غالبًا ما تكون المساحات السكانية التي تنمو بطريقة غير منتظمة على أطراف المدن والمسماة بالعشوائيات، خارجة إلى درجة ما عن هيمنة الدولة ويدها القاسية، ولكن ليس في سوريا التي تضم أكثر من 160 منطقة سكن عشوائي على امتداد مساحتها، إذ استطاع نظام الأسد منذ عهد الأب حافظ الأسد، أن يخلق من هذه المساحات، مكانًا يتبع له وإن كان بطريقة غير نظامية، واستمر بشار الأسد بعد مجيئه إلى السلطة عام 2000، بذات النهج، إلى أن اندلعت الثورة في مارس/آذار 2011، فكانت أحياء العشوائيات حاضنًا ثوريًا مهمًا وفاعلًا في سوريا، مورس ضدها تدمير ممنهج.
أحياء العشوائيات.. البداية
بدأ تشكلّ أحياء العشوائيات في المدن الكبيرة في سوريا بشكل كبير وواضح، بين عامي 1994 و2010 كنتيجة طبيعية لتردي الحال الاقتصادي والظروف الاجتماعية والسياسية والهجرة الداخلية التي حصلت من الأرياف باتجاه المدن كنتيجة لسياسة التهميش التي انتهجها النظام ضد الأرياف، وعدم مقدرة الأحياء المنظمة على استيعاب هذا الكم الهائل من المهاجرين الجدد، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار البيوت في الأحياء المنظمة بالمقارنة بمتوسط دخل الفرد السوري.
وتشكلت هذه الأحياء في أطراف المدن، بعيدًا عن أعين الدولة -نظريًا- دون أن تخضع لقوانين البناء وشروطها وتكاثرت بطريقة غير قابلة للتحكم، وصارت جزءًا من المدينة مفروضًا عليها، لا القوانين قادرة على ضبطها ولا المدن قادرة على ضمها، فكأنما هي جزء لا ينتمي إلى شيء.
من أهم أحياء العشوائيات في دمشق وأكبرها، حي المزة 86، نشأ الحي في الطرف الجنوبي الغربي لمدينة دمشق، غربي حي المزة تمامًا، في المنطقة القريبة من القطعة العسكرية “86” الخاضعة لسرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، بُنيت في البداية كمساكن لعناصر سرايا الدفاع التي كان قوامها الأساسي من العسكريين القادمين من مناطق ريفية من طائفة العائلة الحاكمة، وبعد تفكيك سرايا الدفاع وخروج رفعت الأسد من سوريا، أصبح الحي أمرًا واقعًا آخذًا في التوسع ليشمل عوائل من العمال وطلبة الجامعة، نتيجة الهجرات الكبيرة إلى العاصمة، وبقيت النسبة الأعلى من ساكنيه من الطائفة العلوية وعناصر الجيش والمخابرات والشرطة.
وعلى الرغم من كل القوانين التي تصدرها محافظة دمشق، في محاولة للسيطرة على الحي، فإن القوانين في سوريا توضع كي لا تُطاع، وخصوصًا من الشرائح التي يستفيد منها النظام عسكريًا في حربه ضد الشعب السوري.
أما أحياء حلب الشرقية التي كانت في معظمها أحياء عشوائيات وكانت الصورة الواضحة للتمييز الطبقي الذي تعيشه المدينة، فقد نشأت نتيجة هجرة أبناء الريف الحلبي الذي كان من أشد المناطق فقرًا في العالم في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي حسب تقرير للأمم المتحدة، إلى المدينة، ونمت هذه الأحياء بشكل مفرط، وشكّلت ما يقارب نصف المدينة، منها حي باب النيرب الذي نشأت فيه عصابات مسلحة موالية لنظام الأسد، من عشيرة “آل بري” -الذين كانوا يعملون في التهريب وتجارة المخدرات بغطاء من نظام الأسد نفسه- استطاعوا الهيمنة على المنطقة اجتماعيًا واقتصاديًا، وأصبحوا ذراعًا للنظام في هذه الأحياء، وفي حي الجابرية الذي نشأت فيه عصابات من “الماردلية” الموالية لقوات الأسد الذين هجّروا أبناء المنطقة الأصليين من المسيحيين الذين فضلوا التوجه إلى تجمعات المسيحيين في حلب، مثل حي العزيزية والسريان.
الهيمنة على العشوائيات
بطبيعة الحال، كما في كل العشوائيات حول العالم، لم يرد النظام، في كثير من الأحيان، أن تكون جزءًا من منظومته، كونها مناطق غير قابلة للسيطرة، إذ تبقى كمساحات خارج سيطرة الدولة، تضمّ النازحين وذوي الدخل المتدني، ونسيجًا اجتماعيًا هجينًا غير متوافق، لا تعتمد نظام بناء أو تخضع لقوانين المدينة الصارمة، ولكنّ نظام الأسد تعامل معها كأمر واقع ونجح في جذبها إلى صفه، إما كونه هو من صنعها من نسيج اجتماعي موالٍ له ويضمن ولاءه الكامل، كما في حي المزة 86 أو من نسيج اجتماعي طائفي مثل حي السيدة زينب الذي يقال إن به مقامًا لابنة الصحابي علي بن أبي طالب، الذي وضعت إيران يدها عليه منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي بتسهيل من نظام الأسد ليكون مزارًا شيعيًا ومركزًا سياسيًا للوجود الإيراني في سوريا، أو عبر الهيمنة المصلحية على عصابات “الشبيحة” الموالين له وإعطائهم الكلمة العليا فيها، والسماح لهم بحمل السلاح الذي سيحافظ على مصالحها كضرورة لبقائها كما هو الحال مع “آل بري” في حلب.
وهكذا يكون قد أنشأ دولة داخل الدولة يضمن أنها لن تشذّ عن القوانين ولن تخرج عن العباءة التي ألقاها عليهم بنعمه! وكانت بمثابة فناء خلفي للدولة، تؤدي من خلالها الأعمال القذرة التي لا تستطيع فعلها كدولة.
حاضن للثورة
في لحظة الثورة، الكثير من أحياء العشوائيات، كما هو الحال في حلب الشرقية وأحياء التضامن والقابون ومخيم اليرموك في العاصمة وحي المشاع في حماة وحي بابا عمرو في حمص، وغيرها من الأحياء في بقية المدن السورية، انقلبت على النظام بشكل كليّ، وكانت – بالإضافة إلى الأرياف – المنطلق الأساسي والحاضن الأكبر للحراك الثوري منذ عام 2011، ما استدعى النظام في وقتها للبدء بالتفكير من جديد في آلية جديدة للتعامل مع العشوائيات، كانت آلية عسكرية شاملة في مواجهة الحراك الشعبي، حيث انتهجت قوات الأسد القصف بالسلاح الثقيل ضد هذه الأحياء في سبيل تسويتها بالأرض، فهي بطبيعة الحال أحياء غير مرغوبة.
ومع تطور المعركة وقدوم ميليشيات طائفية إيرانية وعراقية ولبنانية، ومن بعدها التدخل الروسي للقتال إلى جانب قوات الأسد، وتراجع المساحات المحررة من سوريا، على حساب تقدم هذه الميليشيات بغطاء جوي روسي، واجهت هذه الأحياء بالإضافة إلى التدمير الكامل، حصارًا قاسيًا وتهجيرًا ممنهجًا لأهاليها، في سياسة تغيير ديمغرافي بحق سكانها على حساب توطين أناس جدد من الميليشيات الطائفية التي تقاتل في صف الأسد، كما تزامن ذلك مع طرح مشاريع لبعض مناطق هذه العشوائيات مثل “مشروع حلم حمص” في مدينة حمص وسط البلاد أو مشروع مدينة “ماروتا” على أنقاض حي المزة القديمة وأجزاء من كفرسوسة.
لم تساهم العشوائيات في تشويه شكل المدينة -المشوّه أصلًا باتباع نظام عمراني لا شكل له ولا هوية، إلا شكل الاستبداد- فحسب، بل ساهمت أيضًا بتكريس التفتت المجتمعي في المدن الكبيرة، عبر هذه الكتل السرطانية التي تعيش مأساة كاملة يوميًا، وتتكاثر بشكل انشطاري غير معقول، كما أن سكانها واجهوا مع بدء الثورة عملية اقتلاع كامل، ليس فقط عمرانيًا، وإنما مجتمعي أيضًا، في ظل محاولات روسيا إعادة تعويم النظام سياسيًا، للبدء بعمليات إعادة الإعمار وفق رؤية الاستبداد والحكم الأمني ذاته.