ترجمة وتحرير: نون بوست
كان الانتهاء من محاكمة المملكة العربية السعودية السرية في خصوص مقتل جمال خاشقجي بمثابة إساءة كلية للعدالة، وهي المحاكمة التي قضت على محنة مضطربة ومزعجة. كان يمكن لأي مشاهد عادي أن يتوقع أن تتصرف المملكة السعودية كما كانت تتصرّف في الماضي، بعيدا عن أي مظهر للإجراءات القانونية أو سيادة القانون. إلى جانب أن المحاولات الرامية إلى تحويل حفنة من الأفراد إلى كباش فداء لهذه الجريمة الشنعاء لصرف الانتباه عن تورط قيادة المملكة، كانت متوقعة أيضا.
بيد أن المحاولة الشنيعة لدفن قضية القتل الأكثر شهرة في العقد الماضي في نهاية هذه السنة، تكاد تكون أكثر جرأة من الجريمة ذاتها، التي وقعت منتصف النهار على أرض أجنبية، خلال بعثة دبلوماسية. لم يكن التوقيت محض مصادفة. فقد اختتم السعوديون المحاكمة المغلقة في موسم الأعياد، وذلك عندما بلغت قدرات الحكومة ووسائل الإعلام أدنى مستوياتها السنوية. كما يتزامن هذا أيضاً مع تركيز وسائل الإعلام الأميركية على عزل الرئيس ومحاكمته في مجلس الشيوخ.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن وسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية الأساسية قد خففت من تغطيتها السعودية لاستيعاب التقارب بين قطر والسعودية على نطاق واسع. عموما، تعتبر كل هذه الأمور شروط أساسية قادرة على تسهيل المساعي السعودية لدفن قضية مقتل خاشقجي في سنة 2020. في الواقع، يكشف الحكم عن مدى الجرأة التي اكتسبها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. فقد حكمت السلطة القضائية الجزئية في المملكة تاريخياً على خمسة مسؤولين من ذوي الرتب المتدنية بالإعدام، في حين حكم على ثلاثة آخرين بالسجن لمدة 24 سنة.
والواقع أن المسؤولين الحقيقيين في السلطة الحاكمة ــ القنصل السعودي السابق العام في اسطنبول محمد العتيبي، والنائب السابق لرئيس الاستخبارات اللواء أحمد العسيري، وأقرب مستشار لمحمد بن سلمان سعود القحطاني ــ تم تبرئتهم جميعاً بسبب “عدم وجود الأدلة الكافية”. من ناحية أخرى، فصل الثلاثة من مناصبهم بسبب جريمة القتل وتسميتهم في تقرير المقرّر الخاص التابع للأمم المتحدة. كما عوقب العتيبي والقحطاني من قبل الولايات المتّحدة بعد أن وجدت الاستخبارات الأمريكيّة المركزيّة ووزارة الخزانة أنهما متورطان.
في الحقيقة، يعكس هذا الحكم أوهام الحصانة التي يتمتّع بها محمد بن سلمان الذي نجى من أسوأ موجة من الانتقادات في تاريخ المملكة الحديث. إنه لا يتمتع بالحصانة من أي مساءلة على جريمة القتل فحسب، بل إنه يحاول في الوقت الراهن أيضًا مد هذه الحصانة إلى زملائه. لا يمكن إخفاء حقيقة أن القحطاني هو منفّذ الجريمة الفعلي نيابة عن محمد بن سلمان. فبعد حوالي شهرين من ذهاب جمال إلى المنفى الذي فرضه على نفسه في أيلول/ سبتمبر 2017، كنت شاهدا على مكالمة بين جمال والقحطاني، وهي مكالمة طلب مني جمال تسجيلها. كانت مكالمة قصيرة، دامت دقيقة واحدة و 42 ثانية.
بدأ القحطاني الاتصال بتحديد صلاحياته، مشيرًا إلى أنه كان يتّصل نيابة عن محمد بن سلمان، الذي طلب منه أن يشكر جمال على تغريداته الداعمة للحكومة السعودية معلناً أنها سترفع الحظر المفروض على قيادة النساء. وأخبر القحطاني جمال أن الأمير تابع أعماله عن كثب وكان مسروراً برؤية تغريداته. ولقد سارع جمال إلى الرد قائلا: “الرجاء إرسال تحياتي إلى صاحب السمو وأخبره أنه واجبي فقط كمواطن أن أشيد بالإصلاحات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة”. كان من الممكن أن ينهي جمال المكالمة عند تلك النقطة بسهولة، ويستفيد من العلاقة التي بناها في ذلك الوقت مع أقوى رجل في المملكة ويطلب رفع حظر السفر على ابنه، لكنه لم يفعل. وتابع الحديث بينما اهتزت يده لا إراديا وارتجف صوته، “وعندما تكون هناك مخالفات، سننتقد”.
على الرغم من الخوف الكبير الذي كان يشعر به، فقد استغل جمال بقية المكالمة للدفاع بتفان عن إطلاق سراح السجناء السياسيين والمفكّرين والكتّاب والدعاة. ذكر أسمائهم بسرعة ودعا إلى إطلاق سراحهم. ولكن سرعان ما تحول صوت القحطاني إلى نبرة عدوانية، وقاطع جمال قائلًا: “هؤلاء خونة، ويشكّلون تهديدا للأمن القومي”. لكن جمال تحدّاه قائلا: “يمكنني أن أشهد على وطنيتهم وحبهم للبلاد”. وأنهى القحطاني المكالمة بشكل يبعث على الإحباط قائلا: “الأدلة” سيُكشف عنها في الوقت المناسب”.
عندما نسعى لتحقيق العدالة والمساءلة، فإننا لا نسعى للانتقام من مقتل جمال، بل نسعى إلى تأمين مستقبل فوري يمكن أن نعيش فيه دون خوف دائم
في هذا السياق، يفسر علم النفس الاجتماعي أن البقاء على قيد الحياة في ظل تهديد قاتل وشيك من شأنه أن يزيد من الرغبة في المخاطرة لدى الناجين والشعور بالحصانة. وهذا يعني أن جرأة محمد بن سلمان والقحطاني وشركائهم التي شجعتها آثار التجاوزات من الأعمال الوحشية التي لا يمكن تخطيها، سوف تستمر في تخطّي الحدود والإفلات من العقاب. من جهته، نشر القحطاني قصيدة عودة طويلة يحتفل من خلالها “بالنصر الموعود”. وقد قام بحشد حملة على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يمدح نفسه ويشيد بسماته المتملقة على شاشات التلفزيون الوطني احتفالا ببراءته.
عموما، لم يقتل جمال من فراغ. لقد كان ذلك مظهرًا بشعا لجميع الجرائم التي ارتُكبت بحق سكان المنطقة العربية منذ الربيع العربي والافتقار المطلق إلى المساءلة. في الوقت الحاضر، في ظل هذه الجريمة الفاضحة التي تبعها الإفلات المذهل من العقاب، فإنها تطرح السؤال التالي: ما هي الخطوات التي ينبغي للمنشقين أن يتوقعوها من ولي العهد وأتباعه؟
لا يتعلق الأمر بالعدالة التي يستحقها جمال، أو حتى كشف الحقيقة لأصدقائه وعائلته. يتعلق الأمر أيضًا بالردع، حتى لا يُقتل ناقد آخر في هايد بارك بلندن، أو يُختطف من إحدى ضواحي تورنتو أو يُعتدى عليه في أحد الحانات في العاصمة. عندما نسعى لتحقيق العدالة والمساءلة، فإننا لا نسعى للانتقام من مقتل جمال، وإنما نحن نسعى إلى تأمين مستقبل فوري يمكن أن نعيش فيه دون خوف دائم من الاغتيال والتقطيع. وإذا أغلقنا الكتاب على قضية مقتل خاشقجي دون مساءلة مناسبة، فلن تكون هذه مفارقة، وإنما ستكون معيارًا جديدًا.
المصدر: واشنطن بوست