في مفاجأة لا أحد يعلم إن كانت ستزيد سخونة الأوضاع في الشرق الأوسط أم مجرد ترتيبات أمنية احترازية لا يمكن البناء عليها، قررت الحكومة اليابانية إرسال قوة عسكرية عبارة عن مدمرة قوات الدفاع الذاتي تاكانامي وطائرتي دورية من طراز P3C، بالإضافة إلى 260 جنديًا من العاملين على متن تلك الآليات العسكرية، لتأمين سفنها في منطقة الشرق الأوسط، وجمع معلومات تكفل ضمان المرور الآمن للسفن التجارية اليابانية على طريق نقل النفط.
ما سر القرار الآن؟
في يونيو الماضي، تعرضت ناقلة نفط يابانية لهجوم عنيف في خليج عمان، وبدا وكأنه استفزاز ممنهج في هذه المنطقة، خاصة أنه جاء بعد أقل من شهر على وقوع هجومين مشابهين تجاه ناقلتي نفط سعوديتين وناقلة نروجية وسفينة شحن إماراتية، وسريعًا أعلن الجيش الأمريكي بناءً على تحقيقات أجراها أن الهجوم ناتج عن لغم بحري شبيه بألغام شوهدت في عروض عسكرية إيرانية، ثُبت على هيكلها الخارجي فوق المياه.
التحقيقات الأمريكية أكدت أن اللغم انفجر فوق المياه ولم تكن نيته إغراق السفينة، ولكنها أشارت إلى وجود لغم آخر جرى ثبيته على هيكلها الخارجي، وحدث تغيير ما في الخطة على ما يبدو، فاتجهت قوة إيرانية على زورق سريع قبل انفجاره وأزالته بالفعل، ودعموا اتهاماتهم بتسجل مصور قالوا إنه يظهر إزالة إيرانيين للغم.
حتى الآن تبدو المعطيات طبيعية ولا غرابة في قرار رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، بتكليف الجيش بتشكيل قوات دفاع ذاتي ورفض مهمة الأمن البحري التي تقودها الولايات المتحدة أو عدم الاكتفاء بها، وقد يؤكد حسن النوايا، إطلاع “آبي” الرئيس الإيراني حسن روحاني، خلال زيارته لليابان الأسبوع الماضي، على هدف البعثة، لاحتواء غضبه ورفضه وبلاده الوجود عسكريًا في المنطقة، بجانب إجراء اتصالات مكثفة لزيارة السعودية والبلدان الأخرى ذات الصلة في منطقة الخليج، في منتصف يناير المقبل، لحشد الدعم لمهمته العسكرية في الخليج.
طموحات عسكرية غامضة.. والدستور يمنع
منذ اندلاع الصراع بين إيران والولايات المتحدة بعد تولي ترامب منصب الرئاسة وإعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي الذي أبرمته طهران و6 قوى عالمية في 2015، وأعاد بموجبه فرض عقوبات على طهران، الأمر الذي أصاب اقتصادها بالشلل، واليابان تعلن بوضوح أنها تحتفظ بعلاقات ودية مع كل من الولايات المتحدة وإيران، كما أعلنت عدم انضمامها إلى أي تحالف أمريكي لحماية السفن التجارية في المنطقة.
هذا التوازن لم يمنح اليابان القوة للاستمرار في شراء النفط من إيران، والتزمت تمامًا بالعقوبات الأمريكية رغم دعوتها أكثر من مرة وفق دبلوماسيتها الهادئة، ضرورة العمل على تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط الذي تحصل منه على الجزء الأكبر من وارداتها النفطية، ولم تنجح رسائل السلام اليابانية بالنهاية في تخفيف التوتر بين الجانبين.
مع اتساع دوائر التشاحن ولجوء الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف لحماية الملاحة في الخليج، حاولت طهران إظهار أنيابها وقدرتها على اعتراض أي تحرك من قوات أجنبية في المنطقة، وظهرت هجمات غامضة على السفن التابعة للدول المعادية لها، مما أثر على تجارة السلع العالمية هذا العام، خاصة أن الهجمات طالت سفن تجارية دولية ـ ربما دون قصد ـ ولهذا ألقى حلفاء اليابان الغربيون باللوم على إيران التي نفت بالطبع أي ضلوع لها في تلك الهجمات.
ويعرف المطلع على التاريخ الياباني أن الدستور يمنع تمامًا الاشتراك في أي أنشطة عسكرية خارج الحدود، وتنص المادة التاسعة في الدستور وهي إحدى المواد الرئيسية التي أُضيفت عام 1947 على الابتعاد عن النزاعات المسلحة أو المشاركة في الحروب، وتؤكد نصًا أن الدولة اليابانية تتخلى رسميًا عن حق السيادة في القتال، حيث تهدف إلى سلام دولي قائم على العدالة والنظام.
وتفسر شروحات المادة الدستورية أن الطموح الصادق للشعب الياباني في سلام عالمي يعتمد على العدل والقانون اللذين يرفضان الحرب أو استخدام القوة لحل الخلافات الدولية، ولتحقيق ذلك تبدأ اليابان من نفسها، وتعلن أنها لن تمتلك وللأبد أي قوة حربية هجومية في البحر أو الجو أو على الأرض أو أي نوع آخر من الإمكانات العسكرية العدوانية، كما لن تعترف بحق أي دولة في العدوان الحربي على دولة أخرى.
المثالية اليابانية التي منحتها الأمان والسلاح لنحو ثمانية عقود، يبدو أن الحكومة الحاليّة ترى أن الأجواء لم تعد تصلح لها، وحان الوقت لإجراء تعديلات على الدستور تمنح القوات المسلحة تفويضًا لحماية مصالحها خارج البلاد، في ظل التوتر القائم بالشرق الأوسط،، خاصة إذا علمنا أن أكثر من 80% من واردات النفط اليابانية تأتي من مضيق هرمز.
وبحسب خبراء، حال موافقة البرلمان الياباني على هذا التعديل التاريخي للدستور، لن يكون الهدف إرسال قوات للمشاركة في عمليات قتالية رادعة لتحركات إيران التي تهدد بإغلاق مضيق هرمز، بل سترسل قوات للاستطلاع وإجراء بحوث ميدانية على الأوضاع لعلها تستطيع المساهمة في تخفيف وتيرة التوتر بالشرق الأوسط، وما يدعم ذلك حرص حكومة شينزو على استمرار علاقاتها القوية بطهران، ورفضها في الوقت نفسه الحصول على عضوية في التحالف الدولي الذي طرحته أمريكا لحماية الممرات.
السياسة الخارجية لليابان.. مقدمات حذرة لتغير تاريخي
رغم لعب اليابان في مساحة آمنة، حتى بعد قرار الدفع بقوة مسلحة خارج حدود البلاد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ما ينفي عنها روح العدائية، ولكن أي قراءة للسياسة الخارجية الجديدة لليابان ستكشف حالة من الغموض والتحالفات المزدوجة التي لم تعرف بها السياسة اليابانية خلال العقود الماضية، لدرجة أنه أصبح من الصعب التوفيق بين مواقفها كافة.
رئيس الوزراء آبي شينزو يعمل دائمًا على توثيق علاقاته الشخصية مع دونالد ترامب ويعطي التحالف الياباني الأمريكي أولوية قصوى، ولكن اليابان في نفس الوقت تبتعد عن سياسة واشنطن تجاه الصين، وكذلك مع كوريا الجنوبية التي دخلت في مشاحنات كثيرة معها واعتبرتها غير جديرة بالثقة ووصل مستوى التوتر بينهما لدرجة أنها أزالت اسمها من القائمة البيضاء لشركائها التجاريين المفضلين، مع أن كوريا الجنوبية من أهم حلفاء ترامب!
التغير في السياسة اليابانية كان حاضرًا على طاولة ترامب، ولسبب أو لآخر أصبح ينتقدها بشدة، ويحملها مسؤولية الخلل في الميزان التجاري بين البلدين، وبات واضحًا أن التاجر الأمريكي يرفض سياسة عدوم الوضوح اليابانية ويرغب في جر حكومة شينزو، إما للمشاركة بالتحالف الدولي لحماية الممرات أو تحميلها جزءًا ليس بالقليل من تكاليفه الأمنية المرتفعة.
وصلت رسائل النزعة الانتقامية الترامبية إلى اليابان، فلجأت هذه الأخيرة إلى العزف على غرائز ترامب، ومن جديد دأبت على الترويج لجعل منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة، وهي كافية لإشباع شهية الرئيس الأمريكي، رغم اختلاف الرؤية اليابانية والأمريكية بشكل كبير في الآليات، إذ ترغب واشنطن في بناء تحالف أمني يحاصر الصين عسكريًا، في حين تريد طوكيو تطوير نظام إقليمي أكثر شمولًا يستند إلى حكم القانون واقتصاد السوق والتجارة القائمة على القواعد، وهي لغة لا يحبها ترامب ولا يقتنع بها.
هذه التناقضات والتقلبات النفسية لترامب، جعلت حكومة طوكيو تسارع للإفلات من قبضته، باللحاق بركب الصين وروسيا، وجمعت العديد من اللقاءات الرئيس فلاديمير بوتين وآبي في الأشهر الأخيرة، وبدا واضحًا أن الأخير لا يكترث كثيرًا ببرود العلاقات بين روسيا وأمريكا، ولم يستجب كذلك لمحاولة ترامب إشعال الموقف وإثارة حساسيات قومية عن الأراضي الشمالية المتنازع عليها بين اليابان وروسيا، في تعليقاته على التقارب بين البلدين، ومضى في طريقه للعب في مساحة خلفية مع روسيا، لإقامة تعاون اقتصادي يحصنها من جنون ترامب وشطحاته غير المتوقعة دائمًا.
المعطيات السابقة تؤكد أن العقد الماضي حدث فيه تحول كبير في أولويات اليابان وتحدياتها الاقتصادية المتفاقمة من جراء تبعات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، خاصة أنها تتقاسم من الأخيرة مصالح كبرى، في بناء أطر عمل تجارية إقليمية مثل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة واتفاقية التجارة الحرة بينهما بجانب كوريا الجنوبية، لمنع انتشار التعريفات الجمركية العالية التي يمكن أن تلحق الضرر باقتصاداتهما التي تعتمد على التصدير.
ومع أن السياسة الخارجية اليابانية كانت تتمحور دائمًا حول مبدأ التوازن في العلاقات مع الجميع، وساعدتها الظروف الدولية في إبقائها بمنطقة دافئة تناسبها، لكن الوقت الحاليّ وتعقيداته أصبح معه تحقيق التوازن الصحيح مهمة أكثر تعقيدًا، ما يجعل هناك حاجة لرسم مسار جديد للسياسة الخارجية لليابان، في ظل بيئة غير مستقرة، وقد يكون قرار إرسال قوة عسكرية لمرافقة مصالحها في الشرق الأوسط بداية الوجه الآخر لليابان!