الـ “هيكوموري”، حالة نفسية تجعل الناس ينغلقون على أنفسهم في عزلة شبه تامة عن المجتمع، حيث يبقون في منازلهم لمدة تصل ما بين ستة أشهر وعدة سنوات دون إبداء أي رغبة في التفاعل والمشاركة بالأنشطة الاجتماعية، إذ يوجد أكثر من نصف مليون شخص منهم في اليابان، ومن المحتمل أن يرتفع العدد إلى أكثر من 10 ملايين، وذلك إضافة إلى الكثير غيرهم في بلدان مثل سلطنة عمان والمغرب والهند وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا وأمريكا وكوريا الجنوبية. والسؤال هنا: لماذا انسحبوا هؤلاء الأشخاص من مجتمعنا؟.
أجابت عدة دراسات ببساطة عن هذا السؤال، ورأت أن الكبت النفسي وضغوط العمل الشديدة سبب رئيسي في تفشي هذه الظاهرة. من ناحية أخرى، ذكر المركز القومي لإحصاءات الصحة في أمريكا أن معدلات الانتحار في الفئة العمرية ما بين 45 و64 عامًا، ارتفعت بشكل ملحوظ، بسبب زيادة مشاعر القلق والتوتر المتعلقة بالعمل والوضع المادي.
ونظرًا لهذا الوضع، انشغلت الكثير من الشركات الحديثة في توفير جميع وسائل الراحة لموظفيها، مثل صالات الألعاب والمطابخ والغرف الملونة والمقاعد المريحة، وغيرها من الديكورات والتصاميم الجذابة والفريدة، ولعل مقرات جوجل أشهر تلك الأماكن التي كسرت الأجواء التقليدية الموجود في غالبية الشركات العالم، لكي تجعل حياة موظفيها أسهل وتمنحهم بيئة محفزة على العمل والإنتاج لساعات طويلة دون أن يشعروا بالملل أو الرتابة أو التعب.
وعلى ذلك، ظهرت قوائم عالمية تُصنف الشركات الأفضل سمعة في هذا الجانب، وتصفها بأكثر أماكن العمل “سعادةً” أو “إيجابيةً” في العالم، ولكن رغم تلك الجهود والرفاهية، ذكرت دراسة حديثة أجرتها كلية لندن للاقتصاد، بأن أكثر الأماكن التي نشعر بها بالبؤس هو العمل، وهناك مكان واحد فقط يجعلنا نشعر بالسوء بصورة مساوية أو أكبر وهو حين نكون مرضى ونلازم الفراش.
السعادة الإجبارية في أماكن العمل
لعقودٍ طويلة، اعتمد رؤساء العمل على النظرية الإدارية -تعود إلى فترة الثلاثينيات- التي تقول بأن “الموظف السعيد الإيجابي، عامل ناجح”، على الرغم من عدم وجود أي بحوث أو نتائج حاسمة حول الصلة بين رضا الموظفين والإنتاجية. على سبيل المثال، كشفت دراسة أن عرض “ستاند اب” كوميدي لطلاب المدارس، يجعلهم يكتشفون الأخطاء في كتاباتهم ويحققون أداءً أفضل من الطلاب الذين لم يروا أي عرض كوميدي.
ومع ذلك، وجدت دراسة أخرى عن السلاسل التجارية الكبرى في المملكة المتحدة، أن المتاجر التي تضم موظفين غير مرتاحين في عملهم، كانوا أكثر إنتاجيةً من غيرهم، كما حققت شركاتهم أرباحًا عالية. تقودنا هذه النتائج المتناقضة إلى أن السعادة في العمل جيدة لبعض الوظائف، مثل العمل الذي يلزم بالتعامل مع الزبائن مباشرةً أو يحتم على موظفيها توجيه العملاء وقيادتهم لكي يشعروا بالتفاؤل، مثل “اللايف كوتشينغ”، ويعني أن السعادة ليست ضرورة دائمًا للحفاظ على الإنتاجية أو زيادة وتيرتها، ولا سيما لو ركزت الشركات بشكل مفرط على السعادة، الأمر الذي يشغل رؤساء العمل عن المشاعر الأخرى مثل الغضب والحزن والقلق وعدم اليقين، إلى أن أصبح هناك نوعًا من الحظر الضمني على العواطف السلبية في بعض بيئات العمل.
في هذا الجانب، أظهرت عدة أبحاث حديثة أن التعبير عن المشاعر بجميع أشكالها، الإيجابية والسلبية، أمر مهم للغاية، ليس فقط على الصعيد الصحي للموظف، بل للمنظومة بكاملها، إذ يتضح ذلك من خلال دراسة حديثة تدرس سبب فشل شركة الهواتف المحمولة نوكيا، في عام 2007، وهو العام الذي أطلقت فيه شركة آبل هواتف الأيفون.
تذكر الدراسة إلى أنه رغم معرفة شركة نوكيا بمشروع آبل وتفاصيله، إلا أن مدراء الشركة احتفظوا بتلك المعلومة لأنفسهم ولم يخبروا بها أحد، خوفًا من نقل الأخبار السيئة ووصفهم بالموظفين “السلبيين”، فقد كانت واحدة من معتقداتهم الإدارية تشير إلى أنك إذا كانت تريد الاستمرار في عملك، عليك أن تكون متفائلًا وتنقل الأخبار الإيجابية فقط.
وإيمانًا منهم بهذا المبدأ، استغرقت الشركة وقتًا طويلًا لتصميم نظام تشغيل منافس لهواتف الأيفون، كما اتخذت وقتًا إضافيًا في إطلاق هاتفها الذكي، وفي تلك الأثناء، كانت شركة آبل وسامسونج قد تفوقت عليها وأزاحتها خارج سوق الهواتف الذكية دون عودة.
ما الحل؟
الحقيقة المحزنة هي أن البحث الدائم عن السعادة، قد يعني إفلات هذه المشاعر من بين أيدينا، فقد فسر علماء النفس هذه الحالة من خلال دراسة أجريت على مجموعتين من الناس، وعرضت أمامهما فيلمًا عن انتصار أحد اللاعبين في مسابقة للتزلج على الجليد، ثم اختبرت مدى سعادتهم بعد المشاهدة، وقبل ذلك كانت إحدى المجموعتين قد قرأت بيانًا حول مدى أهمية أن تكون سعيدًا ومتفائلًا، ووجد الباحثون أن المجموعة التي لم تقرأ عن السعادة والتفاؤل، كانت أكثر سعادةً من سواها.
بدلًا من إغراق الموظف بأنشطة تفاعلية إلزامية يمكن السماح له بالعمل من المنزل أو المقهي
بعبارة أخرى، تعني نتائج هذه التجربة إلى أن الحديث عن أهمية السعادة، يقلل من احتمالية العثور عليها، حتى عندما يكون لدينا تجارب تشعرنا بالسعادة، وبالتالي فإن إجبار الموظفين على الشعور بالسعادة والتفاؤل والإيجابية في العمل كجزء من شروط الوظيفة وعلى اعتبار أنهم “أسرة” واحدة، يثير القلق والتوتر في الموظفين.
لكن على الرغم من الضغوط التي يشعر بها الموظف بسبب هذه المفاهيم وغيرها من الفعاليات التي من شأنها أن تعزز العلاقات بين الموظفين، اتبع الرئيس التنفيذي لشركة “نتفليكس” الشهيرة، ريد هاستنجز عقلية إدارية مختلفة، وقال بشكل واضح وصريح في مقابلة تلفزيونية: “نحن فريق، ولسنا عائلة”، مضيفًا أن الشركة تتوقع أن يبذل الموظفون أقصى جهدهم مع العلم أنهم قد لا يكونوا ضمن الفريق إلى الأبد.
لفتت هذه العبارة انتباه الشركات والموظفين في سوق العمل، وخصوصًا الإدارات التي قررت التخلي عن رسمية العمل وغرست عوضًا عنها مفهوم “العائلة” بين موظفيها، حفاظًا على انتماء وولاء العاملين لديها. ولذلك، كان وقع هذه السياسة ثقيلًا على مسامع العالم، ولكن نتفليكس التي تعتبر واحدة من أكثر الشركات نموًا ونجاحًا في الحيز الافتراضي، فضلت النظر إلى علاقتها مع موظفيها بنظرة واقعية متمركزة فقط على الأهداف طويلة الأجل، ولذلك تعاملت مع موظفيها على اعتبار أنهم فريق رياضي محترف، لا يضمن التوظيف مدى الحياة للاعبين، ولكنها مع ذلك، لا تزال قادرة تستفيد من مبادئ الثقة والاستثمار المتبادل والمنفعة المشتركة. فبالنسبة إليها، تفوز الفرق الرياضية عندما يعطي أعضاؤه الأولوية لنجاح الفريق على حساب المجد الفردي.
ومع أن البعض يرى هذه السياسة أكثر نجاحًا من غيرها، يرى سواهم أن اتباع الشركات لهذه الثقافة يشير إلى خوف الشركات من الالتزام وفي المقابل، سوف يقل الأمان والاستقرار الوظيفي لدى موظفي العصر الحالي، عدا عن أنه يجرد الموظف من الإنسانية بسبب النظر إليه كآلة مؤقتة يمكن الاستغناء عنها واستبدالها بماكينة أكثر حداثة وتطورًا، وربما بتكلفة أقل.
وبدلًا من إغراق الموظف بأنشطة تفاعلية ومعايير ضمنية مجهدة، يمكن اتخاذ خطوات بديلة لجعل العمل أكثر راحةً وأقل ضغطًا على صحة الموظف النفسية والعقلية. على سبيل التغيير، يمكن السماح للموظف العمل من المنزل أو المقهى، في بعض الأوقات وبحسب الوظيفة، الأمر الذي أكدت الدراسات التجريبية على أهميته في ضمان رضا الموظفين ورفع إنتاجيتهم، كما من المحبذ عدم مقاطعة الموظفين والقفز أمامهم خارج ساعات العمل من خلال رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية القصيرة أو حتى من خلال مبادرات وخطط السعادة الإلزامية التي تدعو الموظف لتناول العشاء أو قضاء نهاية الأسبوع مع بقية الزملاء والمدراء على اعتبار أنهم عائلة.