بعد جدلٍ وترددٍ كبيرين، أقر مجلس الوزراء السوداني بصورة أولية موازنة العام المالي 2020 مساء الجمعة 27 من ديسمبر/كانون الأول، التي قال إنها ستشمل رفع الدعم التدريجي عن الوقود “بنزين وجازولين” مقابل زيادة الأجور وإنشاء شبكة للدعم الاجتماعي بصورة موسعة فيما يتم الإبقاء على دعم الخبز وغاز الطبخ.
مشاورات مجتمعية قبل الإجازة النهائية
نشير إلى أن قيمة الدعم الحكومي على المحروقات كاملة يقدر بـ2.2 مليار دولار سنويًا، فيما يصل الدعم للقمح 365 مليون دولار سنويًا، ذلك بحسب إحصاءات سودانية سابقة.
التصريحات التي أدلى بها وزيرا الإعلام والمالية بعد انتهاء الاجتماع لم تحدد كيفية الرفع التدريجي للدعم، وهل سيبدأ فورًا أم يؤجل لـ3 أشهر كما اقترح بعض قادة ائتلاف الحرية والتغيير الحاكم، غير أن وزير الإعلام فيصل محمد صالح كشف أن مجلس الوزراء رأى أن يتم إجراء مشاورات موسعة مع قطاعات الشعب السوداني بشأن خيارات رفع الدعم أي أن مسألة الجدولة التي أقرها مجلس الوزراء قابلة للنقاش وأن الحكومة لن تفرض قراراتها، كما دعا الوزير إلى طرح خيارات وبدائل تخفف من تأثير الإجراءات القاسية على ذوي الدخل المحدود، وأوضح فيصل محمد صالح أن الحكومة ستنتهج الشفافية مع الشعب ولن تتردد في توضيح حقيقة الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
ومن ناحيته، ذكر وزير المالية إبراهيم البدوي أن الموازنة أقرت مَجانية تعليم الأساس بشكل كامل، أي أنها لا تتضمن فرض أيِ رسوم على طلاب مرحلة الأساس، إلى جانب توفير وجبة إفطار مَجانية لكل طلاب الأساس في المدارس الحكومية عبر تخصيص (2%) من التحويلات بالولايات، بالإضافة إلى مجانية العلاج في المُستشفيات الحكومية ومَنع أيِ رسومٍ مقابل الخدمة.
إجراءات لامتصاص رفع الدعم
البدوي كشف كذلك زيادات في الرواتب تصل إلى 100% لموظفي القطاع الحكومي، كما سيُرفع الحد الأدني للأجور من 425 جنيهًا إلى 1000 جنيه سوداني، مع توليد عدد 250 ألف وظيفة، وأوضح أن المعالجات ركزت على معالجة التشوهات وتحقيق الرضا الوظيفي، ونوه إلى أن الزيادة ليست بالضرورة تشمل المُرتبات كافة.
كما أعلن البدء في تنفيذ برنامج تجريبي للدعم الاجتماعي بواقع 1500 جنيه لعدد 4 ملايين و500 ألف شخص يتم اختيارهم من الطبقات الأكثر فقرًا تلافيًا لتأثيرات رفع الدعم، بالإضافة إلى زيادة الكفالة النقدية للطالب الجامعي، وتوسيع مَظَلة التأمين الصحي ليصل إلى 4 ملايين مواطن.
وكشف البدوي إنشاء صندوق الإعمار والتنمية للسلام بمبلغ مبدئي نحو 9 مليارات و300 مليون جنيه من الموارد الذاتية للولايات المتأثرة والنزاعات خلال مشروع موازنة 2020 في إطار دعم المجهود السياسي.
ولكن هل يمكن تنفيذ هذه الإجراءات على أرض الواقع؟
ما ذكره وزير المالية من إجراءات ومعالجات للشرائح الضعيفة في المجتمع السوداني حتى لا تتضرر من رفع الدعم، تصور يمكن القول إنه جيد نظريًا، ولكن يصعب تنفيذه على أرض الواقع باستثناء زيادة الرواتب للعاملين في الدولة الذين لا تزيد نسبتهم على 10 إلى 12% على أكثر تقدير، فالسواد الأعظم من السودانيين يعملون في القطاعين الخاص والحر، إلى جانب أعداد مقدرة من الطلاب والخريجين الذين لم يجدوا عملًا، وبالطبع هناك الأطفال والنساء وكبار السن.
أيضًا، يصعب إيجاد الآلية التي يمكن بها تحديد الـ4.5 مليون شخص الذين قدر بأنهم يستحقون الدعم النقدي المباشر، فكيف يمكن تحديدهم والتحقق منهم في فترة وجيزة والعام المالي على وشك أن يبدأ؟
أما مجانية تعليم الأساس وعدم دفع رسوم مقابل العلاج في المستشفيات الحكومية فستظل مجرد حبر على ورق، إذ إن المؤسسات التعليمية والصحية تعتمد في الأساس على ما تتحصله من رسوم يدفعها متلقو الخدمة، فقد صدرت عشرات القرارات من قبل في عهد النظام البائد بمجانية التعليم والعلاج لكن جميعها اصطدمت برفض المؤسسات تقديم الخدمات مجانًا نسبةً لما تعانيه من عجزٍ في ميزانياتها، إلإ إذا خصصت الحكومة الانتقالية مبالغ مقدرة لوزارتي التعليم والصحة وهو ما يبدو في غاية الصعوبة حاليًّا.
تخوف من خطوات رفع الدعم
بطيعية الحال، تواجه حكومة الثورة التي يقودها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك أوضاعًا لا تحسد عليها، فرغم مرور عامٍ على اندلاع الانتفاضة التي أطاحت بنظام المخلوع عمر البشير، وأربعة أشهر على تشكيل الحكومة الانتقالية ما زال المد الثوري مستمرًا بذات الحماس والعنفوان، وما زالت المطالب الملحة قائمة ومن بينها محاسبة كل المتورطين في جرائم القتل وخاصة تلك التي وقعت في أثناء فض اعتصام القيادة العامة في الـ3 من يونيو/حزيران الماضي.
والمعضلة التي تشغل أذهان الشعب والحكومة على حدٍ سواء هذه الأيام هي موازنة العام الجديد 2020 في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تشهدها البلاد والدولار الذي يقترب من حدود الـ90 جنيهًا، فحكومة حمدوك ما زالت تبدو مترددة وهي تغالب خياراتها بشأن الموازنة رغم إقرارها بالصورة الأولية، حيث تواجه مأزق عدم توافر موارد مالية كافية تغطي بنود الموازنة، فاقتراح وزير المالية إبراهيم البدوي رفع الدعم الحكومي عن الوقود والقمح يجد رفضًا قويًا من ائتلاف الحرية والتغيير الحاكم الذي يبدي عدم ممانعته في تأجيل الرفع التدريجي عن السلعتين لـ3 أشهر، والائتلاف بالطبع يخشى أن تؤدي خطوة رفع الدعم إلى سخط شعبي عام قد يؤدي إلى الإطاحة بحكومة الفترة الانتقالية.
عضو اللجنة الاقتصادية في قوى إعلان الحرية والتغيير عصام علي حسين قال في وقتٍ سابقٍ، إن اللجنة رفضت محاولات الحكومة لرفع الدعم عن السلع في الموازنة، واعترضت أيضًا على تعديل سعر الصرف خلال اجتماع عقد الخميس الماضي مع وزير المالية.
حتى الآن لم يصدر تعليق من الائتلاف الحاكم على إقرار مجلس الوزراء السوداني موازنة العام المالي 2020 في المرحلة الأولى
حسين أشار في حديث للجزيرة أن اجتماعًا عُقد يوم الأحد الماضي جَمَع رئيس الوزراء ووزير المالية ولجنة الموازنة دفعت فيه قوى التغيير بملاحظاتٍ جوهريةٍ بشأن مشروع الموازنة تضمنت التأكيد على أهمية استمرار الدعم ورفض تعديل سعر الصرف، موضحًا أن موقف التحالف مبدئي باعتباره المعبر الحقيقي عن نبض الشارع ويحس بمعاناته وتطلعاته.
وتسربت أنباء من داخل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير “أعلى سلطة في الائتلاف الحاكم”، بأن اللجنة الاقتصادية بداخله توصي بإعداد موازنة مؤقتة لمدة 3 أشهر يتم فيها الإبقاء على الدعم، وبعد اكتمال هذه المدة يتم النظر إلى موازنة فترة الأشهر الـ9 المتبقية كحلٍ وسط.
حتى الآن لم يصدر تعليق من الائتلاف الحاكم على إقرار مجلس الوزراء السوداني موازنة العام المالي 2020 في المرحلة الأولى التي يُقال إنها ستخضع للنقاش داخل لجنة اقتصادية مصغرة ثم مناقشتها في ندوات وقنوات مجتمعية على أن تحال في نهاية الأمر إلى مجلسي السيادة والوزراء ليتم إقرارها بصورة نهائية وتصبح قانونًا ملزمًا.
لا تعويل على دعمٍ خارجي
المتأمل لما رشح عن الموازنة المقترحة للعام 2020 يجد أنها لم تتضمن أي مؤشرات على الدعم الخارجي، خلافًا لما صرح به وزير المالية إبراهيم البدوي في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني عندما أعلن أن موازنة العام الجديد سيمولها أصدقاء السودان.
إذ كان البدوي قد عرض – خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن – المراحل الثلاثة للبرنامج الاقتصادي لبلاده التي تستمر حتى عام 2030 وبدأت المرحلة الأولى في شهر أكتوبر/تشرين الأول وتستمر حتى يونيو/حزيران المقبل، حيث تركز على معالجة الوضع الاقتصادي وعجز الموازنة وهيكلة القطاع المصرفي.
والمرحلة الثانية تبدأ من يوليو/تموز من العام المقبل وتستمر حتى نهايته، وتشمل حشد الجهد المالي لتعزيز الموارد والإيرادات لتصل إلى 10% من إجمالي الناتج المحلي.
وتتضمن هذه المرحلة ولاية وزارة المالية على المال العام، وتوحيد سعر صرف العملة المحلية (الجنيه) والانتقال من دعم السلع إلى دعم المواطنين عبر شبكات الضمان الاجتماعي.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتبدأ مطلع العام 2021 بالتركيز على تقليل الاقتراض من المصارف، وترشيد الإنفاق مع مراجعة بنود الموازنة وإدارة السيولة.
ويبدو أن وزير المالية السوداني ركز جهوده في التعويل على الدعم الخارجي خلال الـ3 أشهر الماضية التي قضاها في المنصب بعد أدائه القسم، ولكن لعله الآن قد أيقن أنه أخطأ التقديرات.
توقف الدعم السعودي الإماراتي
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لم يركز كثيرًا على الدعم الخليجي فيما يتعلق بالشأن الاقتصادي، إذ كانت جهوده منصبةً على أمرين اثنين:
1- رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب باعتباره مفتاحًا لحلحة كل الصعوبات الاقتصادية.
2- إيجاد صيغة لتمويل دولي من المؤسسات العالمية كصندوق النقد والبنك الدولي، لكن الجهود اصطدمت بعراقيل متعددة أولها عدم وضوح الرؤية السياسية في ظل هيمنة العسكر على العديد من القطاعات، إلى جانب العقوبات الأمريكية المشار إليها أعلاه، وتراكم الدين الخارجي الذي وصل إلى 50 مليار دولار.
فور الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير سارعت السعودية والإمارات إلى إعلان دعم المجلس العسكري الانتقالي المحلول بـ3 مليارات دولار، منها نصف مليار وديعة نقدية و2.5 مليار دولار عبارة عن مساعدات عينية.
كان إعلان تلك المساعدات يهدف إلى تثبيت شرعية المجلس الذي كان مواليًا للدولتين، بيد أن الرياض وأبوظبي أحجمتا عن مساعدة الحكومة الانتقالية المدنية التي يقودها حمدوك بعد تشكيلها في سبتمبر/أيلول الماضي، فقد اكتفت الدولتان بإعلان عن مواصلة تقديم المساعدات المعلنة مسبقًا التي جاءت على عدة دفعات مجزأة رغم أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك زار العاصمتين في وقت سابق.
والتفسير المعقول لإحجام الرياض وأبوظبي عن دعم حكومة حمدوك يمكن أن يكون نسبةً لتنامي مشاعر الكراهية لهاتين الدولتين في الداخل السوداني، فجموع الثوار يتهمون الإمارات والسعودية بأنهما أصدرتا التعلميات لقادة المجلس العسكري المحلول بفض الاعتصام وبالتالي تورطهما في المجزرة المروعة التي حدثت صباح الـ3 من يونيو/حزيران الماضي.
حتى المشاريع الاستثمارية للدولتين أصبح المواطنون السودانيون يرون أنها عديمة الجدوى، فيوم الجمعة دعا محتجون، في ولاية الجزيرة وسط السودان، إلى إزالة مشروع إماراتي، بعد تعرضهم لأضرار صحية وبيئية، مطالبين الحكومة بالتدخل وإعادة حقوقهم التي تشمل “أراضيهم الزراعية”، وهتف عشرات من سكان منطقة “ود عشيب” التي تجاور المشروع في محلية شرق الجزيرة، ضد بقاء مشروع زايد الخير وحملوا لافتات كتب عليها “مشروع الشر” حسب شهود عيان.
هل تتدخل قطر وتدعم الحكومة الانتقالية؟
أما المحور المقابل الذي تقف فيه قطر وتركيا فلا يبدي مانعًا من التعامل مع الحكومة السودانية الانتقالية، وربما يعمل على مساعدتها لإنقاذ الموازنة الجديدة، قد وجهت قطر دعوة رسمية إلى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ورئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، لزيارتها.
وتم نقل الدعوة في أثناء اجتماع عقده وزير شؤون مجلس الوزراء عمر بشير مانيس، في الخرطوم الشهر قبل الماضي مع المبعوث الخاص لوزير الخارجية القطري لمكافحة الإرهاب والوساطة في تسوية المنازعات، مطلق القحطاني.
اللقاء تناول، حسب تقارير سودانية، تعزيز سبل التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، وأكد الوزير السوداني في أثنائه متانة العلاقات بين الخرطوم والدوحة، ممتدحًا مواقف قطر الداعمة للسودان وجهودها في إحلال عملية السلام بإقليم دارفور.
من جانبه، أعرب المبعوث القطري عن دعم بلاده لبرامج حكومة الفترة الانتقالية في السودان، ووقوف الدوحة مع الخرطوم في إزالة اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
دولة قطر لديها مصالح واستثمارات هي الأخرى في السودان ويهمها أن تحتفظ بعلاقاتٍ جيدة مع سودان ما بعد البشير
نستخلص من الخبر أعلاه أن قطر ربما لن تمانع في تقديم الدعم لحكومة رئيس الوزراء حمدوك إذا لبى الأخير الدعوة وزار الدوحة أسوة بزيارته لكل من الرياض وأبوظبي، فدولة قطر لديها مصالح واستثمارات هي الأخرى في السودان ويهمها أن تحتفظ بعلاقاتٍ جيدة مع سودان ما بعد البشير خصوصًا أن العلاقة بين الدوحة ونظام المخلوع كانت متردية في الفترة الأخيرة التي تلت سقوطه ووصلت الأمور إلى درجة شن هجوم منظم على قطر بواسطة صحفيين مقربين من البشير في آخر شهرٍ قبل السقوط. كما أن احتمالات وصول تيار محسوب على الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في السودان تبدو مستحيلة تمامًا في ظل كراهية السواد الأعظم من أبناء الشعب السودان لهذا النوع من التيارات والأحزاب السياسية.
الخلاصة أن موازنة العام 2020 التي اقترحها أو أقرها مجلس الوزراء السوداني بصورة مبدئية تحمل العديد من الفخاخ ولا يمكن التنبؤ بردود الفعل التي قد تصدر من الشارع السوداني.. هل يتقبلها ويتفهم حقيقة الأوضاع؟ أم تنفجر الأمور وتنتهي حالة شهر العسل والشعبية غير المسبوقة التي يتمتع بها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك؟ أم هل ستتراجع الحكومة الانتقالية عن خطط رفع الدعم في اللحظات الأخيرة قبل إقرارها بصورتها النهائية؟
هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.