لم تتوقف المعارضة التركية عن انتقاد فكرة مشروع قناة إسطنبول الجديدة، التي أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنها واحدة من المشاريع الكبرى القادمة في تركيا وذلك في عام 2011 ضمن حملته الانتخابية في إطار خطته لتعزيز مكانة تركيا في مجال المعابر المائية وتخفيف حركة السفن في مضيق البوسفور لأسباب بيئية واقتصادية، وتوفير فرص استثمارية جديدة، وستربط القناة بين البحر الأسود وبحر مرمرة في الجزء الأوروبي من إسطنبول.
قالت بعض أحزاب المعارضة إن المشروع الكبير به أخطاء استثمارية، وربطه بعضهم بإمكانية وقوع زلزال، فيما ربطه آخرون ببعد الفائدة العائدة على نخبة معينة من المستثمرين، ومن الواضح أن بعض هذه الحجج متناقض، كما ذكر رئيس بلدية إسطنبول 15 سببًا لرفض المشروع.
قبل عامين تقريبًا، في يناير 2018، نشرنا مقالًا في نون بوست بعنوان مشروع قناة إسطنبول المائية.. بوسفور جديد سينقل تركيا لمكانة كبيرة، وتمت الإشارة إلى أن المشروع الذي يبلغ طوله 45 كيلومترًا وعرضه 400 متر سوف يدر على تركيا عوائد مالية ضخمة، وربما تعد الأهمية الكبيرة للمشروع في العائدات الاقتصادية، حيث من المتوقع وفقًا للتقارير الرسمية التركية “أن القناة ستدرّ على تركيا نحو 8 مليارات دولار سنويًا، تساهم في تعويضها عن مليارات الدولارات التي حُرمت منها بفعل تسعيرة المرور المخفضة عن السفن التي تعبر مضيق البوسفور، تبعًا لاتفاقية مونترو التي وقعت بالمدينة السويسرية عام 1936 لتنظيم الملاحة في المضائق والممرات المائية التركية”.
وفيما تضاعف عدد السفن منذ اتفاقية مونترو، لم تجن تركيا الكثير من الأرباح من عوائد مرور السفن عبر البوسفور، فعلى سبيل المثال لم تجن تركيا إلا قرابة 80 مليون دولار من مرور 50 ألف سفينة في 2017، ولهذا فإن المشروع الجديد سيحفز السفن على المرور منها تجنبًا لانتظار دورها في البوسفور وهو ما ستستفيد تركيا من مقابله المادي، فضلًا عن الفرص الاستثمارية التي ستفتح على جانبي القناة وربما تدر دخلًا موازيًا، حيث سيتم بناء مدينتين جديدتين على جانبي القناة وهو أكبر مشروع في تاريخ تركيا وذو أهمية إستراتيجية للبلاد.
بالإضافة للبعد الاقتصادي تتداخل أبعاد عدة مع مشروع قناة إسطنبول، فهي في صلب البعد الأمني والعسكري لو أخذنا تغير مسارات السفن الحربية التركية وغيرها، وتعدد خيارات الملاحة البحرية لتركيا بعد رفع طاقة الملاحة الجوية مع مطار إسطنبول الجديد، وهي متداخلة مع البُعد القانوني، فالقناة الجديدة لن يكون لها علاقة باتفاقية مونترو وستكون السيادة التركية عليها كاملة، بالإضافة للبُعد السياسي الداخلي في تركيا الذي يرفع قيمة وشعبية الرئيس أردوغان وحزبه.
وإزاء هذا الأمر ترتفع أصوات المعارضة التركية ضد توجه الرئيس أردوغان لبدء مشروع القناة، حيث قال أردوغان خلال كلمة بإسطنبول أمام فعالية لاتحاد المصدرين: “سنطرح في الأسابيع المقبلة مناقصة مشروع قناة إسطنبول المائية لنبدأ بتنفيذه قريبًا”، مضيفًا “هذه خطوة اتخذت أواخر فترة ترؤسي للبلدية، وليس خلال أسبوع أو عام”، ومن المتوقع أن ينتهي الحفر بحلول عام 2023.
تفاجأ الأتراك بالانتقاد الشديد من رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو صباح لمشروع القناة بقوله: “مشروع قناة إسطنبول ليس مشروع خيانة، بل مشروع جناية”، معلنًا أن بلدية إسطنبول الكبرى تنسحب من بروتوكول قناة إسطنبول، وأن المشروع كارثة يستهدف وجود 16 مليونًا وأمن 82 مليون نسمة، قائلاً: “مهما كان وعد المقاولة المربحة، يجب التخلي عنه على الفور”.
كما زعم إمام أوغلو أن مشروع إسطنبول يعني الحكم بالعطش، قائلًا: “نحن نخسر موارد المياه القائمة منذ 8 آلاف و500 عام، وستُخلط بحيرة تاركوس بالمياه المالحة، وهناك احتمال أن تفقد البحيرة للأبد صفة أنها مصدر مياه”، كما ادعى أن “قناة إسطنبول تعني إثارة مخاطر الزلازل”.
كما حملت تصريحاته وكذلك تصريحات كمال كليجدار أوغلو تهديدات للمستثمرين بأن حزب الشعب في حال وصوله إلى الحكم سيلغي هذه العقود والمشاريع ولن يعطي المستثمرين مستحقاتهم، حيث قال كليجدار أوغلو: “أنا أحذر الجميع من اليوم، عندما نصبح نحن في السلطة، لن نعطي أحدًا أمواله، باختصار، إن عمر السيد أردوغان السياسي لن يكفي، وسيذهب في أول انتخابات”، وهو ما دفع الرئيس التركي للرد على من يقول ذلك بأنهم “يحلمون بأن يصلوا للحكم ولن يصلوا”.
لم يقتصر الانتقاد على حزب الشعب الجمهوري، فمن جهته انتقد رئيس حزب السعادة تمل كرامولا أوغلو مشروع القناة من زاوية استثمارية وإدارية وقال إنه استثمار خاطئ ولا يمكن إدارته، وعرف عن تمل كرامولا أوغلو انتقاده لكل المشاريع الكبرى بل انتقد إنشاء جامع تشاملجة.
من زاوية أخرى انتقدت بعض حسابات التواصل الاجتماعي في تركيا شراء والدة أمير قطر الشيخة موزة بنت ناصر المسند عقارات في منطقة قناة إسطنبول، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريح أدلى به خلال لقائه بعدد من الصحفيين في ماليزيا التي زارها للمشاركة في قمة كوالالمبور الإسلامية إنه لا يوجد أي مانع قانوني يعيق شراء والدة أمير دولة قطر عقارات من أطراف قناة إسطنبول التي تعتزم الحكومة التركية شقها لربط البحر الأسود ببحر مرمرة.
وقال أردوغان: “سمعت هذه الإشاعات التي تتناقلها المعارضة، فلا يوجد أي عائق قانوني لشراء الأميرة موزة عقارات من تركيا، والمعارضة ما كانت لتتفوه بكلمة واحدة لو كان المشتري شخصًا غربيًا، لماذا تعرب المعارضة عن استيائها عندما يتعلق الأمر بقطر”، وقد سبق لملك سعودي (لم يذكر اسمه)، أن اشترى عقارًا من إسطنبول في عهد رئيس الوزراء التركي الأسبق تورغوت أوزال، ومثل هذه النقاشات العقيمة لا تعود بالنفع لبلادنا، انظروا إلى إسبانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، هذه الدول تبيع مساحات واسعة من أراضيها إلى رجال الأعمال وزعماء وقادة الدول الأجنبية”.
على مستوى الإعلاميين المعارضين قال فاتح برتقال المذيع في قناة فوكس والمعارض للحكومة على حسابه الشخصي بموقع تويتر: “من وجهة نظري سبب الرغبة في إنشاء قناة إسطنبول، ليس بسبب الحاجة ولا لمطلب تجاري. الإيجار النقدي ليس السبب الأول، لكن في رأيي لتمهيد الطريق أمام البحرية الأمريكية للظهور والاستقرار في البحر الأسود، أعتقد أن هذا هو جدول الأعمال السري، ماذا تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية يا ترى؟”.
في الحقيقة، تاريخيًا كانت المعارضة في الطرف المقابل خاصة في المشاريع الكبرى وإذا قال حزب العدالة “أ” تقول المعارضة “ب”، وقد عارضت المعارضة التركية كل المشاريع الكبرى التي أعلنها حزب العدالة سواء مشروع المطار الثالث أم مشروع مرمراي تحت البوسفور، ويعتقد أن الأسباب ترجع لأوراق التنافس مع حزب العدالة، حيث يعتقد أن مشروع قناة إسطنبول وهو مشروع ضخم جدًا سيدعم اقتصاد تركيا وسيجعل أردوغان بطلًا في نظر الشعب التركي وتاريخه، خاصة أن افتتاح القناة يتوقع أن يكون قبل انتخابات 2023 وبالتالي فهذا لا يصب في مصلحة المعارضة بأي حال من الأحوال.
يتوقع أن تمضي الدولة التركية في مشروع القناة رغم انتقادات الأحزاب المعارضة، وقد يخلق هذا الأمر حملة للتنافس على إقناع الرأي العام بدأت ملامحها مع المؤتمر الصحفي الذي عقده أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول.
ولو دققنا بشكل أكبر سنجد أن عام 2023 هو عام جني الثمار في إستراتيجية حزب العدالة والتنمية من خلال المشاريع الكبرى في المجالات كافة، وهو يشمل تطوير القوة العسكرية، ومن المتوقع مثلًا أن تكون أول حاملة طائرات تركية جاهزة للعمل، والسيارة التركية المحلية قيد العمل، ومحطة أك كويو التركية للطاقة النووية السلمية، وبالتالي فإن هذا العام نقطة تحول لحزب العدالة ولتركيا وإذا استطاع الحزب ورئيسه الفوز في هذا العام فإن آمال أحزاب المعارضة ستكون في مهب الريح.