اضطهاد وسجن وتعذيب نفسي وجسدي، ممارسات لا تعد ولا تحصى تقوم بها الصين بحق شعب الإيغور منذ أكثر من أربع سنوات وسط تجاهل دولي كبير. معسكرات اعتقال جماعي يطلق عليها “مخيمات إعادة التأهيل” بينما هي في الحقيقة أشبه بسجون تسلب كل أنواع الحرية والحقوق. ممارسات تفرض على ٣٠ ألف نسمة من مسلمي الإيغور تذكّر بإبادات عرقية ودينية حصلت على مرّ التاريخ، وفق خطة مدروسة وممنهجة تسعى للتحكم بالحياة الفردية والاجتماعية والدينية بشكل خاص، فيما يبحث هذا التقرير تاريخ منطقة شعب الإيغور وتاريخ الاحتلال الصيني وأسبابه.
من هم الأويغور؟
الأويغور أو ئۇيغۇر، وتعني الاتحاد والتضامن باللغة الأويغورية، هم شعوب وأقليات سكنت شرق آسيا في منطقة تقع جغرافياً بين الصين ومنغوليا وكازاخستان وباكستان وأفغانستان وإقليم كشمير وهي سلسلة من الواحات المنتشرة عبر صحراء تكلامكان وتضم أحواضاً عدة مثل حوض “تاريم” وهي منطقة خضعت لسيطرة العديد من الحضارات تاريخياً بما في ذلك الصين والمغول والتبت والحضارات التركية القديمة، وبفضل هذه المكانة الجغرافية المميزة اكتسبت موقعاً استراتيجياً مهماً يجعل منها مطمعاً للكثير من الدول. يعود تاريخ وجود شعب الأويغور أو تركستان الشرقية بشكلها الحالي إلى ما قبل الميلاد فهم أقليات من الصين وباكستان ومنغوليا والأتراك التتر وبلاد القوقاز سافرت وارتحلت كثيراً حتى بدأت الاستقرار في المنطقة قبل ٤٠٠٠ عام حسب ما يقوله مؤتمر الأويغور العالمي. اندمج الإيغور تحت اسم واحد بعد سلسلة من الهجرات الممتدة على مرّ السنين حتى توسع اسمهم ليصبح أصلاً عرقياً منفصلاً نشأ بعد اقتتالات عنيفة بين عدة قبائل.
يعتبر الأويغور المعاصرون مسلمون في المقام الأول وثاني أكبر عرق مسلم في الصين. ويتبع أغلبهم الآن المذهب السني
خلق هذا التنوع في الأعراق والأديان على مرّ آلاف السنين هوية وثقافة جديدة تتضمن لغة وعادات وتقاليد أدت إلى نشوء مكوّن العرق الأويغوري الذي نعرفه الآن، إلا أن الكثير من القبائل ما زالت تحافظ على تاريخ أجدادها من خلال استخدام لغاتهم وعاداتهم القديمة، مثل القبائل التي هاجرت من منغوليا والتي تعتبر من أبرز مكونات شعب الأويغور، بالإضافة إلى قبائل ساكا الإيرانية، وشعوب الهندو-أوروبية الأخرى.
عرف الأويغور دين الإسلام في بدايات القرن العاشر، وكانت قبائل “القراخانيون” التركية هي أول من اعتنقه على يد السلطان ساتق بوغراخان ليكونوا من أوائل قبائل المنطقة دخولاً في الإسلام، ثم تبعتهم القبائل البوذية بسنوات طويلة فدخلوه مع بدايات القرن الخامس عشر. بالرغم من قيام القراخانيين بغزوات وفتوحات عدة في سبيل نشر الإسلام بين القبائل البوذية إلا أن حركة انتشاره في تلك المنطقة بالذات، أيّ وادي تاريم كانت بطيئة بشكل عام، فما اكتملت تقريباً إلا مع بدايات القرن السابع عشر، ولا يزال الأيغوريون المعاصرين يرون القراخانيين المسلمين جزءًا مهمًا من تاريخهم، فيما يعتبر الأويغور المعاصرون مسلمون في المقام الأول وثاني أكبر عرق مسلم في الصين، ويتبع أغلبهم الآن المذهب السني بالرغم من وجود متبعي الصوفية بكثرة إذ لديهم أكثر من مدرسة صوفية مختلفة.
جمهورية تركستان الشرقية الأولى والثانية
تمتلئ منطقة تركستان التي تقع في آسيا الوسطى بالجبال والسهول المختلفة الأمر الذي جعل منها قسمين مختلفين: الأول هو تركستان الغربية والثاني هو تركستان الشرقية، تضم تركستان الغربية داخلها عدة جمهوريات هي كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان التي استقلت حديثاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فيما تضم تركستان الشرقية شعب الإيغور، وتخضع حالياً للاحتلال الصيني الذي غير اسمها إلى “شينجيانغ” التي تعني بالعربية “المستعمرة”.
خريطة توضح الموقع الجغرافي لتركستان وما حولها
تعرضت تركستان الشرقية للتدخل الصيني بأشكال عدة على مدار القرن الماضي وصولاً إلى اليوم، فقد كان هناك الكثير من الأحداث التي أنتجت ثورات شعبية ضدّ جمهورية الصين، أوّلها قيام الصين بتقسيم المنطقة إلى وحدات إدارية لتسهيل السيطرة عليها الأمر الذي أثار حفيظة الشعب ثم ما لبث أن وقعت حادثة اعتداء على إمرأة مسلمة من قبل رئيس شرطة صيني كانت السبب في تفجّر غضب كبير تحول إلى ثورة لإنهاء الحكم الصيني، إلا أن الأمر لم ينته هنا، فاستعانت الصين بروسيا لفرض سيطرتها على المنطقة لكنها لم تصل إلى نتيجة فقام علماء وسياسين بتوزيع المناصب على بعضهم وتوصلوا لإدارة البلاد بكل أجزائها. كما تم لاحقاً تنصيب ثابت داملا عبد الباقي رئيساً للوزراء وهو سياسي محنك وقائداً في حركة استقلال تركستان الشرقية عام ١٩٣٣ فكانت جمهورية تركستان الشرقية الأولى.
استعاد الشعب السيطرة على المناطق الثلاث، فخرج علي خان شاكر جان وأعلن تشكيل حكومة جمهورية تركستان الشرقية الثانية.
لم يدم الأمر طويلاً حتى تمكنت الصين من استعادة سيطرتها وإعدام جميع أعضاء الحكومة بالإضافة إلى عشرة آلاف مسلم بمساعدة روسيا التي كسبت حق التنقيب في الثروات الباطنية لتركستان، إلا أن الإيغور لم يسكتوا طويلاً حتى عادوا للثورة مرةً أخرى وتمكنوا من السيطرة على عدة مقاطعات ومدن رئيسية لكن لم يكن الوجود الصيني قد زال تماماً من كل أرجاء البلاد ففي سبتمبر 1944 لم تتمكن القوات التي أُرسلت إلى مقاطعة ينينغ من احتواء مجموعة من المؤيدين للحكم الصيني، مما أدى إلى استيلائهم على انيلكا عاصمة المقاطعة، فاندلعت أعمال الشغب في ثلاث مناطق حتى وصل إلى جنوب ينينغ في مقاطعات إيلي، وألتي، وتارباغاتاي في شمال سنجان، وبمساعدة من الاتحاد السوفييتي سرعان ما استعاد الشعب السيطرة على المناطق الثلاث، فخرج علي خان شاكر جان المعروف بحنكته السياسية، في هذه الأثناء وأعلن تشكيل حكومة جمهورية تركستان الشرقية الثانية.
أقرّت جمهورية تركستان الشرقية الثانية أنها ستسعى إلى إقامة علاقات ودية مع السوفييت على وجه الخصوص، كونهم الداعم الأول لهم ضدّ التوسع الصيني، إلى جانب اعتماد الروسية والأويغورية لغات رسمية، فيما تأسس لاحقاً جيش إيلي الوطني “إينا” في أبريل 1945 على أنه جيش لجمهورية تركستان، بينما ساهم السوفييت في تقديم الذخائر والزي الرسمي على النمط الروسي، كما عمل مباشرة مع قوات إينا على محاربة القوات الصينية حتى أُعلن وقف إطلاق النار عام 1946، مع سيطرة جمهورية تركستان الشرقية على إيلي، والصينيون على بقية مدينة سنجان، بما في ذلك مدينة أورومكي.
الاحتلال الصيني وعلاقة طريق الحرير
مازال حال شعب الأويغور اليوم مثلما كان عليه الأمر منذ سنوات طويلة، فلم تتخل الصين عن رغبتها في ضمّ تركستان الشرقية وإحكام سيطرتها على مواردها والموقع التجاري المميز الذي تتمتع به، حتى أخذ هذا الاحتلال شكلاً من أشكال الإبادة العرقية والدينية المتمثلة في أساليب وطرق ممنهجة للقضاء على العرق الأويغوري، فمنذ عام ٢٠١٤ يفرض على الأيغوريون المسلمون ضوابط وقيود واسعة النطاق على حياتهم الدينية والثقافية والاجتماعية لمنع أيّ أحد من ممارسة شعائر الدين الإسلامي الذي يتمسك به الأويغوريون كجزء من تاريخهم وثقافتهم فتقوم بفرض نظام مراقبة كامل في الشارع والعمل والمنزل وحتى داخل غرف نومهم، كما تفرض على النساء خلع الحجاب وعدم إطالة اللحية للرجال. إلى جانب حرق وتدمير كل الكتب التي تتحدث عن تاريخ الأويغوريون أو تاريخ منطقة تركستان وحذفها من المراجع التاريخية عدا عن هدم المساجد والمنع من استخدام اللغة الأويغورية واعتماد الصينية في كل نواحي العيش.
أنكرت الحكومة الصينية وجود معسكرات كهذه إلا أنها ما لبثت أن غيّرت موقفها مدعيةً بأنها معسكرات لمحاربة الإرهاب
وقامت الحكومة الصينية أيضاً كجزء من إتمام خطتها في محو العرق الأويغوري بإنشاء معسكرات اعتقال جماعي تهدف إلى تغيير التفكير السياسي للمحتجزين وهوياتهم ومعتقداتهم الدينية فتبقيهم من رجال ونساء محتجزين على مدار الساعة، في حين يترك البعض الآخر أماكنهم يعودون ليلًا إلى ديارهم. وقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز سابقاً في تقرير لها أن من بين الممارسات المفروضة على النزلاء الأيغور “غناء تراتيل مشيدة بالحزب الشيوعي الصيني وكتابة مقالات النقد الذاتي”، بالإضافة إلى تعرضهم للإيذاء الجسدي واللفظي من قبل حراس السجن كما قد يحاسب رب الأسرة من أب أو أم في حال خالف واحد من أفراد الأسرة القوانين المفروضة.
أنكرت الحكومة الصينية وجود معسكرات كهذه إلا أنها ما لبثت أن غيّرت موقفها مدعيةً بأنها معسكرات لمحاربة الإرهاب وتخليص الأويغور من الخلايا المسلحة “المنتشرة” بينهم، فيما كشفت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي نيوز في أكتوبر 2018 بناءً على تحليل صور الأقمار الصناعية التي جُمعت مع مرور الوقت، أنه يتم اعتقال مئات الآلاف من الأويغور في معسكرات سريعة التوسع، وبالتوازي مع هذا تقوم الصين أيضاً بفصل قسري لما لا يقل عن نصف مليون طفل بالقوة عن أسرهم، ووضعهم في معسكرات ما قبل المدرسة مع أنظمة مراقبة على غرار السجون مع إحاطتهم بما يقارب 10 آلاف سور كهربائي منعًا لهربهم.
افتتحت خطاً لنقل الغاز الموجود في تركستان الشرقية الأمر الذي ضاعف الأهمية الجيوسياسية لأقاليم الإيغور.
لا يبدو إصرار الصين في الحصول على منطقة تركستان الشرقية التي تعتبر في الواقع (غرب الصين) منطقياً لو كان مقتصراً فقط على الأسباب الدينية أو العرقية، فهناك بالفعل ١٦ أقلية مسلمة تعيش في ميانمار دون أن تتعرض لأيّ نوع من أنواع الملاحقة أو المراقبة من الاحتلال الصيني، فهي بطبيعة الحال لديها الكثير من الحدود المشتركة مع دول مسلمة مثل باكستان وغيرها، إلا أنه في عام ٢٠٠٩ ومع بدء المشاكل الاقتصادية مع أمريكا بات على الصين أن تتحرك بسرعة لإنقاذ مصادرها من النفط والغاز دون الحاجة لدولة عظمى مثل أمريكا فما كان منها إلا أن افتتحت خطاً لنقل الغاز الموجود في تركستان الشرقية وإيصاله إلى غرب الصين في أقرب نقطة لها. الأمر الذي ضاعف الأهمية الجيوسياسية لأقاليم الإيغور التي كانت تحاول على مدار القرون الخمس الماضية نيل استقلالها.
يهدف المشروع بشكل أساسي إلى استقبال الغاز والنفط القادمين من الخليج العربي وضخّهم غرب الصين وتجنب المرور في المضايق التي تسيطر عليها أمريكا.
ويأتي لاحقاً عام ٢٠١٢ حاملاً للعلاقة المتأزمة بين أمريكا والصين تصعيدات أكثر حدة الأمر الذي دفع الصين لإقرار مشروع طريق الحرير يهدف لبناء سلسلة من الطرق البحرية والبرية لربط الصين بخليج البنغال وبحر العرب، من خلال تهيئة شبكة من الخطوط والسكك الممهدة التي تبدأ من تركستان وصولاً لميناء جوادر الباكستاني ببحر العرب، بينما يهدف المشروع بشكل أساسي إلى استقبال الغاز والنفط القادمين من الخليج العربي وضخّهم غرب الصين وتجنب المرور في المضايق التي تسيطر عليها أمريكا.
وفي ظل هذا الاحتلال الذي تحرّكه بالمرتبة الأولى دوافع اقتصادية وجيوسياسية كبرى يشهد العالم العربي والدولي والإسلامي بصمت على أكبر عملية إبادة وطمس للهوية والمكان لما يقارب ٣٠ مليون أيغوري مسلم.