“بدأت أشعر بالغربة، ليس لأنني في وطن غير وطني ولكن لأن ملامحي بدأت تختفي، كنت في حاجة إلى مكان في مرسيليا يذكرني بالوطن، أحتاج إلى عمارات متسخة، وجوه متعبة، صناديق قمامة ممتلئة، شوارع قذرة، رجال شرطة مخيفين، سلطة تكذب كما نأكل الخبز، طوابير متشردين، بذاءة، حكومة مرتشية، برلمان سخيف، شوارع بلا مكتبات، مدن بلا قاعات سينما، بلا مسارح، رجال لا يحلمون، لا يعيشون، يبقون فقط على قيد الحياة. أحتاج إلى أي شيء يشبه الخدعة العظيمة التي أسمّيها وطن”.
بطريقة ساخرة وبأسلوب أقرب إلى الرمزية والفانتازيا كتب الروائي الجزائري سمير قسيمي نصًا مؤلمًا انتقد فيه الواقع السياسي والاجتماعي للجزائر بجرأة شديدة، فعلى مدار 167 صفحة نشاهد المجتمع الجزائري بأطيافه كافة داخل أحد الأحياء الشعبية، وعلى الرغم من حجم الرواية الصغير، فإنها تعد مادة دسمة من حيث تناولها لتاريخ الجزائر السياسي والاجتماعي.
“سلالم ترولار”.. ماذا لو اختفت جميع أبواب المدينة؟
على غرار المدن التي تستيقظ فجأة على غير المتوقع مثل المدينة التي أصيب سكانها بالعمى في رواية “العمى” والمدينة التي اختفى منها الموت في رواية “انقطاعات الموت” يستيقظ أبطال رواية “سلالم ترولار” في مدينة تختفي فيها فجأة جميع الأبواب بحيث ينمحي ذلك الخط الفاصل بين الخفي والظاهر، والحقيقة أن فكرة الرواية على بساطتها فهي فلسفية للغاية وخاصة إذا أُسقطت على واقع وطن يحترف إخفاء الأسرار، كيف إذًا ستعيش الأنظمة المستبدة التي تغذي مواطنيها على ثقافة الخوف دون وجود الأبواب؟
يصفع الكاتب قراء الرواية مرة أخرى حين نعلم أن شخصياته أو مواطني الدولة ليسوا جميعًا من الأشخاص، هناك الآلهة وأنصاف الآلهة وهناك المواطن بلا رأس الذي تحتل بطنه أكبر مساحة من جسده، ومن هذا المواطن الأخير يتألف معظم سكان الوطن، فهؤلاء مواطنون لا يستيقظون صباحًا إلا ليناموا في الليل معتقدين بأن تلك هي الحياة، هم مجرد كومبارس يؤدون مشاهد لا دور لهم فيها غير الوقوف بوجه تتعمد الكاميرا ألا تظهره أبدًا.
في الرواية التي تدور أحداثها بحي ترولار أحد أشهر الأحياء الشعبية في الجزائر تتوزع شخصيات العمل التي أبدع الكاتب في خلقها بحيث وبأسلوب ساخر للغاية وحّدها في صفات القبح، إذ لم تنج شخصية واحدة في العمل بأكلمه من القبح وكأنها طريقة المؤلف ليخبرنا بأنه لا جمال في وطن غارق بكليته في الحضيض، وهذا تحديدًا ما يشعر به القارئ طوال صفحات الرواية وهو يتعرف على جمال حميدي البواب القعيد الأحمق والقبيح، وعلى أولغا زوجته البدينة المريضة بالبرص والانتهازية والخائنة، وهناك أيضًا إبراهيم بافالولو المنافق والبخيل والجبان، وهناك الرجل الضئيل أيضًا الذي يصنع الأحداث السياسية في البلاد.
كيف تصرف سكان المدينة بعد اختفاء الأبواب؟
بعد أن أصابت الصدمة جميع سكان المدينة جراء اختفاء الأبواب لم يكن أمامهم إلا حل واحد وهو اللجوء إلى جمال حميدي عميد البوابين الذي وعلى الرغم من إصابته بالعجز والوهن والمرض الشديد، ظل متمسكًا بمنصبه بكل ما أوتي من قوة ذلك المنصب الذي كان يرى أنه اكتسبه على مدار جهد الكثير من السنوات التي بدأت بعمله بوابًا بسيطًا بوزارة الثقافة.
وجد جمال حميدي في حادثة اختفاء الأبواب فرصة سانحة لممارسة سلطته وهو في قمة العجز، ولكن حميدي كان يملك الدهاء والفطنة، إذ كان يعلم بخبرته الكبيرة في التلصص على الأبواب وفي قربه الدائم من دائرة صنع القرار السياسي أن المواطنين لا يحتاجون لإجابات بقدر حاجتهم إلى رجل يوهمهم أنه يملك تلك الإجابات، وعليه بدأ حميدي خطته في تسكين المواطنين وخرج برأي جعل الناس يلتفتون إلى مواصلة حياتهم.
والحقيقة أن الإشكالية لم تكن أبدًا في المواطنين فهؤلاء يسهل خداعهم خاصة أنهم مواطنون بلا رأس تحتل بطونهم أكبر مساحة من أجسادهم، أما الذين شعروا بالرعب حقًا فهم الآلهة وأنصاف الآلهة، هؤلاء الذين يعيشون في مرتبة أعلى ويراقبون المواطنين من فوق، إذ قرر هؤلاء أن يتركوا الوطن ويهربوا مع أموالهم ولكن لم يستطيعوا ذلك بسبب مشكلة الأبواب فكيف ستطير الطائرات دون أبواب، وكانت هناك مشكلة أخرى وهي خروج المساجين من محابسهم وسرقة أموالهم التي أودعوها في البنوك، ولكن هذه المشكلات تم تلافيها، فمشكلة المساجين وجدوا لها حلًا بأن وضعوا مكان أبوابهم دروعًا بشرية من المواطنين فكانوا يتلقوا رشاشات الرصاص من المجرمين عوضًا عنهم، والأموال أيضًا حلوا أمرها ففي النهاية الأموال التي يملكونها في مصارف الدولة لا تعد شيئًا بجانب أموالهم المهربة خارج البلاد، وبالتالي ظلت المشكلة الكبرى وهي اختفاء ذلك الخط الوهمي الذي يفصل عالمهم عن عالم المواطنين الأوغاد، ففي النهاية ظل يرعبهم بشدة أن يكونوا سواءً بسواء مع عامة الشعب ولهذا كان لا بد من التصرف بشكل فوري.
جمال حميدي رئيسًا للبلاد على كرسيه المتحرك
الرجل الضئيل في الرواية هو ذلك الشخص المسؤول عن الأحداث السعيدة والمؤلمة في الوطن، وقد أرتأى ذلك الرجل أن جمال حميدي هو الشخص الأنسب لرئاسة البلاد، وقال إنه اختاره لأنه صاحب عاهة ولأن المواطنين سيحبون رؤية أنفسهم في رئيس يشبههم في العاهة، ليس ضروريًا أن يكونوا مثله مقعدين ولكنهم سيرون دائمًا أنه صاحب عاهة وبالتالي سيشعرهم ذلك بأنهم أفضل ولا يجعلهم يحلمون يومًا بوضع أفضل إذ كيف سيحقق رئيسهم هذا الوضع؟
رغم أن العمل كُتب قبل حراك الجزائر، فإن قراءته خلال الحراك يجعلك تشعر وكأن الرواية تنبؤية.
كذا وبلا مجاملات يصدمنا الكاتب سمير قسيمي في نهاية الرواية ليخبرنا أن الواقع أحيانًا يكون غير منطقي، ليس هذا فحسب، فعلى مدار جميع صفحات الرواية يكسر قسيمي كل توقعات القراء، ففي البداية يمنح إحدى الشخصيات مساحة كبيرة فنتنبأ بأن يكون لها دور فيما بعد، ولكنه لا يلبث أن يمحوها تمامًا بجرة قلم واحدة لتظهر شخصية أخرى نتوقع لها مستقبلًا ثم لا ننفك فنجد قسيمي قرر قتلها بلا رحمة ودون أسباب مثلما فعل مع إبراهيم بافالولو الذي مات وهو يصعد سلالم ترولار.
ومن هنا تكتسب رواية “سلالم ترولار” لعنتها، إنها عمل غرائبي غير منطقي وكأن الكاتب استعان بالفانتازيا ليخبرنا بشكل غير مباشر أن الواقع السياسي الجزائري أكثر فنتازية، ورغم أن العمل كُتب قبل حراك الجزائر، فإن قراءته خلال الحراك يجعلك تشعر وكأن الرواية تنبؤية.
جدير بالذكر أن راوية “سلالم ترولار” وصلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” بدورتها لعام 2020 ولم تكن العمل الأول للكاتب الذي يصل للقائمة الطويلة للبوكر، حيث وصلت روايته الثانية “يوم رائع للموت” لقائمة البوكر الطويلة عام 2009.