في مقدمة كتابه “الخوف من الخوف”؛ تناول الروائي والقاص والمسرحي التركي عزيز نسين المعروف بـ”موليير تركيا” مسألة الخوف من “الآخر” الذي نجهله، وفي هذا السياق تساءل نسين عن سبب لجوء الإنسان لإطلاق الصفير في الليل أو الغناء، وقد أرجع ذلك إلى أننا لا نريد أن نشعر بأننا وحدنا، لأن عدم الشعور بالوحدة هو الذي يبدد الخوف.
ولا شك أن أهم الوسائل من أجل معرفة هذا “الآخر” هي الترجمة، وليس من المبالغة أن نقول إن “الترجمة الأدبية” تحديدًا هي التي تلعب الدور الأبرز والأهم في عملية معرفة الآخر وعدم الجهل به، لأن الفن – كما هو معروف – روح المجتمع، وبعيدًا عن الخوض في أسباب إبعاد الشعبين العربي والتركي وفرض العزلة بينهما لعقود، فإن عودة تركيا إلى محيطها العربي منذ التسعينيات اقتصر – للأسف – على مجالات محددة.
وفي هذا السياق، يقول نسين في مقدمته المذكورة: “ما العامل الذي يضمن المعرفة الجيدة بين أناس من مجتمعات مختلفة؟ والجواب: الأدب هو النور الذي ينير ظلمات البشرية. إن خدع الإمبريالية وأطماعها نجحت للأسف في إبعاد الشعبين، العربي والتركي، أحدهما عن الآخر، هذان الشعبان اللذان كانا متعارفين جيدًا في الماضي، كان المطلوب إعادتهما إلى الظلمات. من غير الممكن أن يتعرف الشعبان التركي والعربي، أحدهما على الآخر، من خلال العلاقات بين الحكومات والتجارة فقط. لا يمكن أن يتحابا دون أن يتعارفا عن كثب. وهناك ما يمكن أن يؤدي إلى المعرفة المتبادلة بيننا بالتأكيد، إنه شعرنا ورواياتنا، وقصصنا وحكاياتنا، أو بكلمة واحدة: أدبنا”.
المثقفين العربي والتركي في المرحلة التي سبقت القرن العشرين لم يكونا بحاجة إلى الترجمة أساسًا لأنهما يعرفان اللغتين.
لسنا في حاجة للحديث عن مدى تداخل الثقافتين العربية والتركية على مدار قرون، وأن الأولى أثرت في الثانية بشكل كبير بعد اعتناق الأتراك للإسلام، كما رفد كثير من العلماء الأتراك الثقافة العربية أيضًا كالفارابي والخوارزمي والبيروني وغيرهم. وحسبنا القول إن المثقفين العربي والتركي في المرحلة التي سبقت القرن العشرين لم يكونا بحاجة إلى الترجمة أساسًا لأنهما يعرفان اللغتين. ولكن إذا نظرنا إلى واقع الترجمة بين الثقافتين بعد هذه العلاقة التاريخية، سنجد أن حجم المنتج الثقافي التركي في المكتبة العربية ليس بإمكانه بالتأكيد أن يعطي صورة واضحة للثقافة التركية عند العرب، والعكس صحيح أيضًا في الترجمة من العربية إلى التركية.
ما يهمنا في هذه المقالة هو القسم الخاص بواقع الترجمة من التركية إلى العربية، حيث بدأت هذه الترجمة خلال عقود العزلة التي عاشها الشعبان على يد بعض الأشخاص من التركمان أو من كان أمهاتهم مثلًا من أصول تركية، لكن هذه المرحلة المبكرة شهدت أخطاءً كبيرةً في الترجمات، وقد ذكر المترجم والأكاديمي التركي، أستاذ الأدب العربي في جامعة غازي بأنقرة، في إحدى ندواته على هامش مسابقة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، العديد من الأمثلة على أخطاء تلك المرحلة في الترجمة من التركية إلى العربية.
ولعل أبرز هذه الأخطاء هي ترجمة أحدهم لقصة “طاهر وزُهرة” وهي قصة عشق في التراث التركي القديم مثل قيس وليلى في التراث العربي، وقد استلهم هذه القصة الشاعر ناظم حكمت في إحدى قصائده، وجعل النضال بدلًا من العشق، لكن المترجم ترجمها “قضيلة الطُّهر وداء الزهري” وكأنه صراع بين الطهر والدنس، والأمثلة كثيرة في هذا السياق.
استمرت المرحلة الأولى على هذا الشكل، حتى بدأ أحد المختصين في الترجمة، وهو العراقي إبراهيم الداقوقي (1934- 2008)، أستاذ اللغة والأدب التركي بقسم الدراسات الشرقية في جامعة بغداد، الذي قدّم الكثير من الأعمال الأكاديمية عن الثقافة التركية إلى جانب ترجماته العديدة، إلا أن جهوده انحصرت بشكل كبير في الثقافة التركية بمعناها الواسع، فترجم المراجع عن الثقافة الشعبية لدى الأتراك وصورة العرب لديهم والتركمان في العراق ونقد الأدب التركي المعاصر، وإن كان قد ترجم أيضًا رواية “الأرض حديد والسماء نحاس” للروائي التركي الكبير يشار كمال.
العقود الثلاث الأخيرة، شهدت محاولات جيدة في الترجمة من التركية مباشرة بعد أن كانت أغلب الترجمات تتم عبر لغة وسيطة كالإنجليزية والفرنسية
بدءًا من عقد الثمانينيات اتخذت الترجمة من التركية إلى العربية منحى آخر وحققت قفزةً كبيرةً، وخصوصًا في مجال الترجمة الأدبية على يد المترجم السوري عبد القادر عبدللي (1957- 2017)، ورغم مشروع عبدللي الضخم في الترجمة، حيث ترجم أكثر من ثمانين كتابًا، فإنه يرى أن كل ما تُرجم من التركية إلى العربية الآن لا يمثل الثقافة التركية ولو بالحد الأدنى، وقد ذكر عبدللي في إحدى مقالاته عن الترجمة أنه تمكن بمساعدة بعض أصدقائه من جرد كل الترجمات منذ عام 1880 حتى 2013 فلم تتجاوز 260 عنوانًا!
المترجم السوري عبد القادر عبدللي
على أي حال، فإن العقود الثلاث الأخيرة، شهدت محاولات جيدة في الترجمة من التركية مباشرة بعد أن كانت أغلب الترجمات تتم عبر لغة وسيطة كالإنجليزية والفرنسية غالبًا، وكان لعبد القادر عبدللي نصيب الأسد في الترجمة عن التركية، حيث ترجم جميع أعمال الروائي التركي الحاصل على نوبل، أورهان باموق، بتكليف من الروائي نفسه، كما قدم نماذج أخرى لكُتّاب أتراك من أجيال مختلفة مثل رواية “ثأر الأفعي” لفقير بايكورت و”صفيحة” ليشار كمال و”إنانا” لمراد تونجال و”الكنة” لأورهان كمال، كما كان لعبدللي الفضل بتعريف القارئ العربي بالكاتب التركي الكبير عزيز نسين، فهو أول من ترجم له “زوبك” و”الطريق الوحيد” والحمار الميت”.
ظهرت أسماء مترجمين آخرين، سوريين أيضًا، في هذا السياق، لكنهم لم يترجموا بنفس القدر الذي قدمه عبدللي، من بينهم عبد القادر مصطفى الذي ترجم رواية “القميص الناري” للروائية التركية خالدة أديب التي ظهرت في مرحلة حرب الاستقلال، كما قدم المترجم السوري أيضًا بكر صدقي بعض الترجمات مثل رواية “يحيى يحيا ولا يعيش” لعزيز نسين، و”الأيام الخمسة الأخيرة لرسول” لتحسين يوجال، وانقطع صدقي لسنوات عن الترجمة لانشغاله بالكتابة الصحافية، لكنه عاد هذا العام بترجمة جديدة لرواية “المتسكع” ليوسف أتيلجان.
وجود العرب في تركيا اليوم أنتج جيلًا جديدًا من المترجمين الشباب، ومن المتوقع أن تنشط حركة الترجمة من التركية إلى العربية في السنوات القادمة.
أما عن أسباب ضعف حركة الترجمة، فلعل أبرز هذه الأسباب هي الصورة النمطية عن الثقافة التركية، فلا يخفى على أحد أن أغلب المثقفين العرب يصفون القرون العثمانية التي عاشتها بلادنا بـ”الانحطاط”، ولا يختلف الأمر كذلك بالنسبة للمثقف التركي الذي يعتبر ارتباطهم بالعرب لقرون هو سبب “التأخر”، ويجب ألا ننسى أننا كعرب نعرف روايتنا نحن عن هذه المرحلة العثمانية، والحقيقة أن هذه الرواية تعرضت للتطرف من جانبين، سواء من الذين يرون أن العثمانيين سبب ما نحن فيه الآن من “تخلف” أم الذين يرون أننا وصلنا إلى ما نحن فيه الآن في بلادنا بسبب انفصالنا عن الدولة العثمانية.
وبلا شك، فإن حاجة القارئ العربي اليوم إلى الاطلاع على الأدب التركي بشكل أوسع ومعرفة الأحداث التاريخية المفصلية التي أثرت في حياة تركيا، أكثر من أي وقت مضى، وخصوصًا بعد أن تجاوز عدد العرب في تركيا الأربعة ملايين، وبالتأكيد، فإن وجود العرب في تركيا اليوم أنتج جيلًا جديدًا من المترجمين الشباب، ومن المتوقع أن تنشط حركة الترجمة من التركية إلى العربية في السنوات القادمة.
الروائي التركي صباح الدين علي
فعلى سبيل المثال، ترجم المترجم السعودي جهاد الأماسي روايتين للروائي صباح الدين علي وهما “مادونا صاحبة معطف الفرو” و”يوسف القويوجاكلي”، كما ترجم كاتب هذه السطور رواية “الشيطان الذي بداخلنا” للروائي نفسه وكتاب “ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت” لأورهان كمال، بمشاركة المترجمة التركية ملاك دينيز أوزدمير.
وأخيرًا، فإن واقع الترجمة من التركية إلى العربية من الصعب الإلمام به في مقالة واحدة، بطبيعة الحال، لكنها إطلالة سريعة على أبرز المحطات في طريق الترجمة من التركية إلى العربية وروادها، وربما تكون إشارة لمحاولة لفت انتباه المؤسسات المعنية بالترجمة إلى أهمية الأدب التركي وترجمته من لغته الأم، بدلًا من انتظار الترجمة عن طريق الوسيط الأوروبي للكاتب التركي الذي يرضى عنه الرجل الأبيض!