تفنن الإنسان في تطوير الأسلحة والأدوات الدفاعية التي استعان بها في غالبية الحروب التي خاضها عبر الأزمان، لكن رغم خطورتها وقوتها التدميرية، اعتقد البعض أن الإنسان لم يصنع بعد السلاح الأكثر فتكًا، وذلك حتى ظهرت “الأسلحة البيولوجية” التي عرفها العالم في القرن الماضي، كما يُعتقد في الغالب، لكن الحقيقة أن الفكرة مستوحاة منذ عدة قرون مضت.
فقد أدركت بعض الحضارات منذ القدم أن بعض الأمراض المعدية يمكنها أن تكون أكثر فتكًا بالأعداء من السيوف والرماح والمدافع، وسبقت هذه المعرفة اكتشاف الفيروس والبكتيريا، ولكن هذه الكائنات والأمراض التي تسببها ليست المجال الوحيد للحرب البيولوجية، إذ شملت أيضًا حیوانات خطرة، مثل الأفاعي والعقارب والحشرات الناقلة للمرض كالبراغيث.
حرب الجراثيم
تُسمى بالإنجليزية Biological Warfare، وفي أحيان أخرى يُطلق عليها اسم “حرب الجراثيم “، ويُقصد بها الاستخدام المتعمد لجميع العوامل المُسببة للأمراض والأوبئة المختلفة التي تحتوي على البكتيريا والفطريات والفيروسات، وغيرها من الكائنات الحية، إضافة إلى جميع السموم المُنتجة بواسطة هذه الكائنات أو المستخلصة من النباتات والحيوانات.
واليوم يندرج هذا النوع من الحروب تحت تصنيف أسلحة الدمار الشامل، وتكمن خطورتها في أنه لا توجد وسائل سهلة للحماية من آثار هجماتها المميتة، وذلك نظرًا لأن الجهة المُصدرة لهذه الأسلحة، تنتج سبل مقاومة هذه الأوبئة ومسبباتها أيضًا، كما أنه لا يقتصر استخدامها على أوقات الحرب العسكرية المعلنة فقط.
تاريخ الحرب البيولوجية
أحد أقدم السجلات لاستخدام الحرب البيولوجية كانت عام 400-500 ق. م، عندما أقدم سولون، وهو شاعر ورجل قانون أثيني، على تلويث المياه الواصلة إلى مدينة كيراه القديمة بنبات الزين “الخربق” السام.
كما يقول المؤرخون أن رماة جيش السكيثيون عام 400 ق. م، وهم شعب بدوي متنقل ينحدر من أصول إيرانية من مملكة سيثيا (سكيثيا)، كانوا يلوثون سهامهم عن طريق غمسها في جثث متحللة أو في دم مخلوط بالسماد، وكذلك في القرن السادس قبل الميلاد سمم الأشوريون آبار الماء التي يستقي منها أعداؤهم مستخدمين فطرًا سامًا (مهمان الجودر) يصيب من يتناوله بالهلوسة ويستخرج حاليًّا من هذا الفطر العقار المخدر “إل إس دي”.
استشهد الأدب الفارسي واليوناني والروماني من عام 300 ق. م بأمثلة للحيوانات الميتة التي اسُتخدمت لتلويث الآبار ومصادر المياه الأخرى، أما في معركة يوريمدون عام 190 ق. م، فقد فاز هنيبال بنصر بحري على الملك أوومنيس الثاني من بيرغامون بإطلاقه سفنًا فخارية مليئة بالثعابين السامة في سفن العدو.
القرون الوسطى
كانت الأسلحة البيولوجية ضمن الأدوات المهمة التي استخدمتها الجيوش في هذه الفترة التي شهدت الكثير من الحروب، ففي خلال معركة تورتونا في القرن الثاني عشر الميلادي، استخدم بارباروسا جثث الجنود القتلى والمتحللين لتسميم الآبار.
عندما غزا جنكيز خان أوروبا في القرن الـ13، قال إنه أطلق العنان عن غير قصد لسلاح بيولوجي مخيف وهو طاعون الماشية أو الطاعون البقري، إذ يؤثر هذا الفيروس على الماشية والماعز والثيران والزرافات، وهو من الأمراض المُعدية للغاية، حيث يسبب الحمى وفقدان الشهية والتهاب الأغشية المخاطية، ويستمر من 6 إلى 10 أيام حتى يستسلم الحيوان في النهاية إلى الجفاف ثم الموت.
وكذلك الحال خلال حصار التتار لمدينة كافا في شبه جزيرة القرم في القرن الرابع عشر الميلادي، حيث ألقوا جثثًا مصابة بالطاعون على المدينة في محاولة لإحداث وباء داخل قوات العدو، فاستسلم سكان المدينة وكانت النتيجة أن انتشر الطاعون في أوروبا وقتل ملايين الناس.
كما استخدمت في الإبادة ضمن الأسلحة التي استخدمت في القارة الأمريكي أواخر القرن الخامس عشر، عندما حاول المستكشفون الإسبان احتلال أمريکا الجنوبية، فقدم القائد الإسباني بزارو للهنود الحمر ملابس ملوثة بفيروس الجدري.
عصر النهضة
تكرر استخدام نفس تلك الأسلحة في حوادث مشابهة في هذا العصر، ففي عام 1710، حاصر الروس القوات السويدية في ريفال بإستونيا، وأرسلوا جثث أشخاص كانوا مصابين بمرض الطاعون، كما أرسلت القوات البريطانية عام 1763 خلال الحرب الفرنسية والهندية، عدوى مرض الجدري إلى رؤساء القبائل الهندية مما أدى إلى قتل معظم السكان الأصليين بسبب انتشار الوباء، حدث ذلك عندما أرسل قائد القوات البريطانية بطانيتين ومنديل ملوثين بالجدري إلى رؤساء هذه القبائل كهدية، حيث إن الجدري من الأمراض الفيروسية، شديدة العدوى في الهواء، ولديه القدرة على الإصابة لفترات طويلة بسبب تميزه بدرجة عالية من الاستقرار البيئي.
وفي هذا الخصوص، يذكر شلدون واتس أستاذ التاريخ الثقافي والاجتماعي الأمريكي في كتاب صدر عام 1998، عن جامعة بالا بالولايات المتحدة، أن الجنرال سير جيفري أمهرست، قائد الجيش البريطاني في أمريكا الشمالية، أمر عام 1763م بقرار استخدام السلاح البيولوجي ضد من تبقى من الهنود الحمر للتعجيل بفنائهم.
وبعد هذا الوباء الكاسح، انقسمت هذه القبائل الأصلية وتبعثر النظام الإداري لها وصارت معتمدة على المنح التي يفيض بها عليها الرجل الأبيض، كما اجتاح وباء آخر المناطق الغربية حتى المحيط الهادي بين عامي 1817 و1840، وقتل على إثره ما يزيد على 40 ألفًا في مناطق فيكتوريا وفانكوفر، وامتد إلى ألاسكا وقتل 60% من الأهالي الأمريكيين الأصليين ولم تبذل السلطات الموجودة آنذاك أي محاولة جادة لحصر انتشار الوباء.
ثم، هلك الكثيرون ممن تبقى من الهنود الحمر بين عامي 1890 و1910، ويوثق الكتاب العديد من الحالات التي استخدم فيها الرجل الأبيض الحرب البيولوجية والجرثومية، لأجل القضاء على مقاومة أهالي المناطق التي حاول السيطرة عليها، ويؤكد الباحث أن سيطرة الرجل الأبيض على أمريكا ما كانت تتم لولا استخدام هذا السلاح، بل ويربط بين الظاهرة الاستعمارية وانتشار الأوبئة في آسيا وإفريقيا.
وفي تلك الفترة أيضًا، استُخدمت الأسلحة البيولوجية وانتشرت الأوبئة في الحروب الأهلية الأمريكية عام 1863، فقد صدرت ادعاءات خلال الحرب الأهلية الأمريكية من الجانبين، ولكن بشكل خاص ضد الجيش الكونفدرالي، بمحاولة استخدام الجدري لإحداث المرض بين قوات العدو.
الحرب البيولوجية المعاصرة
تطورت أساليب الحرب البيولوجية في السنوات الماضية بشكل كبير وأكثر خطورة مما كانت عليه، فقد تطورت بشكل علمي ومكثف لتظهر أمراض وأوبئة جديدة وفتاكة تحصد أرواح ملايين البشر، خلال فترة الحرب العالمية الأولى.
يقول المؤرخون إن الجيش الألماني طور الجمرة الخبيثة والغدد والكوليرا وفطريات القمح، على وجه التحديد، لاستخدامها كأسلحة بيولوجية، وزعموا أنهم نشروا الطاعون في سانت بطرسبرغ بروسيا وأصابوا البغال بالتهاب في بلاد ما بين النهرين، وحاولوا أن يفعلوا الشيء نفسه مع خيول الفرسان الفرنسيين.
كما وجه الاتهام لألمانيا بأنها أرسلت إلى الولايات المتحدة قطعان ماشية مصابة بمرض الحمى القلاعية، وحاولت نشر الكوليرا في إيطاليا، ورغم أنه لم يتم إثبات هذه التهم، فإنها كانت خطيرة ومثيرة للقلق لدرجة جعلت مؤتمر جنيف عام 1925 يحظر استخدام الأسلحة البيولوجية والكيميائية.
فيما تم استخدام مئة طن من الغازات السامة كالكلور والفوسجين والخردل لقتل مئة ألف جندي وإلحاق الأذى بـ 1.3 مليون آخرين، خلال الحرب العالمية الأولى.
بريطانيا والولايات المتحدة كانت لديهما خطط لم توضع موضع التنفيذ لاستخدام مرض الجمرة كسلاح مخزن ضمن قنابل تزن 200 كيلوغرام، أو إلقائه لإصابة قطعان حيوانات العدو بعدوى هذا المرض
أما خلال الحرب العالمية الثانية، شغلت القوات اليابانية منشأة سرية لأبحاث الحرب البيولوجية (الوحدة 731) التي أجرت تجارب حربية جرثومية مرعبة على السجناء، وهنا كشفوا أكثر من 3000 ضحية للطاعون والجمرة الخبيثة والزهري وأوبئة أخرى في محاولة لتطوير المرض ومراقبته، فضلًا عن نشرها للبكتيريا المسببة للطاعون في مدن صينية بواسطة قنابلة انشطارية وبراغيث حاملة للمرض.
كما توضح الوثائق المنشورة عن هذه الفترة أن بريطانيا والولايات المتحدة كانت لديهما خطط لم توضع موضع التنفيذ لاستخدام مرض الجمرة كسلاح مخزن ضمن قنابل تزن 200 كيلوغرام، أو إلقائه لإصابة قطعان حيوانات العدو بعدوى هذا المرض، فقد أجرت بريطانيا تجربة على مرض الجمرة في جزيرة غرونارد على ساحل إسكتلندا وما زال يحظر الدخول إلى هذه الجزيرة حتى الآن، بسبب تلوث تربتها ببكتيريا هذا الوباء، وبدأت الولايات المتحدة مشروع أبحاث على الأسلحة البيولوجية في کمبا دترك في مريلند، وما زال هذا الموقع يخدم نفس الغرض، لأغراض دفاعية فقط.
عام 1952، اتهم فريق من الخبراء الدوليين الولايات المتحدة بأنها تستخدم أسلحة بيولوجية في حربها مع كوريا الشمالية، كما اتهموها أيضًا بإنتاج كميات كبيرة من بكتيريا التلريات (داء يصيب القوارض وتنتقل عدواه للإنسان) عام 1955، وذلك في موقع “باین بلف” في ولاية أرکنساس الذي أصبح مستودعًا لمختلف أنواع الأسلحة البيولوجية عام 1965، حتى أُعلن تدمير هذا الموقع عام 1972.
تعد الولايات المتحدة من أبرز المتهمين دائمًا باستخدام الأسلحة البيولوجية، ففي عام 1960، توجهت الاتهامات والشكوك بشأن استخدام الجيش الأمريكي أسلحة بيولوجية في حربه مع فيتنام، كما اتهمت القوات الشيوعية “الفيتكونج” باستخدام وسائل متنوعة لنشر الأوبئة بين صفوف الجيش الأمريكي.
بطبيعة الحال، كان الاتحاد السوفييتي منغمسًا أيضًا في تطوير الأسلحة البيولوجية، حتى وقع بشر تجاربه عام 1978، عندما حدث انفجار في المعسكر السوفييتي نتيجة إطلاق الجمرة الخبيثة، عن طريق الصدفة من منشأة أسلحة في سفيردلوفسك، مما أسفر عن مقتل 66 شخصًا على الأقل، وزعمت الحكومة الروسية أن هذه الوفيات كانت بسبب اللحوم المصابة وحافظت على هذا الموقف حتى عام 1992، عندما اعترف الرئيس الروسي بوريس يلتسين في النهاية بالحادث، وبأن هذا المعسكر كان مركزًا لدراسة الأسلحة البيولوجية.
الحرب البيولوجية اليوم
واصلت عدد من البلدان البحث في الأسلحة البيولوجية الهجومية واستخدامها، ومنذ الثمانينيات، أصبحت المنظمات الإرهابية تستفيد من الأسلحة البيولوجية، فضًلا على العمل مع الدول لاستمرار تطوير الأسلحة البيولوجية.
تداولت وسائل إعلام كثيرة أن العراق بدأ برنامجًا للأسلحة البيولوجية الهجومية لإنتاج الجمرة الخبيثة وتوكسين البوتولينوم والأفلاتوكسين عام 1985، خلال عملية عاصفة الصحراء، لمواجهة قوات التحالف، وفي أعقاب حرب الخليج الفارسي، كشف العراق وجود قنابل وصواريخ سكود وصواريخ 122 ملم وقذائف مدفعية مسلحة بسموم البوتولينوم والجمرة الخبيثة والأفلاتوكسين.
عام 1992 حاول أعضاء من طائفة “أوم شينريكيو” اليابانية الحصول على فيروس مرض إيبولا في زئير، وفي عام 1994م، حاولوا إطلاق الجمرة الخبيثة – من خلال رشها في الهواء – من قمم المباني في طوكيو، لكنهم فشلوا في ذلك.
ولم تخل الهجمات المصنفة بأنها إراهابية من استخدام الأسلحة البيولوجية، فوفقًا لموقع howstuffworks.com، بدأت هجمات الجمرة الخبيثة في الولايات المتحدة بإرسال الجراثيم داخل مظاريف عام 2001 ، فيما تعد أول هجمات إرهابية بيولوجية تتعرض لها البلاد، وأسفرت تلك الهجمات عن مقتل 5 أشخاص، 4 منهم لم يكونوا مستهدفين.
اتفاقية حظر استخدام الأسلحة البيولوجية
تعد الاتفاقية المتعلقة بحظر استحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية (الجرثومية) والسموم وتدميرها، من بين صكوك القانون الدولي الإنساني الرامية إلى تخفيف المعاناة الناجمة عن الحروب، وأُدين استخدام الأسلحة الكيميائية والجرثومية على نطاق واسع منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم حُظر في بروتوكول جنيف لعام 1925، وهو صك سابق للاتفاقية.
وقد نصت اللائحة المرفقة باتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 في السابق على حظر استخدام السموم أو الأسلحة السامة كوسيلة من وسائل الحرب، وتستند جميع هذه المحظورات إلى المبدأ الأساسي للقانون المتعلق بسير العمليات العدائية الذي ينص على أن حق أطراف النزاع في اختيار أساليب الحرب ووسائلها ليس حقًا مطلقًا.
حُرر نص الاتفاقية في أثناء مؤتمر لجنة نزع السلاح، ثم اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة لاحقًا، وفُتح باب التوقيع على الاتفاقية في لندن وموسكو وواشنطن يوم 10 من أبريل/نيسان 1972، ودخلت حيز التنفيذ يوم 26 من مارس/آذار عام 1975، وهي ملزمة الآن بالنسبة للغالبية العظمى من الدول.
لكن تكمن المشكلة في غياب نظام رسمي للتحقق من مدى الالتزام بالمعاهدة، مما حَد من فاعليتها وأتاح الفُرصة للدول المتقدمة بتطوير الأسلحة البيولوجية سرًا، مما يَمدها بالقوة في السيطرة على العالم لِقُدرتها على إبادة الشعوب.