فات نزار قباني حين تساءل: هل في العيون التونسية شاطئ ترتاح فوق رماله الأعصاب؟ أنّ رمال صحراء بلد الخضراء وواحاتها تجمع بين العظمة والامتداد والصمت والنعومة، فهي هادئة حينًا وغاضبة أحيانًا أخرى، هي صفراء بالنهار وردية عند بزوغ الفجر تسر الناظرين وتأخذهم في رحلة “صوفية” لاكتشاف جوهرهم والمكان.
تمتد الصحراء التونسية على مساحة 40 ألف كيلومتر مربع من الرمال وتُمثّل 42.7% من المساحة الإجمالية للبلاد، وهي جزء من العرق الشرقي الكبير (الصحراء الكبرى) يضم حقولًا من الكثبان الرملية التي نحتت فيها الرياح أبهى الصور الطبيعية وهي بيئة مناسبة لرحلات السفاري وممارسة الأنشطة الترفيهية.
وتتميز الصحراء بتنوع خصائصها من “الجفارة” أو المنبسطات الساحلية وسلسلة جبال مطماطة والظاهر الذي يقع وراء الجبال إلى الواحات مثل نفزاوة وشط الجريد.
مطماطة
تقع مدينة مطماطة في الجنوب الشرقي لتونس تحديدًا غرب مدينة قابس، وهي قرية بربرية قديمة مشدودة إلى التلال تتماهى مع المشاهد الطبيعية الصخرية، وتخفي أحد أكثر المواقع غرابة في تونس.
وبحسب روايات السكان المحليين، فإنّ مطماطة أو (أَثْوَبْ) ومعناه أرض السعادة، هو اسم قبيلة بربرية قديمة لم تستطع مقاومة زحف مقاتلي قبيلة “بني هلال”، فهاجر أهلها إلى هذه المنطقة وحفروا بيوتهم في باطنها خوفًا من الوافدين الجدد وخشيةً من عدم التأقلم معهم.
وللمدينة قصص أخرى غير التاريخ القديم الذي تغلب عليه الخرافة المتوارثة عبر الأجيال، حيث كانت ملجأ للسكان من قصف الحلفاء على النازيين بمحافظة قابس خلال الحرب العالمية الثانية، وأصبحت في أيامنا هذه مزارًا للسياح الذين يستهويهم التراث والمعمار القديم.
البيوت في هذه القرية موجودة في حفر غائرة تحت الأرض على شكل كهوف، وكل حفرة (الحوش) تتخذ شكلًا دائريًا ويتكوّن من ساحة رئيسية تزينها الرسوم والألوان وتتفرع منها حفر أخرى تشكّل غرف المنزل المبني بالطين الأملس، وتفصل فيما بينها ممرات تُسمى بـ”السقيفة”، وهو معمار يقي ساكنيه من شدة الحر في فصل الصيف ومن الرياح في فصل الشتاء، وكل بيت من البيوت المنتشرة في تلك الرقعة يحتوي لزامًا على غرفة المؤونة (بيت المونة) لتخزين الحبوب من قمح وشعير لإعداد الخبز (الكسرة)، إضافة إلى زيت الزيتون.
فإن كنت من هواة التاريخ واستكشاف الحضارات، يُنصح بزيارة هذه القرية الجميلة التي يقصدها السائحون من أنحاء العالم كافة في جولات يومية لاكتشاف الحياة تحت الأرض والتعرف على عادات وتقاليد سكانها.
وغير بعيد عن مطماطة القديمة، فإن زراوة البربرية أو (أشراوة) بلغة سكانها الأصليين، هي الأخرى تُمثل أحد كنوز تونس السياحية، لما تحتويه من تاريخ وحضارة ومعمار فريد من نوعه، وتنتشر في القرية الرابضة في جبال مطماطة، مساكن ذات طوابق بُنيت جدرانها من الصخور والحجارة، واستعملت أخشاب النخيل كأسقف ما جعلها تصمد إلى اليوم.
تُعرف زراوة إلى جانب القرى الأمازيغية الأخرى كـ”تاوجوت” و”تامزرط”، بمحافظة سكانها على التقاليد والعادات، حيث تشتهر النساء بالوشم على الوجه كزينة أو “تِكاز” وبلباس “الملية”، أمّا الرجال فيرتدون البرنس أو القشابية.
دوز
تقع دوز في الجنوب الغربي من تونس وتتبع إداريًا محافظة قبلي، وتتميز المدينة بمناخها الصحراوي حيث تعد آخر نقطة عمرانية من الجهة الجنوبية الغربية، تبعد عن مدينة وادي سوف الجزائرية بنحو 250 كيلومترًا وتحدها غربًا مدينة توزر من الجنوب الشرقي، وكانت تُعرف باسم المرازيق نسبة لقبيلة المرازيق العربية.
اشتهرت المدينة الصحراوية بمهرجانها الدولي السنوي الذي تُعرض فيه تقاليد أهل المنطقة من رقص وغناء وإعداد أجمل الأطعمة البدوية ومباريات ركوب الخيل والجمال (النوق) وتُسمى في المشرق العربي بالهجن، كما تُعرف المدينة بتشبثها بالتراث العربي الإسلامي وتُسمى أيضًا بمدينة الشعراء.
يمكنك تجربة العديد من الأمور الرائعة التي قد تمثل لك مغامرة جديدة تضيفها لأيام عمرك السعيدة كركوب الجمال في الصحراء وتناول الغداء في خيمة بدوية.
وفي واحات قبلي وعلى مشارف مدينة دوز لا بد لك من استراحة للاستمتاع بسحر المكان وتذوق التمور في غابات النخيل المترامية، أمّا قرى صبرية والفوار والنويل المغمورة تحت الرمال بواحاتها الصغيرة فتبدو تائهة في المكان بين رمال ذهبية وبياض الملح الذي يشع بريقه المتوهج من شط الجريد.
شط الجريد
هو شط يقع في الصحراء وتحديدًا في منطقة الجريد التونسي التي كانت تُسمى في العصور الإسلامية الأولى بـ”قسطيلية”، ويمتد من مدينة قبلي شرقًا إلى مدينة حزوة غربًا، تتفجر مياهه شتاءً وفي الصيف تكسوه طبقة من الملح ومع أشعة الشمس يظهر بألوان متعددة وزاهية.
تحدث عنه الرحالة العرب والمؤرخون فأسموها سبخة “تاكمرت” وقالوا: “لا يسلكها أحد جاهل بها إلا غاص فيها”، أما الجغرافيون فاعتبروها من عجائب الدنيا وقد وصفه بعضهم بـ”المعدن المنصهر والرخام المصقول”، فيما ذهب هيرودوت إلى أن الشط أو بحيرة “تريتونيس” كانت مرتبطة بالبحر الأبيض المتوسط.
قصر غيلان
تعتبر منطقة قصر غيلان الصحراوية المتربعة بين الكثبان الرملية على بعد 150 كيلومترًا جنوبي مدينة دوز، من أجمل الوجهات السياحية بولاية قبلي، حيث تجمع بين امتداد الرمال الصفراء الذهبية وخضرة الواحات، كما تضم عينًا من المياه الحارة تساعد على الاستشفاء من بعض الأمراض، وتأوي المنطقة عددًا من المخيمات السياحية المبنية بطابع خاص وجذاب تستقطب بجمالها آلاف السياح خاصة من محبي رياضات التحدي والرياضات الميكانيكية أو المولعين بزيارة المناطق الأثرية والتخييم.
وتبقى أفضل طريقة لاستكشاف المنطقة هي سيارات الدفع الرباعي أو الجمال، ولكن حتى في حالة الخيارات الرومانسية، يمكن للزائرين الإقامة لليلة واحدة في خيمة تقليدية.
توزر
تقع توزر (مدينة وواحة صحراوية) في الجنوب الغربي لتونس، ويبلغ عدد سكانها نحو 40 ألف نسمة، وهي مركز بلاد الجريد، وتقع في الشمال الغربي لشط الجريد وجنوبي شط الغرسة، ويمكن الوصول إلى المدينة بسهولة عبر مطار توزر نفطة الدولي، أو عن طريق البر أو السكك الحديدية.
وتتمتع المدينة بطقس جاف وحار في فصل الصيف، أمّا في فصل الشتاء وباقي فصول السنة فيكون معتدلًا، لذا يُنصح عادة السائح بزيارتها شتاءً للابتعاد عن حرارة الجو المرتفعة وحيث تكون الأجواء لطيفة ومناسبة للتنزه.
ولكل من يبحث عن السكينة والراحة النفسية، فإن مياه توزر وعيونها العذبة التي تمر تحت الكثبان الرملية وخلال الصخور المنحوتة لتشكّل جداول وشلالات رائعة تستحق المشاهدة والتقاط الصور التذكارية، هي المكان الأنسب لصفاء الذهن والروح.
ويمكنك زيارة واحة الشبيكة التي تقع في سفح الجبل على مجرى مائي وهي من المناطق التي تقحم بآثارها في مجاهل التاريخ الروماني، فيما تُعد واحة تمغزة وهو حوض تحيط به الجبال من كل ناحية ينحدر من إحداها مجرى مائي مكونًا شلالات، فرصة للاستحمام والانتعاش، وكذلك واحة ميداس الرومانية.
وإذا كنت من عشاق الرفاهية فإن المنتجع الفاخر الجديد التابع للديار القطرية أنانتارا السياحي، الذي يقبع بين واحة النخيل الغناء، سيلبي رغبتك ويوفر لك ما ترنو إليه.
نفطة
تسمى نفطة بالكوفة الصغرى نظرًا إلى تاريخها العريق ومكانتها العلمية واحتضانها لهجرات متلاحقة من القبائل العربية التي جاءت من المشرق العربي إلى جانب سكانها البربر الذين سكنوا تلك المناطق قبل الفتح الإسلامي، وتتميز نفطة بطابعها المعماري المتميز من مبانٍ مشيدة بالطوب الطيني المحروق وأبواب مصنعة بحرفية عالية، وبسعف النخيل الذي يُزيّن مداخل البيوت.
وفي نفطة أيضًا وتحديدًا في منطقة عنق الجمل التي تعد أحد أهم المواقع التي يزورها السائح الأجنبي والتونسي في أثناء رحلته إلى الجنوب الغربي وتتميز بوجودها في عمق الصحراء وسط الكثبان الرملية، إطلاق العنان لخيالك ليُعانق الفضاء، أو أن تُمارس شغفك إلى الحد الأقصى.
تُتيح لك الزيارة فرصة لممارسة الأنشطة الصحراوية مثل الطيران الشراعي وركوب الدراجات الرباعية والتزلج على الكثبان الرملية والعربات الشراعية.
تطاوين
تُعد المحافظة الواقعة بالجنوب التونسي من أهم الأقطاب السياحية لثراء مخزونها الأثري والتراثي والتنوع البيئي والإيكولوجي الذي تضمه، وتتميز تطاوين بتجانس سكانها البربر الأمازيغ والعرب، إضافة إلى تاريخ نضالها ضد المستعمر الفرنسي وحمايتها للثوار “الفلاقة”.
العيون كما يُسميها البربر تضم عيونًا ومياهًا جوفية ومغارات يعود تاريخها إلى العصر القرطاجني والروماني، وللأخير فيها آثار وشواهد إلى الآن أهمها الحصون الدفاعية مثل حصن تلات رمادة والفطناسية.
ويُمكن ممارسة الأنشطة الصحراوية كالتخييم والسير في كل من رمادة وذهيبة والتعرف على نمط عيش السكان المحليين، فيما تُعد مناطق البئر الأحمر وتطاوين الشمالية والجنوبية وغمراسن والصمار المكان الأفضل لهواة المغامرة والسياحة الجبلية.
جربة
هي أكبر جزيرة في شمال إفريقيا، وتقع قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لتونس، يُسميها التونسيون بجزيرة الأحلام لما تتمتع به هذه الوجهة السياحية الرائعة من شواطئ رملية بيضاء ومياه صافية بلورية.
تضم المدينة معالم تراثية قيمة وفريدة، بالإضافة إلى طراز معمار مبانيها الرائع ومساجدها تحت الأرض التي رغم بساطتها (الزخرفة أو الرخام)، تمتلك قيمة فنية بألوانها البيضاء وصوامعها الملتصقة بالمباني المجاورة، وتعود أغلب المساجد في الجزيرة إلى القرن الـ14، وبالإضافة إلى دورها الديني عززت الجوامع بتحصيناتها النظام الدفاعي الذي كان يطبّق لحراسة جربة.
وإذا كنت تبحث عن أماكن الجذب بعيدًا عن الشاطئ، فعليك التوجه إلى متحف حومة السوق أو قم بزيارة قرية قلالة المجاورة، حيث يُصنع الفخار منذ العصور الرومانية القديمة.
الصحراء والسينما
للصحراء التونسية ومخزونها الطبيعي والتاريخي الذي خبأ لسنوات طوال خصوصيات حضارية ومعمارية متميزة، علاقة خاصة مع السينما العالمية، حيث ألهمت رمالها الذهبية كبار المخرجين لتصوير أفلامهم بين أحضانها، ومن أشهرها فيلم “حرب النجوم” للمخرج الأمريكي جورج لوكاس الحائز على جوائز عديدة الذي صُوّر في منطقة عنق الجمل بنفطة.
وصُور الفيلم البولوني “الصحراء الموحشة” من إنتاج مارك قراف ديزيري وإخراج ديتكويز ماسيج، في قصر أولاد سلطان ورأس الوادي وسهل بني غدير واختارهم ديكورًا رائعًا لتصوير فيلم.
كما كانت الصحراء التونسية مسرحًا لتصوير فيلمي “مسيح الناصرة” للمخرج الإيطالي فرانكو زافراللي، و”المريض الإنجليزي” للمخرج أنتوني مانجيل الذي حصل على مجموعة من جوائز الأوسكار، حيث فتحت تضاريس الجنوب أسرارها لتصوير نحو 80% من مشاهده.
وفي الواحات الدوز الصحراوية صوّر المخرج الإيطالي روبرتو بينيني شريط “النمر والثلج” وفيلم “مدينة الظلال” للمخرج الكندي كيم نغيبان، وفيلم “ممكن” من بطولة النجم جون بول بولمندو.
يُقال والعهدة على الراوي، إنه إذا حل ركبك بالصحراء التونسية يومًا فلن يخيب مسعاك ولن تمل أبدًا، نهارك مليء بالمفاجآت وليلك مضاء بمصابيح نجوم، تدفعك الرمال لاإراديًا لخوض مغامرة مثيرة لسبر أسرار الأفق الشاسع واكتشاف خباياه، وتمنحك سكينتها خلوة تُحقّق بها السلام الداخلي والتوازن النفسي.