“أعرف مطالبكم حتى قبل أن تقولوها، نعرف المجازر التي وقعت في دارفور.. سنعمل جميعًا لتحقيق مطالبكم وضمان عودة الحياة الطبيعية إلى الإقليم”، بهذه الكلمات تعهد رئيس الوزراء السوداني أمام سكان دارفور بإحلال السلام، وذلك خلال زيارة له في 4 من نوفمبر الماضي، هي الأولى له منذ تنصيبه رئيسًا للحكومة، حين التقى ضحايا الحرب في مدينة الفاشر، عاصمة الولاية التي تضم عدة مخيمات مترامية الأطراف يعيش بها عشرات الآلاف من النازحين منذ سنوات.
ورغم جهود السلام الحثيثة التي تبذلها الحكومة والمجلس السيادي لإنهاء هذا النزاع المستمر طيلة 17 عامًا، فإن الأوضاع لم تتغير بعد، فتحت وقع الطبول، حشدت القبائل العربية في ولاية غرب دارفور مقاتليها للثأر من مقتل ثلاثة من شبانهم في مدينة الجنينة خلال مشاجرة، دون أن تتمكن القوات النظامية من التنبؤ بمآلات الأوضاع.
وخلال الأيام الأربع الماضية، سقط ما يقرب من 40 قتيلًا نتيجة الاشتباكات القبلية بالمدينة، في حين نقل 63 جريحًا لتلقي العلاج في الخرطوم، هذا في الوقت الذي خيم فيه الهدوء النسبي على أجواء الولاية وسط حالة من الترقب في ظل السجال المتبادل والتهديد والوعيد بين القبائل، لا سيما العرب والمساليت.
اجتماع طارئ عقده مجلسا السيادة والوزراء في البلاد أمس مع قادة الأمن بولاية غرب دارفور، جهود متسارعة لاحتواء الأزمة قبل تصاعد يصعب معه السيطرة على الأوضاع، وسط حالة من الترقب تسيطر على الشارع السوداني المتلهف لانتظار مدى نجاح البرهان وحمدوك في أول اختبار سياسي وأمني لهما منذ تشكيل الحكومة سبتمبر الماضي.
يذكر أنه رغم توقيع اتفاق سلام بين الحكومة وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي في أبوجا عام 2006، وبين الحكومة وحركة التحرير والعدالة في الدوحة عام 2011، فإن الصراع استمر في دارفور بسبب رفض حركات أخرى التوقيع على الاتفاق، على رأسها حركة تحرير السودان ورئيسهاعبد الواحد محمد نور الذي يرفض التفاوض.
اجتماع طارئ
في أول تحرك رسمي على الاشتباكات الدامية خلال الأيام الماضية عقد مجلسا السيادة والوزراء في السودان اجتماعًا مع قادة الأمن بولاية غرب دارفور، أمس الأربعاء، واتفقوا على ضرورة نزع السلاح وإرسال قوات إضافية إلى المنطقة التي تشهد اشتباكات قبلية، كما توجهت وفود أخرى إلى أنحاء دارفور سعيًا لاحتواء الأزمة.
ومثل مجلس السيادة عضوه الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي فيما مثل الحكومة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، بينما شارك في الاجتماع كل من رئيس الأركان العامة الفريق ركن محمد عثمان الحسين ومدير قوات الشرطة الفريق أول عادل بشير ومدير جهاز المخابرات العامة الفريق أول بابكر دمبلاب.
وعن نتائج الاجتماع قال والي غرب دارفور اللواء عبد الخالق بدوي إنه خلص إلى ضرورة بسط هيبة الدولة ونزع السلاح في الولاية، وإرسال مزيد من القوات إلى دارفور وقوات متخصصة من جهاز المخابرات، وتقديم مساعدات للنازحين الفارين داخل الجنينة، مضيفًا أن الهدوء النسبي عاد إلى المدينة التي شهدت اشتباكات قبلية بين قبيلة المساليت والقبائل العربية.
من جانبه أكد عضو مجلس السيادة صديق تاور الذي ترأس وفدًا آخر إلى ولاية شمال دارفور أن ثلاثة وفود توجهت إلى ولايات غرب وشمال وجنوب دارفور، للتواصل مع سكان الإقليم والمكونات السياسية، والبحث في تداعيات أحداث غرب دارفور، ومحاصرة ما وصفها بالفتنة ومسبباتها.
وتتأرجح البيانات الخاصة بأعداد القتلى جراء تلك الاشتباكات في ظل عدم وجود إحصاء رسمي، فيما كشف مصدر طبي سوداني من مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور لـ”الجزيرة” أن أعداد القتلى بلغت 40 قتيلًا، بينهم أربعة سقطوا أمس، في حين تجاوز عدد المصابين عدة عشرات، تم نقل 63 منهم لمستشفيات الخرطوم.
المصدر ذاته أشار إلى أن مدينة الجنينة تشهد حركة نزوح كبيرة، حيث أقيمت معسكرات إيواء آمنة، وأن الانتشار العسكري أعاد أجواء الهدوء للمدينة، وسط حالة من الترقب من الجميع خشية عودة الاشتباكات مرة أخرى حال عدم حل الأزمة من جذورها، كما هو المعتاد طيلة السنوات الماضية.
إقرار السلام في دارفور ليس في صالح الجماعات المسلحة المدعومة حتى الآن من أطراف لها علاقة بنظام البشير
أزمة متجددة
تعود الواقعة إلى شجار بسيط نشب بين شباب من قبليتي المساليت والعرب، الأحد الماضي، في نادي مشاهدة بالجنينة، وتطور الموقف مساءً وأسفر عن مقتل 3 من العرب الذين تسلحوا بطبيعة الحال في اليوم التالي وردوا على ما تعرض له شبابهم بالهجوم على معسكر “كريندنق”، حيث تم إحراقه وتشريد النازحين.
ومع تصاعد الاشتباكات بين القبيلتين سقط عدد من القتلى يترواح بين 34 و40 وفق البيانات المتضاربة، فيما أكد القيادي في حركة العدل والمساواة عوض إبراهيم داؤود، أن الموقف حاليًّا مشوب بالحذر بعد وصول قوات إضافية من الخرطوم ونيالا وزالنجي، كما توقفت حركة الأسواق الرئيسية إثر حظر التجول الذي فرض طوال الليل.
داؤود كشف في تصريحات له عن تعليق المفاوضات في جوبا بين الحكومة والجبهة الثورية، مبررًا ذلك بأن الحركات المسلحة تنظر إلى الحادثة بأنها واحدة من عمليات نظام عمر البشير لخرق اتفاقات جوبا، نتيجة وجود عمليات مشابهة في جنوب كردفان وجنوب دارفور والآن في غرب دارفور، معتبرًا أن الحكومة غير قادرة على ضبط الواقع الأمني المتردي، مما يجعل الحركات تتحفظ على عملية السلام ومصداقية الحكومة.
تجدد الاشتباكات القبلية في دارفور بين الحين والآخر
مؤامرة؟
البعض ذهب في تفسيره لتلك الاشتباكات بأنها جزء من المؤامرة التي تستهدف تفاقم الأوضاع سوءًا، التي تعمقت بصورة كبيرة مع تعزيز البعد القبلي الذي أجج الصراع في الإقليم منذ العام 2003، عندما استعانت حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير بالقبائل العربية وسلّحتها ضد التمرد الذي يغلب عليه مكون ما يعرف بقبائل “الزرقة” من المساليت والفور والزغاوة.
المؤشرات في معظمها تشير إلى أن الحروب القبلية في دارفور تبدأ عادة بمشاجرة عادية، وهو ما حدث في اشتباكات الأحد، ورغم ذلك تظل القوات النظامية في مقاعد المشاهدين إلى أن تقع الكارثة، وهو ما دفع قادة بالحركات المسلحة إلى التلويح بأن ثمة مؤامرة حاضرة من أطراف لديها علاقة بالنظام البائد، بجانب أطراف أخرى كما ذكر القيادي في حركة العدل والمساواة.
القيادي بالحركة – التي تقود تمردًا ضد الحكومة منذ 16 عامًا – استنكر كذلك عدم تدخل الشرطة والجيش على مدى ثلاثة أيام، وقال: “لو كانت القوات النظامية مستعدة لَمَا اتسعت دائرة المشاجرة إلى صراع قبلي”، وهو نفس ما ذهب إليه أميرة ناصر، الصحفية المتخصصة في الشأن السوداني.
ناصر كشفت في تصريحاتها لـ”نون بوست” أن إقرار السلام في دارفور ليس في صالح الجماعات المسلحة المدعومة حتى الآن من أطراف لها علاقة بنظام البشير، لافتة إلى أنه ووفق مصادر خاصة هناك فإن عمليات التسليح وتغذية العداوات بين القبائل لا تزال مستمرة وبشكل مكثف.
وأوضحت أن اللقاء الذي عقده المجلس السيادي والحكومة مع الحركات المسلحة هناك ليس إلا تسكينًا لوضع من الصعب إزاحته بهذه الطريقة الناعمة، على حد قولها، متوقعة المزيد من الاشتباكات خلال الفترة المقبلة، هذا في ظل عدم تقديم أي من المشاركين في اشتباكات الأحد الدامي للمحاكمة، خاصة أن أعداد القتلى في القبيلتين غير متكافئ فهناك فارق كبير يغذي روح الانتقام.
هل تنجح حكومة حمدوك في الاختبار؟
يشكل السلام في دارفور أحد أبرز التحديات الرئيسية أمام سودان ما بعد الثورة، بمجلسيه، السيادي والحكومي، في محاولة لإنهاء هذا الملف المندلع منذ 2003 مخلفًا وراءه ما يصل إلى 300 ألف قتيل وتشرد 2.5 مليون آخرين، من بينهم أكثر من 180 ألفًا نزحوا في غرب دارفور، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
حمدوك في أول تصريح له بعد أداء اليمين الدستورية في 8 من سبتمبر الماضي كشف قائمة أولويات حكومته خلال المرحلة المقبلة قائلًا: “لو قدرنا نوقع السلام في الفترة من شهر إلى 6 شهور، هذا سيخلق مناخًا جيدًا، لأن الحرب تصرف من 70 إلى 80% من ميزانيتنا.. يمكننا بعدها أن نصرف على التعليم والبنية الأساسية ونعيد عجلة الإنتاج عبر اقتصاد قوي ومستدام، وننزل خلاله بالأسعار”.
الأمر يحتاج وفق ما ذهب خبراء إلى حنكة سياسية ودبلوماسية من نوع مختلف، فالنزاع القبلي يفرض على الجميع آليات مختلفة في التعامل السياسي والأمني
وبعد 3 أشهر من توليه المسؤولية نجح حمدوك في إبرام اتفاق سلام مبدئي بين الحركات المسلحة، عزز معه منسوب التفاؤل بشأن طي صفحة النزاع هناك، لكن سرعان ما تم الانقضاض عليه عبر الاشتباكات الأخيرة، الأمر الذي ربما يضع تحركاته والمجلس السيادي خلال المرحلة الماضية على المحك، حال ترك الوضع على ما هو عليه تحت قبضة القبائل المسلحة.
على النظام السوداني سرعة التحرك لاحتواء حالة الغضب والاحتقان المخيم على الأجواء الدارفورية، مع الوضع في الاعتبار أن اللجوء للحل العسكري والتغيير بالقوة المسلحة وإن كان تأثيره سريعًا، إلا أنه سيترتب عليه تداعيات كارثية ربما تضع الدولة نفسها في مواجهة عداء واضح من كل الحركات المسلحة وهو السيناريو الأخطر.
الأمر يحتاج وفق ما ذهب خبراء إلى حنكة سياسية ودبلوماسية من نوع مختلف، فالنزاع القبلي يفرض على الجميع آليات مختلفة في التعامل، السياسي والأمني، وقد أثبتت التجربة على مدار عقود طويلة مضت أن الخيار العسكري وحده لم يكن كافيًا، هذا بالتوازي مع تجفيف منابع تأجيج الصراع والقضاء على معاول النفخ في النيران الخامدة تحت الرماد.
الوقت لم يكن في صالح البرهان وحمدوك، لكن كلاهما أمامه فرصة لتقديم أوراق الاعتماد الرسمية للشارع السوداني المتحفظ على أداء نظام ما بعد ثورة ديسمبر، خاصة بعد الفشل الواضح في التعاطي مع العديد من الملفات التي كان بعضها وقودًا للحراك الثوري.. فهل ينجحا؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.