شهدت الأوضاع الأمنية في العراق منذ انطلاق تظاهرات أكتوبر، حالة من التعقيد الأمني والإستراتيجي التي أضافت إلى جانب تهديدات تنظيم “داعش”، مزيدًا من الأعباء الأمنية التي أرقت الدولة العراقية على المستويات كافة، فنتيجة لتداخل الضرورات الأمنية العراقية مع المصالح الأمريكية الإيرانية في العراق، فإن ذلك انعكس على طبيعة النظرة التي ينظر من خلالها صانع القرار في العراق إلى المصلحة الوطنية العراقية، وطريقة توظيفها بعيدًا عن مصالح هذين البلدين.
وعلى هذا الأساس فإن تحول العراق إلى قاعدة تتشكل عليها الترتيبات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، جعلته متغيرًا تابعًا وليس مستقلًا، بل والأكثر من ذلك تحول إلى طرف ضعيف في معادلة الصراع الأمريكي الإيراني، الذي أثقل كاهل الدولة العراقية كمؤسسات ومقدرات وطنية، وهو ما يعكس بدوره أحد جوانب الفشل التي أطرت عمل الدولة العراقية بعد عام 2003، وقد يشكل أيضًا أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت المتظاهرين للتظاهر ورفع شعار “نريد وطن”، نتيجة الأزمة التاريخية التي تمر بها الدولة العراقية.
يتمثل أحد جوانب الصراع الأمريكي الإيراني في العراق، في وجود العديد من الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران التي شكلت بدورها أحد العراقيل الرئيسية التي واجهت الإستراتيجية الأمريكية في العراق سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بل إن وجود هذه الفصائل المسلحة شكل عنوانًا للعديد من المطالبات الأمريكية المستمرة منذ انتهاء الحرب على داعش، من ضرورة حلها أو دمجها بالمؤسسات الأمنية العراقية، وعلى الرغم من المطالبات الأمريكية المستمرة، فإن الحكومة العراقية أثبتت عجزًا مستمرًا في احتواء عمل هذه الفصائل، نتيجة ارتباط هذه الفصائل بالأحزاب السياسية من جهة، وبالحرس الثوري الإيراني من جهة أخرى، وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى أن هذه الفصائل تطرح نفسها ضمن عناوين رئيسة عدة منها:
-
فصائل مسلحة تطرح نفسها ضمن مسمى الحشد الشعبي، وهي ترتبط به سياسيًا وأمنيًا وعملياتيًا وعقائديًا.
-
فصائل مسلحة تطرح نفسها ضمن مسمى المقاومة الإسلامية، التي تعتبر نفسها أيضًا جزءًا من محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، وهي مرتبطة سياسيًا وإداريًا وعملياتيًا بالحشد الشعبي، وعقائديًا وإيديولوجيًا بالحرس الثوري الإيراني.
-
فصائل مسلحة تعمل خارج منظومة هيئة الحشد الشعبي ولا تتبع له، إلا أنها تمارس نشاطها الأمني في مساحات واسعة، وخلقت مناطق نفوذ خاصة بها، وهي غير واضحة المعالم من حيث العدد والإدارة والتوجيه.
والأكثر من ذلك فإن عمل هذه الفصائل المسلحة لم يقتصر على العراق فحسب، بل إن إطار عملها تجاوز حدود الدولة العراقية، سواء على مستوى العمل العسكري أم الدعم الاستخباري أم الاستشارة العسكرية، كما هو عليه الحال في سوريا واليمن، وهو ما جعلها في حالة مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل”، وبالشكل الذي جعلها عرضةً للعديد من الهجمات الجوية والصاروخية منذ مطلع العام الحاليّ.
إذ سبق وشنت كل من الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” هجمات صاروخية وجوية على العديد من المعسكرات التابعة لفصائل مسلحة ضمن الحشد الشعبي في الأنبار وصلاح الدين ومناطق حزام بغداد.
تشير العديد من التقارير الاستخبارية إلى أن عدد مقاتلي “حزب الله” يتراوح بين 12000-13000 مقاتل، كما أنه يمتلك صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، أغلبها إيرانية الصنع
شكلت كتائب “حزب الله” العراقي إحدى أبرز الفصائل المسلحة التي ذاع صيتها في الآونة الأخيرة، نتيجة اتساع رقعة انتشارها وعمق تأثيرها الأمني، وتحديدًا في مرحلة ما بعد داعش، إذ بنت هذه الكتائب مقومات قوتها الاقتصادية والأمنية بعيدًا عن أنظار الدولة العراقية، فحولت مناطق عراقية عديدة مثل جرف الصخر والقائم إلى مناطق نفوذ خاصة بها، لا تستطيع حتى الدولة العراقية تجاوزها، أما على مستوى القدرة العسكرية، فتشير العديد من التقارير الاستخبارية إلى أن عدد مقاتلي الحزب يتراوح بين 12000-13000 مقاتل، كما أنه يمتلك صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، أغلبها إيرانية الصنع، أو تُنتج بدعم وإشراف خبراء إيرانيين، فضلًا عن امتلاك الحزب للطائرات المسيرة المخصصة للعمليات الانتحارية والاستشعار الاستخباري، إلى جانب امتلاكه لأسلحة ثقيلة كالدبابات والدروع، وهو ما جعله إحدى أقوى الأذرع الإيرانية في العراق، وعنصر حاسم في أي مواجهة عسكرية قد تندلع في العراق بالنيابة عن إيران.
وفي هذا الإطار يلفت الانتباه إلى عدم وجود أمين عام لكتائب “حزب الله” في العراق، على عكس الفصائل المسلحة الأخرى، فهو يرتبط بالحشد الشعبي إداريًا وماليًا وعملياتيًا، إلا أنه يرتبط عقائديًا بالحرس الثوري الإيراني، وعند مراجعة النظام الداخلي للحزب يتضح لنا أنه يطرح نفسه كجزء من “نظام ولاية الفقيه”، ولعل هذا ما يشير إلى أن هذا الحزب يعتبر أن الولي الفقيه في إيران أمينه العام، وبمعنى أدق يطرح نفسه عضويًا ضمن النظام السياسي في إيران، شأنه في ذلك شأن الحرس الثوري الإيراني، ولعل عدم انصياع هذا الحزب للعديد من الأوامر الصادرة عن القيادة العامة للقوات المسلحة أو حتى تلك التي تصدر من هيئة الحشد الشعبي، خصوصًا في طريقة التعاطي مع الوجود الأمريكي في العراق، يشير وبما لا يقبل الشك، أن هذا الحزب يعتبر نفسه فوق الدولة، وهو توجه يعكس طموح الحزب بالعمل ككيان موازٍ للدولة من جهة، والفصائل المسلحة الأخرى التي لا تتماهى مع النظام الإيراني من جهة أخرى.
شكلت الهجمات الجوية الأمريكية الأخيرة على المعسكرات والمخازن التابعة لكتائب “حزب الله” في مدينة القائم العراقية، وأخرى واقعة في شرق سوريا وتحديدًا منطقة البو كمال، وذلك على خلفية هجمات صاروخية سابقة شنها مقاتلو الحزب على قاعدة K1 في كركوك، التي راح ضحيتها متعاقد مدني أمريكي وعشرات الجرحى، حالة تصعيد خطير في إطار المواجهة غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بل يمكن القول إن معركة كسر العظام بين الطرفين قد تتصاعد شيئًا فشيئًا خلال الأيام القادمة، وقد لا تقتصر على حدود الدولة العراقية، بل قد نشهد تصعيدًا أمنيًا في سوريا أو لبنان أو اليمن أو حتى منطقة مضيق هرمز، وذلك نظرًا للقدرة الإيرانية على تحريك العديد من المليشيات والجماعات المسلحة في آن واحد، وذلك من أجل ردع الولايات المتحدة الأمريكية ورفع تكاليف المواجهة الإستراتيجية معها.
هدد بيان “حزب الله” بأن كل المواقع والمعسكرات التي توجد بها القوات الأمريكية ستكون هدفًا لمقاتلي الحزب
إن كتائب “حزب الله” العراقي تعتبر نفسها جزءًا فاعلًا في إستراتيجية إيران لمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، والمتتبع للبيان الذي صدر عن الحزب يوم أمس، عقب وقوع الهجمات الأمريكية على معسكراته في القائم، يجد أنه هدد بأن كل المواقع والمعسكرات التي توجد بها القوات الأمريكية ستكون هدفًا لمقاتلي الحزب، وهنا لا بد من القول إن مجالات تنفيذ الحزب لهجمات انتقامية قد تتحدد في ثلاثة مجالات جغرافية حصرًا: القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد – السفارة الأمريكية – قواعد ومعسكرات أمريكية أخرى داخل العراق، أو القوات الأمريكية الموجودة في سوريا على الحدود مع العراق، أو المصالح والمعسكرات الأمريكية الموجودة في المناطق الشمالية أو الشرقية من المملكة العربية السعودية، على اعتبار أن الحزب سيطر على مساحات شاسعة من منطقة النخيب المحاذية للحدود الشمالية الشرقية للسعودية، وهو ما يجعل فرضيات رد الحزب متعددة، وهذا التعدد نابع من الخيارات العسكرية العديد المتاحة له داخل وخارج العراق.
إن الوضع الأمني في العراق أصبح مرشحًا لمزيد من التصعيد الأمني والإستراتيجي، فإلى جانب الأزمة السياسية التي يعيشها العراق منذ انطلاق تظاهرات أكتوبر، وفي ضوء عدم التوصل إلى مرشح جديد لرئاسة الوزراء، فإن الانغماس الشديد من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في الشأن الداخلي العراق، والتهديدات المستمرة لتنظيم داعش على تخوم المدن والمناطق العراقية، يشير بما لا يقبل الشك أن المنظومة الأمنية العراقية ما زال يعتريها الكثير من الشك والضعف، فوجود هذا العدد الكبير من الفصائل المسلحة والضغط الإيراني المتصاعد، إلى جانب الهجمات الأمريكية الإسرائيلية المتكررة، قد يضعف قدرة المؤسسات الأمنية العراقية على ضبط حركة التفاعلات الأمنية التي تجري على الساحة الداخلية، وبالشكل الذي لا يخدم بقاء الدولة أو الحفاظ على مكتسبات الحراك الشعبي التي تحققت حتى هذه اللحظة.