في جلسة أُعدت خصيصًا لمناقشة “قضايا التعليم” في مصر، على هامش مؤتمر الشباب الأول الذي عُقد بشرم الشيخ في ديسمبر 2016 قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جملته الشهيرة: “ينفع التعليم في إيه مع وطن ضائع؟ لا.. ده إحنا عندنا تحديات كبيرة جدًا”، تلك العبارة التي أثارت جدلًا واسعًا في الشارع المصري.
رغم ما تبدو عليه العبارة من وضوح لا يحتاج إلى توضيح، فإن أيادي أخرى تلقفتها في محاولة لإعطائها تفسيرًا آخر يخرج السيسي من مأزقه الذي وضع نفسه فيه بشأن امتهان العلم ومشتقاته، لكن من الواضح أن تلك الجهود لم تفلح في تحقيق الهدف المنشود منها وهو ما كشفته الأحداث التالية لهذا المؤتمر.
قبيل المؤتمر بقليل وبعده بقليل أيضًا تعرض الشارع الثقافي المصري لضربات موجعة، حيث أغلقت بعض المكتبات العامة الشهيرة بدعاوى بعضها أمنية والأخرى إجرائية، لتستقر في الأذهان حقيقة أن الأمور تسير وفق منهج وإستراتيجية متفق عليها، تهدف إلى اغتيال الثقافة في مصر، في ضوء استشراف ما يمكن أن تمثله من خطورة على النظام.
الخميس الماضي، 26 من ديسمبر، كانت الحلقة الأخيرة في هذا المسلسل، حيث أُغلق آخر فرعين لمكتبات “ألف” إحد أبرز السلاسل المكتبية الشهيرة ذات الـ37 فرعًا، التي يعود تأسيسها للعام 2009، بفرع في حي مصر الجديدة، قبل أن يتوالى فتح فروعها في عشر محافظات، ومنهم فرع خارج مصر، في المملكة المتحدة.
قرار الغلق جاء بعد 28 شهرًا على قرار التحفظ على الشركة العربية الدولية للتوكيلات التجارية، المملوكة لرئيس مجلس إدارة مكتبات ألف، عمر الشنيطي، والصادر عن لجنة التحفظ وإدارة أموال جماعة الإخوان، في أغسطس 2017، وهو القرار الذي أسفر عن تعيين مراقبين ماليين وإداريين من مؤسسة “أخبار اليوم” لإدارة المكتبة، وسرى تنفيذه على الـ37 فرعًا الخاصة بالمكتبة، ليطلعوا على سير العمل بها والتأكد من البلاغ المقدم ضدها باعتبارها تابعة لجماعة الإخوان.
يذكر أنه قبل ستة أشهر تم القبض على رئيس مجلس إدارة الشركة، الشنيطي، وضمه للقضية (930) لعام 2019، المعروفة إعلاميًا بـ”خطة الأمل”، حيث وجهت له تهم: تمويل وإمداد جماعة إرهابية، إلى جانب مشاركة جماعة إرهابية تحقيق أهدافها”، ليبقى حتى كتابة هذه السطور قيد الحبس رغم مناشدات الإفراج.
ضربات أمنية متتالية
لم تكن مكتبات “ألف” وحدها من تلقت الضربة الأمنية الموجعة، لكنها تأتي في إطار سلسلة التضييقات والملاحقات الأمنية التي منيت بها عدد من المكتبات وأصحابها، ففي أقل من عام واحد فقط، وبالتحديد في الفترة من ديسمبر 2016 وحتى سبتمبر 2017 أُغلقت ثلاث مكتبات رئيسية تتجاوز فروعها الـ60 فرعًا، في سابقة هي الأولى من نوعها خلال العقود الأخيرة، مما تسبب في الكثير من الإدانات الحقوقية المصرية والعالمية.
الحملة بدأت في ديسمبر 2016 حين داهمت قوة من الأمن الوطني وأغلقت فرعين لمكتبات “الكرامة”، لمالكها جمال عيد، رئيس الشبكة العربية لحقوق الإنسان (الذي تعرض هو الآخر للضرب والتنكيل من قوات الأمن وفق ما ذكر على صفحته على فيسبوك)، وبعدها مباشرة أُغلقت الأفرع الست الأخرى التابعة لها، تباعًا.
عيد في تصريحاته التي علق بها على غلق مكتبته كشف أن هذا القرار سيحرم نحو 40 ألف مستفيد من المكتبة سنويًا أغلبهم من فئة الأطفال والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 12-17 سنة، كانوا يعتبرون المكتبة مكانًا آمنًا للمذاكرة، على حدّ تعبيره.
افتتاح اول مكتبات الكرامة العامة في شارع بدار السلام، مكتبة خطوة”2011
من نتائج الثورة،اغلقها امن الدولة بتواطؤ من مرشحة اليونسكو،مشيرة خطاب pic.twitter.com/zfTaAh9I5U
— Gamal Eid (@gamaleid) July 9, 2017
وفي أغسطس 2017، داهمت قوة من مباحث المصنفات الفنية مقر مكتبة “البلد” المملوكة لفريد زهران رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي، قبل أن تداهمه قوة أمنية من قسم شرطة عابدين، في سبتمبر من العام نفسه، لتتحفظ على عدد من الكتب وتضع الشمع الأحمر على باب المكتبة، وذلك بحجة عدم الحصول على تراخيص العمل.
زهران نفى معرفة الأسباب وراء مداهمة المكتبة الواقعة بشارع محمد محمود، بمنطقة وسط البلد في القاهرة، وإلقاء القبض على مديرها ومصادرة محتوياتها، إلا أنه في الوقت ذاته أكد أن “المكتبة مستهدفة منذ شهر أغسطس من نفس العام، حيث سبق وداهمتها أيضًا قوة من مباحث المصنفات الفنية”.
الحملة المسعورة ضد الثقافة قوبلت بإدانات حقوقية واسعة النطاق، تلك التي وصفت الممارسات السلطوية المصرية بأنها إعلان حرب رسمي على المنظومة الثقافية في البلاد
وفي أبريل 2018، منيت مكتبة “تنمية” بضربة قوية، بعد القبض على مؤسسها خالد لطفي، بتهمة نشر أخبار كاذبة وإفشاء أسرار عسكرية، بسبب توزيعه طبعة من كتاب “الملاك” الصادر عام 2016 للكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف عن أشرف مروان، وصدر ضده حكم أول من محكمة عسكرية في أكتوبر العام نفسه، بالسجن خمس سنوات، وهو القرار الذي أيدته محكمة الاستئناف العسكرية في فبراير هذا العام، ثم أيدته محكمة النقض العسكرية، في 24 من الشهر الحاليّ، ليصبح نهائيًا.
الأمر لم يتوقف عند حاجز المكتبات الثقافية الشهيرة وفقط، فهناك عشرات المكتبات الصغرى الأخرى التي تعرضت لمضايقات أمنية خلال الفترة الأخيرة وفق شهود عيان، الأمر الذي دفع أصحابها لغلقها أو بيعها، وجاءت معظم المبررات من جانب السلطات تنضوي تحت بند (عدم اكتمال أوراق وإجراءات خاصة بالمكتبات).
استعداء الثقافة
الحملة المسعورة ضد الثقافة قوبلت بإدانات حقوقية واسعة النطاق، تلك التي وصفت الممارسات السلطوية المصرية بأنها إعلان حرب رسمي على المنظومة الثقافية في البلاد، وأن ذلك يخفي عداءً واضحًا للثقافة والمثقفين، وهو ما تترجمه الممارسات خلال الأعوام الأخيرة.
الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في بيان سابق لها وصفت ما حدث بـ”انتهاك بوليسي غير مسبوق في مسار الثقافة المصرية”، لافتة إلى أن “استهداف مكتبة البلد بعد أقل من شهر من التحفظ على أموال مكتبة ألف، وفروعها على مستوى الجمهورية، وإخضاعها لإدارة الدولة، وقبلها مكتبات الكرامة العامة بالأحياء الشعبية التي أغلقتها السلطة في مصر بشكل بوليسي دونما قضية أو قرار في ديسمبر 2016 هو استمرار للحملة التي بدأتها السلطة في أغسطس 2014 بمنع احتفالية الفن ميدان التي كانت تقام في ميدان عابدين لمدة ثلاث سنوات، ثم مداهمة وإغلاق جاليري تاون هاوس ومسرح روابط في يناير 2016”.
اللافت للنظر أن حملة تشميع المكتبات العامة تأتي بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب المقرر إقامته في الفترة من 22 من يناير حتى 4 من فبراير القادم
البيان أكد أن “السلطة في مصر تتخذ منحى معاديًا للمعرفة والثقافة وممعنًا في عسكرة الحياة في مصر”، مطالبة السلطة بـ”رفع يدها عن الثقافة وأماكن تغذية العقول وإنارتها، والتراجع الفوري عن قرار غلق مكتبة البلد وإعادتها لدورها في إثراء الحركة الثقافية في مصر”.
وفي جولة سريعة لخريطة الحريات الإعلامية في مصر يلاحظ أن المناخ يعاني من تشوهات غير مسبوقة، بدءًا بحجم معتقلين لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث، إذ تتراوح الأعداد بين 40 ألف بحسب العفو الدولية أو أقل من ذلك بحسب تقارير رسمية أخرى وغير رسمية.
– حوالي 10 أو 12،طرحوني ارضا، بعضهم شل حركتي، بعضهم يضرب، بعضهم يغرقني بالبويه، بعضهم يهدد الناس المجتمعةبمسدس، بعضهم يصورني،وباشا بيشرف!
– الناس غضبانة، وعرفوا انهم ضباط.
– اكتر حاجة ساعدتني، لما لينا بنتي خدتني بالحضن وقالت لي: ولا يهمك يا بابا انت اقوى.
تسقط #العصابة_الأمنية pic.twitter.com/Aqjz4dHrYp
— Gamal Eid (@gamaleid) December 29, 2019
مرورًا بما يزيد على 500 موقع تعرضوا للحجب خلال العامين الماضيين كما رصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير، الأمر الذي دفع مصر لاحتلال المرتبة الأولى عالميًا كأكبر مصدر لعدد عناوين بروتوكول الإنترنت المستخدمة في هجمات حجب المواقع الإلكترونية، خلال الربع الثاني من 2017.
هذا بخلاف رصد قرابة نحو 1095 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في أثناء تأدية عملهم، خلال عام ونصف فقط، من يناير 2016 وحتى مايو 2017، منهم 203 حالات منع من التغطية الصحفية، و65 حالة تعدٍ بالقول أو التهديد، و59 حالة تعدٍ بالضرب أو إحداث إصابة، و33 حالة فرض غرامة مالية، إضافة إلى 37 حالة اتهام عبر بلاغ للنيابة، وحكمين بالحبس، وحالتين إتلاف أو حرق معدات صحفية، فضلًا عن 21 واقعة قبض واتهام واحدة، إلى جانب حالة احتجاز دون وجه حق، بحسب تقرير صادر عن مرصد “صحفيون ضد التعذيب”
وكان نتيجة لهذا الوضع المشوه أن أصدرت 6 منظمات حقوقية بيانًا استنكروا فيه ترشيح مصر للسفيرة مشيرة خطاب لمنصب مدير عام المنظمة الدولية للعلوم والثقافة “اليونسكو” خلفًا للمديرة السابقة إيرينا بوكوفا، في الانتخابات التي أجريت في الـ9 من أكتوبر 2017 بمقر المنظمة في باريس.
المنظمات الموقعة على البيان الذي جاء تحت عنوان “ممثلو الدول التي تعادي الحقوق الثقافية وحرية التعبير لا يجب أن يديروا اليونسكو” وهي الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ومركز النديم لمناهضة التعذيب ومركز أندلس لدراسات التسامح ومؤسسة حرية الفكر والتعبير ونظرة للدراسات النسوية، عبروا عن أسفهم لعدم دعم خطاب في معركتها نحو قيادة المنظمة الدولية، لما بدر عنها مما أسموه “الصمت المتواطئ” تجاه إغلاق سلسلة المكتبات العامة.
كما استبعد فوز المرشحة المصرية بهذا اللقب، في ظل ازدواجية المعايير التي تخاطب بها القاهرة المهتمين بالشأن الثقافي دوليًا، ما بين الشعارات المرفوعة والحقيقة على أرض الواقع، ففي الوقت الذي تقدم فيه القاهرة ممثلة لها لقيادة المنظمة الأكبر في العالم في دعم الثقافة وحرية التعبير، يعاني رحم التنوير والثقافة والحريات في مصر من إجهاض شبه متكرر، كاد أن يصل بها إلى مرحلة العقم.
اللافت للنظر أن حملة تشميع المكتبات العامة تأتي بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب المقرر إقامته في الفترة من 22 من يناير حتى 4 من فبراير القادم، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات حول المناخ العام الذي يخيم على الأجواء الثقافية في البلد الذي كان حتى وقت قريب قبلة الصوت الحر والآراء المتعددة في المنطقة بأسرها.