قبل أشهر، لم يكن سهلًا على يوسف الشاهد، رئيس الحكومة التونسية والمرشح للانتخابات الرئاسية آنذاك، إعلان تخليه عن الجنسية الفرنسية، من أجل الاستعداد لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية منتصف شهر سبتمبر الماضي، التي فشل فيها أمام الرئيس الحاليّ قيس سعيد، وكان لواقعة ازدواج الجنسية أثر سيئ في النفوس، وبعد انتهاء المارثون لم تمر مرور الكرام، بعدما كشفت الغطاء عن واحدة من الأزمات الراهنة التي اقترنت بثورات الربيع العربي.
الظاهرة.. أين تنمو ومراكز انتشارها؟
تدور سجالات حادة بين المثقفين والسياسين العرب، وحتى الشارع العادي، عن ظاهرة المرشحين مزدوجي الجنسية، خاصة أنها تكتشف بالصدفة البحتة ولا يتحلى الساسة بالشفافية لإعلان ذلك، إلا لو كانت لهم مصلحة أكبر من المصلحة التي تترتب على إخفائها.
يمكن الاستدلال بإعلان الشاهد جنسيته الفرنسية وهو بهذا الموقع الحساس، حيث كانت مفاجأة للكثيريين الذين لم يعرفوا طوال 3 سنوات، تولى فيها منصب رئاسة الحكومة، أنه يحمل جنسية أخرى، ولم يقدم على كشفها إلا لاستكمال الإجراءات الصحيحة للترشح للرئاسيات.
لم يكن الشاهد المسؤول الرفيع الأول في السلطة الذي يحمل جنسية أخرى، بل سبقه رئيس الحكومة السابق المهدي جمعة الذي كان يحمل أيضًا الجنسية الفرنسية، فضلًا عن الكثير من الشخصيات السياسية التي تقلدت مناصب وزارية في الحكومة وحملت جنسية ثانية ومنهم وزير الصحة الأسبق سعيد العايدي.
لا يقف الأمر على تونس وحدها، بل طالت الظاهرة جميع البلدان التي تشهد توترات سياسية وطائفية، حيث كان لافتًا إعلان الرئيس العراقي برهم صالح تخليه عن جنسيته البريطانية التي حصل عليها إبان معارضته لنظام صدام حسين، حتى يتفق ترشحه مع بنود الدستور العراقي الذي يحظر ازدواج الجنسية للمكلفين بمهام سيادية.
وكما حدث مع الشاهد، كان لإعلان الجنسية الثانية لصالح، ردود فعل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحف ووكالات الأنباء العالمية والمحلية، لاسيما أن برهم أول رئيس جمهورية عراقي يتخلى عن جنسيته الأجنبية إعمالًا لدستور البلاد منذ العام 2003.
برهم ليس وحده الذي لديه جنسية أخرى، بل أيضًا رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي الذي يحمل الجنسية الفرنسية، والعشرات من المسؤولين والسياسيين يحملون جنسيات إيرانية وبريطانية وأمريكية وكندية وأسترالية ومنهم من شغل مناصب قيادية مثل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وهوشيار زيباري وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء الأسبق وإياد علاوي نائب رئيس الجمهورية الأسبق ووزير الخارجية السابق أيضًا إبراهيم الجعفري، وجميعهم يحملون الجنسية البريطانية.
لحق الأردن بتونس والعراق في 2016، ولكن بطريقة أخرى، حيث بدأ رسميًا دخول نادي المسؤولين مزدوجي الجنسية، بتعديلات رسمية وشرعية أقرتها حكومة عبد الله النسور على المادة الـ42 من الدستور، لمنحهم الحق في تولى مناصب الوزراء والنواب والأعيان والوظائف العليا والقيادية.
وهي تعديلات مفاجئة ساهمت في تقسيم الشارع الأردني والنخبة السياسية، وأصبح هناك من يراها خطوة في الاتجاه الصحيح للاستفادة من كوادر البلاد في الخارج، فضلًا عن أن منع هذه الفئة من تولي مناصب عليا يحرم الأردن من كفاءات سياسية واقتصادية كبيرة هو في أمسّ الحاجة إليها.
وفي المقابل كانت هناك اعتراضات شديدة من بعض القوى السياسية الذين اعتبروا إباحة ازدواجية الجنسية، ردة على مسار الإصلاح السياسي الذي بدأ عام 2011، عقب مظاهرات شعبية ضخمة، تزامنًا مع رياح التغيير التي طالت معظم البلدان العربية، وجعلوا منها إهانة بالغة لبلد كبير، لا يمكن أن يكون مقتصرًا في تطلعه للتقدم والرخاء، على الذين فضلوا حماية ومكتسبات بلد آخر، على بلدهم الأم.
في لبنان لم يكن الوضع بعيدًا، إذ فتحت الاستقالة الأولى لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وهو خارج البلاد ملف تجنيس المسؤولين، حيث يحمل سعد ابن رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، الجنسية السعودية، التي ولد فيها، خلال رحلة عمل والده هناك، ومن خلالها اكتسب هو والعائلة الجنسية السعودية عام 1978 بعد أن هاجروا إليها نهاية ستينيات القرن العشرين، كما يحمل الحريري الابن أيضًا الجنسية الفرنسية.
ليبيا أيضًا التي عاد إليها الكثير من معارضي القذافي بعد إعلان مقتله، وتقلدوا مناصب سيادية مهمة عدة، يحمل أغلبهم جنسيات أجنبية اكتسبوها في أثناء إقامتهم بدول المهجر، ومع الصراع السياسي المستمر منذ نحو 7 سنوات، بدأت تطفو على السطح أزمة ازدواجية الجنسية.
وتسبب فشل هؤلاء الساسة في الوصول إلى حلول نهائية للصراع الليبي، في اختراع طريقة درامية للتخلص منهم، عبر الحشد بصفحات التواصل الاجتماعي والمطالبة بإبعاد مزدوجي الجنسية من الترشح للانتخابات وتولي المناصب العامة، وكانت عبارة “دبل شفرة” كلمة السر للإشارة إلى المسؤول مزدوج الجنسية، ومن ثم تصبح الجملة أولى لبنات التشكيك فيه وشن حملة ضده لإجباره على العودة من جديد إلى بلاد المهجر.
أما مصر، فتحظر فعليًا على المسؤولين ازدواج الجنسية، ورغم ذلك تفاجأ المصريون في الأيام الأولى لثورة 25 يناير، بهروب العديد من كبار المسؤولين بجوازات سفرهم الأجنبية، واحتلت حكايات هروبهم الصفحات الأولى لكبرى الصحف العالمية، ورغم مساعدة بعض البنوك الدولية الثورة المصرية في محاولة استرداد أرصدة وحسابات المسؤولين الهاربين، فإنهم استخدموا هذه الجوازات، للهروب من المساءلة ونجحوا في ذلك بمهارة فائقة، ربما لو استخدموها في إدارة البلاد، لساهموا في رفعتها وتقدمها.
الرأي الدولي في الجنسية الأخرى؟
هناك رأي عام شبه مستقر دوليًا، أن الحقوق المتبادلة بين الفرد والدولة مكفولة، متى ساهم الأول في إثراء الحياة السياسية، عبر ممارسة حقوقه وحرياته الأساسية، ويستقر أيضًا في قوانين أغلب بلدان العالم، أن متعدد الجنسية يجب أن يتمتع ببعض حقوقه السياسية، ولكن حق مثل الترشح لتولي الوظائف العامة والمناصب السيادية، يثير دائمًا إشكالات عدة بالمقارنة مع المواطن منفرد الجنسية.
وبحسب أبحاث عدة تناولت ظاهرة تعدد الجنسية، هناك شبه قناعة لدى أغلب الدول أن تولي متعدد الجنسية منصبًا سياديًا من شأنه التأثير على سيادة الدولة وأمنها، لخطورة المهام التي يمارسها شاغل هذا المنصب وما يتولد عنها من قرارات مصيرية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمصالح الدولة العليا.
وأكثر ما يخيف بلدان العالم من متعدد الجنسية، إضراره المحتمل بأمن الدولة ومصالحها العليا، متحصنًا بوطنيته الأخرى التي قد تحميه من العقاب، على ارتكابه إحدى جرائم الغدر والخيانة، وتحكي وقائع التاريخ قصة المجري Tribich، الذي حصل على الجنسية البريطانية، وغير اسمه إلى Lincoln، وبعد تمتعه بكل امتيازات الجنسية، رشح نفسه لانتخابات مجلس العموم البريطاني وفاز عن الحزب الليبرالي وأصبح عضوًا في مجلس العموم.
بعد فترة ليس بالقصيرة، تمكن المجري من التجسس لصالح ألمانيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى، ولم يستطع أحد كشف أعماله لنجاحه في ممارسة عمله على أكمل وجه.
ويمكن القول إن توجهات الأنظمة السياسية في العالم، والأيدولوجيات والقناعات التي تحكمها، تفصل في نظرتها للقضية، فالدول الليبرالية على سبيل المثال، تعتبر الحق في اختيار الجنسية يندرج تحت قيم الحريات والحقوق، وتقف الدولة منها موقف الحياد، بما لا يخل في الوقت نفسه بامتيازات المواطنة وحقوقها، خاصةً في أوقات الأزمات الحساسة والمصيرية مثل الحروب.
بينما تفضل الدول الشمولية والشيوعية والملكيات الخليجية، عدم السماح بازدواج الجنسية وخاصة للمسؤوليين، فهذه الاحتياطات الأمنية أكثر حكمة من وجهة نظرهم، لذلك ترفض التنظيرات الليبرالية في القضية وتتصالح في الوقت نفسه مع تعقيدات المسألة، وتعترف أنها قد تنال من حقوق وامتيازات وواجبات المواطنة، ولكنها في سبيل ذلك، تعمل لصالح مهمة وطنية أخرى، تتلخص في احتكار الولاء للبلاد، بصورة أكثر كفاءةً وفاعليةً.