هل للمستضعفين قوة؟ نعم، وهذا ما لم أكن أصدقه حتى عايشته مرتين: الأولى بقراءة كتاب “قوة المستضعفين” للكاتب التشيكي فاتسلاف هافل، والثانية بتجربة عملية عايشتها بنفسي، فكيف يحدث أن يتملك المستضعف قوة ما وهو على ما عليه من الاستضعاف؟ وهل كل مستضعف يمتلك هذه القوة؟ وهل كل مستضعف يعرف قوته ويحسن استثمارها؟ ثلاثة أسئلة مثيرة سأحاول الإجابة عنها في هذا المقال.
المستضعف – بتعريفي هنا – هو إنسان فرضت عليه قوة قاهرة لا يستطيع الفكاك منها بسهولة، ولكن هل هو خالٍ من قوة الفكاك؟ لا أبدًا، ربما لديه قوة بدنية وعقلية وعاطفية وروحية يجهل امتلاكها أو قد لا يحسن استثمارها، وهذا أبدًا ليس عند كل المستضعفين، فبعضهم – فرادى أو جماعات – استطاعوا رغم استضعافهم زعزعة القوة التي هيمنت عليهم، وبعضهم دمر، على المدى الطويل، أنظمة عاتية ما كان يتوقع أحد أن تُدَمَّر.
يقول فاتسلاف هافل: “عندما استحكم النظام الشيوعي في جمهورية تشيكوسلوفاكيا وفرض هيمنته على الناس بقوة الأجهزة البوليسية المرعبة، لم يعد بالإمكان مواجهة هذا النظام ونقده من المثقفين الذين تم شراؤهم أو سجنهم في معتقلات مرعبة أو قتلهم، ولكن بقي أمل وحيد وهو أن يبقى أحدهم مستيقظًا ليقول الحقيقة للأجيال القادمة دون أن يتكلم! نعم، دون أن يتكلم، بل بسلوك عفوي يعبر به عن غضبه وحقده وحلمه بالحرية، وهو بهذا يذكِّر الجميع دائمًا أن الوضع السائد ليس هو الأصل وليس هو الطبيعة، وأن التغيير ممكن وقادم لا محالة”.
عندما قرأت الكتاب للمرة الأولى لم أفهم بالضبط ماذا يقصد الكاتب كونه يضع أفكاره دون ترتيب ودون عناية أكاديمية تضع المقدمات وترتبها للوصول إلى النتائج، ولكن شيئًا ما شدني إلى هذا الكتاب، ربما عنوانه.
في القراءة الثانية صرت أقترب أكثر فاكثر من فهم رسائل الكتاب، فقد فهمت كيف يمكن لمستضعف استخدام قوته الكامنة، وغالبًا دون قصد، وكيف يمكنه تدمير منظومة عاتية مرعبة، فقط بألا يكون جزءًا منها.
كانت معنويات العاملين في الحضيض، وكل همهم اليومي انتهاء ساعات العمل الذي لا يحبونه ولا يستطيعون تركه، لأنه ببساطة لا يوجد عمل آخر
منذ سنوات طويلة كنت في سوريا أجري بحثًا ميدانيًا لصالح الجامعة لتقييم أحد مصانع الغزل والنسيج المملوكة للدولة ذات التوجه الاشتراكي، وكانت نتيجة التقييم كارثية، فالمصنع تجاوزت خسائره أربعة أضعاف قيمة رأسماله التأسيسي، وتُسدد الرواتب وقيمة المواد الأولية وتكاليف الصيانة من موازنة الدولة، وهذا يعني أن المصنع العملاق مصرف يهدر موارد موازنة الدولة، في حين كان الغرض من إنشائه رفد هذه الموازنة وزيادة إيراداتها.
كانت الإدارة غير مؤهلة وتعسفية وفاشلة بكل معنى الكلمة، والرواتب المدفوعة لا تلبي طموح العامل الشاب الأعزب، ناهيك عن العامل رب الأسرة، وكانت معنويات العاملين في الحضيض، وكل همهم اليومي انتهاء ساعات العمل الذي لا يحبونه ولا يستطيعون تركه، لأنه ببساطة لا يوجد عمل آخر.
لاحظتُ أن الإدارة – كما أخبرني خلسة أكثر من عامل – تستعين بفئة قليلة من العمال تسمى الفرقة الحزبية، التي كانت أحيانًا تستخدم العنف الجسدي مع كل عامل يقصِّر في العمل، ووصل الأمر إلى ضرب بعض العاملات بنفس الحجة والمبرر.
أشاع هذا الأمر – بالإضافة إلى ظروف العمل الأخرى – جوًا من الخوف والرعب والحنق في المؤسسة، فكانت ردة فعل بعض العاملين تعطيل الماكينات سرًا وتخريب بعض أجزائها، وتأخير عمليات الإنتاج بحجج عملية لا يمكن مسك مأخذ ملموس عليهم فيها.
وطبعًا هذا ما لم أستطع كتابته في البحث، إذ كيف سأثبت شيئًا غير ملموس؟ وأنا الأكاديمي الذي دُرِّب على أن يضع لكل معلومة دليلًا أو رقمًا إحصائيًا، ثم كيف أتقبل هذه الفكرة التخريبية التي لم أدرك أثرها حقيقة ولم أدرك نتائجها التراكمية، خاصة إذا عرفنا عدد المصانع الحكومية التي فيها أمثال هؤلاء المستضعفين؟ ثم ماذا لو وصلت هذه الفكرة إلى قطاع التعليم والقيم والأخلاق؟ وللأسف فقد وصلت في جميع دول الاستبداد وفعلت فعلها المشؤوم.
هؤلاء العاملون (المخربون المخاطرون وربما الشجعان) استطاعوا إفشال خطة إنتاج المصنع بصمت وهدوء وبحجج يستحيل معها لومهم، وذلك عن طريق التعامل مع الآلات بطريقة غير علمية ولا عملية، ولأنَّ مثل هذا المصنع ينتشر في البلاد كثيرًا، فهمت لاحقًا كيف استطاع هؤلاء المستضعفون تخريب منظومة سياسية استبدادية عن طريق تفشيل آلتها الإنتاجية وتفشيل نظامها الاقتصادي، فلو نجحت هذه الأنظمة اقتصاديًا، ربما استمرت إلى الأبد.
ليس غريبًا أن الأنظمة الاشتراكية الاستبدادية كانت تسمي العمال والفلاحين بالبروليتاريا، فأفضل ترجمة وجدتها لهذه الكلمة هي “المهمشون”
وبهذه الملاحظة فهمت كيف استطاع العامل والفلاح، في ظل دولة الاستبداد الستالينية تفشيل الخطط الخمسيّة للديكتاتور “ستالين”، وبالتالي تدمير دولة مثل الاتحاد السوفيتي وإفشالها عن طريق إفقارها بقصد أو بغير قصد، المهم أن العامل والفلاح عندما يفقد انتماءه، يصبح خارج المنظومة، وهذا كافٍ ليتركها تتهالك وتقع طالما أنه يتألم دائمًا.
هل القطاع الخاص الذي يبخس العامل حقه بمنأى عن هذه القوة المدمِّرة؟ كلا، فالظلم ظلم والمظلوم غالبًا لا يستسلم، سيجد طريقًا للانتقام، فما فعله ويفعله المستضعفون بصمت وهدوء وصبر وألم، هو ردة فعلهم على تهميشهم اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، وليس غريبًا أن الأنظمة الاشتراكية الاستبدادية كانت تسمي العمال والفلاحين بالبروليتاريا، فأفضل ترجمة وجدتها لهذه الكلمة هي “المهمشون”، أو كما كان يسميهم نجيب محفوظ (الحرافيش) في روايته التي تحمل نفس الاسم.
الغريب أن ما فعله هؤلاء الحرافيش لم يستطع فعله المثقفون والأكاديميون المُرَاقَبُون بعناية أو الذين يمكن شراء ذمم بعضهم أو تهجير البعض الآخر، أو حتى تذويبهم بسهولة في أي مادة كيميائية مخصصة لمثل هؤلاء.
كيف تتخلص أيها المستبد من عمال وفلاحين هم صلب خطتك، وهم – أيضًا بعنادهم وشقاوتهم – أمل الخلاص لمجتمعاتهم؟ هذه هي قوة المستضعفين التي تنفع بشكل فعال في مرحلة الهدم أولى مراحل ثورة الخلاص.
هل كل مستضعف يمتلك هذه القوة؟ الجواب نعم، ولكن ليس كل مستضعف يعلمها أو يستخدمها، ولذلك غالبًا يتأخر الخلاص حتى يصل عدد الشجعان إلى النسبة الحرجة التي تُحدِث أثرًا ملموسًا، فقوة المستضعفين تكمن في الذين قرروا ألا يكونوا جزءًا من منظومة الفساد والإفساد.
وللعلم، فإنه توجد قوة أخرى لنوع آخر من المستضعفين، وهم الذين قرروا المشاركة في الفساد والإفساد، وهؤلاء إذا زاد عددهم سرَّعوا انهيار المنظومة عن طريق قضمها ثمنًا لموالاة الطاغية المؤسس لها، وهذا أحد أشكال انتقام الله من طغاة الأرض، وهذا له كلام آخر في موضع آخر.