.
لقد احتفلنا ونحن مغمورين بالأمن والأمان، على عكس وضعنا اليوم
أمضت جليلة معظم شبابها تعمل في حقول أسرتها في عبود، حيث كانوا يزرعون البصل والثوم والقمح. كانت هي وعائلتها ينتظرون العطلات بفارغ الصبر لأخذ قسط من الراحة من العمل الميداني المرهق. وفي حديثها عن ذلك، قالت جليلة أن “الاحتلال الإسرائيلي صادر قطعة أرض من أراضينا تضم أكثر من 100 شجرة زيتون وأعطاها لمستوطنة بيت أرييه القريبة. لم يعد مسموحًا لنا بالوصول إليها… لقد فقدنا كل هذا العمل الذي بذلناه في الميدان بلمح البصر”. يتم الاحتفال بيوم عيد الميلاد باعتباره مناسبة لزيارة العائلة والأصدقاء لتناول الغداء معًا في المنزل، حيث أكدت جليلة: “ستطبخ لنا والدتي إما مقلوبة أو مفتول”.
تقول أم الخمسة أبناء ذات 65 سنة وجدة لـ 18 حفيدا، إنها ترغب في أن يعود عيد الميلاد إلى ما كان عليه في الماضي. حيال هذا الشأن، قالت: “لم نكن لنرتدي ملابس جديدة، وقد كان كل شيء بسيطًا للغاية، بما في ذلك الطعام الذي نتناوله. كانت الأجواء مليئة بالحب والراحة. لقد تغيرت قيمة عيد الميلاد اليوم – حيث بات يستغله الناس كفرصة للتباهي بالملابس والمنازل والهدايا”.
مريم حميد: “تغيرت قيمة عيد الميلاد اليوم – يستغله الناس كفرصة للتباهي بالملابس والمنازل والهدايا”.
تذكر مريم كيف كانت والدتها تصنع هدايا خاصة، بما في ذلك بسكويت الكعك المحشو بالتمر والجوز – وهي وصفة ورثتها. وتابعت مريم قائلة: “ترفض الأجيال الجديدة صنعها – ويعتمدون اليوم على الحلويات الجاهزة التي يقتنونها من المتجر. نخشى أن ينسوا حلويات عيد الميلاد الشهيرة التي أتقنّاها”.
عطلة للأطفال
في قرية بيت جالا شمال غرب مدينة بيت لحم، تجمعت عائلة عطا الله خليل أبو غطاس للاحتفال بالعطلة مع أحفادهم الذين كانوا يرتدون ملابس جديدة ويأكلون الحلويات التقليدية التي أعدتها لهم جداتهم، والتي تمثلت في فطائر المربى والمكسرات. أورد عطا الله في حواره مع موقع ميدل إيست آي: “كان هناك عدد أقل من الناس في الماضي، لذلك كنا أكثر تقاربا مع بعضنا البعض – لذلك مثل عيد الميلاد عطلة حميمة للغاية. ومع ذلك، كان للوضع السياسي في فلسطين تأثير مباشر على جو عيد الميلاد”.
عطا الله غطاس: “أصبح عيد الميلاد بمثابة عطلة بالنسبة للأطفال، لجلب البهجة إلى قلوبهم على الرغم من الوضع السياسي الصعب وتأثيره علينا”.
يقول عطا الله إنه خلال الحكم الأردني على الضفة الغربية، زاد عدد السياح بشكل كبير مما حوّل طبيعة عيد الميلاد في فلسطين من عطلة بسيطة ولكن مُعتز بها إلى عطلة تضم العديد من العناصر الغربية، بما في ذلك الزخارف الباذخة وأشجار عيد الميلاد. وأضاف عطا الله أن احتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967 أثر بشكل مباشر على احتفالات عيد الميلاد الفلسطينية، وألقى بظلاله المظلمة على فرحة وروعة العطلة.
أفاد عطا الله: “اختفى صفاء عيد الميلاد. لا يمكننا أن نحتفل بينما ترزح البلاد بأكملها تحت سيطرة الاحتلال لتنقلب حياتنا رأسا على عقب، حتى التفاصيل الدقيقة منها”. خلال السنوات الأولى من احتلال سنة 1967، سُجن عطا الله وأمضى خمس سنوات خلف القضبان. حيال هذا الشأن، قال: “لم يعد من أولوياتي الاحتفال بعيد الميلاد. كانت أولويتنا المشتركة الكفاح والدفاع عن وطننا”. وتابع قائلا: “أصبح عيد الميلاد بمثابة عطلة للأطفال، نشتري لهم فيها ملابس وألعاب جديدة ونحاول إدخال البهجة إلى قلوبهم على الرغم من الوضع السياسي الصعب وتأثيره علينا”.
يوضح عطاالله أنه على مر السنين، غادر العديد من المسيحيين الفلسطينيين من بيت جالا البلاد بحثًا عن مستقبل أفضل – حيث يعيش الكثير من المهاجرين من هذه القرية الآن في تشيلي. وحسب المصدر ذاته، تعني الهجرة الجماعية أن الزيارات الاجتماعية خلال عيد الميلاد أصبحت مقتصرة على أفراد الأسرة المقربين فقط. في هذا الصدد، قال عطا الله: “احتفلنا بعيد الميلاد في الماضي بأمان ودون قلق أو ضغوط. مع احتلال إسرائيل والوضع السياسي اليوم، لا يبدو عيد الميلاد كما كان عليه”. وأضاف قائلا: “لا أعتبر نفسي أحد الأشخاص الذين يحتفلون بعيد الميلاد. بالنسبة لي، إنها عطلة لأحفادي الصغار”.
المصدر: ميدل آيست آي