ما بين حمص الأندلسية ودمشق الصغرى وحلب والموصل وطرابلس الشرق والغرب تجتمع الحضارات التي تأسس بها تاريخ منطقتنا العربية، هذه الأسماء للوهلة الأولى لا تُذكر إلا بالأسى والحروب والدمار في عصرنا هذا، إلا أنها ومن منظور اجتماعي وتاريخي تربطها حالة من التشابه المنقطع النظير في الحالة الاجتماعية وطبيعة الأهل وتتعداها إلى تشابه اللهجات والثقافة وأنواع الطعام، أما في حال لم توجد هذه الشروط التي تربطها ببعضها فنجد أن العامل الجغرافي والسياسي يضع ثقله لربطها ببعضها عنوةً، فتدخل مدنٌ في صراع مستمر لنفس الأهداف وبنفس الوسائل على يد اللاعبين ذاتهم.
نسلط الضوء في هذا التقرير على أمثلة من عالمنا العربي لمدن تشابهت تركيبتها العمرانية والاجتماعية وطبيعتها الجغرافية وثقلها الإقليمي، وربما تشابهت في مسمياتها أو في معنى التسمية، وفي نظرة سريعة على تاريخ هذه المناطق التي توجد في كل مكان من عالمنا العربي نجد الترابط الموجود بين عدد لا يُستهان به من المناطق.
حلب والموصل
يتضح من خلال قراءة الأحداث ورؤية الوقائع أن مدينتي حلب السورية والموصل العراقية أكثر المدن تشابهًا وقربًا على الأصعدة كافة، فالمدينتان تقعان شمالًا من بلديهما، حتى إن التقارب وصل إلى بعدهما عن العواصم، فالموصل تبعد عن العاصمة بغداد 480 كيلومترًا وحلب تبعد عن العاصمة دمشق 450 كيلومترًا.
أما تاريخيًا فقد عاصرت المدينتان حكم العديد من الدول إلا أنهما اجتمعتا تحت ظل حكم العائلة الحمدانية خلال الحكم العباسي، وكان العباسيون قد أسندوا ولاية الموصل والشام والجزيرة لحمدان بن حمدون مؤسس تلك الدولة إلى أن استقل الحمدانيون عن الدولة العباسية بقيادة ناصر الدولة الحسن بن عبد الله الحمداني في سوريا، وبقي ولاة الحمدانيين في الموصل موالين للخليفة في بغداد. اهتم الحمدانيون بالثقافة في المدينتين فأنشأوا المساجد والمدارس بنفس طريقة البناء والعمارة مشجعين العلماء على إعطاء العلوم.
لم تسلم المدينتان من غزوات هولاكو الذي قاد جيوش المغول، كما أنهما لم تسلما من الحملات الصليبية، ووصلت حروب هولاكو إلى الموصل وأعقبها حملات تيمورلنك، ويذكر التاريخ أن حملة المغول على حلب كانت كهجوم “الجراد على حقل أخضر”، فتكدست الجثث في الشوارع واغتصبت النساء في المساجد، وعلى الرغم من هذه الحملات العنيفة، فإن الموصل وحلب ازدهرتا من جديد ووصلت شعلة ازدهارهما تحت ظل العثمانيين، حيث تحولت المنطقتان إلى طرق رئيسية لطريق الحرير.
أما في الحديث عن النسيج الاجتماعي فإن المدينتين ذاتا غالبية مسلمة سنية وتوجد بعض الأقليات الأخرى، ولم تعش المدينتان أي صراع طائفي، وسعت فرنسا مع نهاية الدولة العثمانية للاستيلاء على المدينتين، إلا أن طمع الإنجليز بثروات النفط والسياسة ورغبتهم بتثبيت قوتهم في المنطقة جعلتهم ينتزعون الموصل ليشكلون بها بالإضافة إلى بغداد والبصرة شكل العراق اليوم وحافظت المدينة على ثقلها التجاري في العراق حتى العصر الحديث.
عام 1940 أعيد تأهيل خط سكة القطار بين المدينتين مما أعاد العلاقات المشتركة والطابع الاجتماعي المتطابق بين المنطقتين إلا أنه أوقف عام 1982، وإضافة إلى كل ما سبق تشتهر المدينتان بأكلهما ولهجتهما المميزة والعمارة في البيوت والأسواق، كما أن الحروب الأخيرة التي شهدتها المنطقة أتت على المدينتين، فروسيا دمرت حلب عندما هجرت أهلها عام 2016 وكذا فعل التحالف الدولي بقيادة أمريكا في الموصل التي تمترس تنظيم “داعش” بها وبقيت المدينة أثرًا بعد عين.
نابلس ودمشق
تذكر كتب التاريخ أن مدينة نابلس الفلسطينية تلقب بدمشق الصغرى، إذ إنها تحوي على تفاصيل العاصمة السورية القديمة، وتتشابه بالمباني ذات الطراز العثماني إضافةً للأزقة الضيقة المتعرجة والشوارع المرصوفة والأسواق الشعبية، ويوجد في نابلس حارة تُسمى بحارة الياسمينية وهي المثال الأبرز للطابع الدمشقي في المدينة، كما أن الحالة الاقتصادية وطباع تجار المدينتين متشابه، إضافة إلى تطابق بناء الدكاكين، وكذلك تشتهر المدينتان بوجود الياسمين وانتشاره بكثافة، وتتشابهان بمناخهما والمياه العذبة وخيرات أرضهما، يُذكر أن المدينة الفلسطينية كانت تاريخيًا محطة تجارية على طرق القوافل من الشام إلى البحر الأحمر.
حارة دمشقية قديمة
وكان قطار الحجاز ينطلق من نابلس إلى شبه الجزيرة محملًا ببضائع المدينة على طول الطريق، كما أن تجار نابلس كانوا يصدرون الصابون والمنتجات المحلية إلى دمشق ويستوردون الأقمشة والتوابل والفاكهة من غوطة دمشق قبل الاحتلال الإسرائيلي، ونتيجةً لكل هذا الاحتكاك شهدت تلك الفترة ترابطًا أسريًا واندماجًا بين العائلات الدمشقية والنابلسية.
حارة نابلسية قديمة
طرابلس الشرق وطرابلس الغرب
طرابلس ليبيا وطرابلس لبنان، تحضر هاتان المدينتان بقوة في خط التاريخ، وقبل تحول المدينتين إلى شكلهما الحاليّ، كانت كل واحدة منهما تمتد إلى أماكن مختلفة بحسب من يحكمها لتكون اسمًا لعدة مدن وقرى وأراضٍ كبيرة، فطرابلس الشام تأسست عام 700 قبل الميلاد وكانت عاصمة الفينقيين، وتشكلت نتيجة اتحاد 3 مدن فينيقية، وهو أصل تسميتها التي تعني في اليونانية “المدن الثلاثة”، فيما تشترك طرابلس الليبية مع شقيقتها الشامية بزمن تأسيسها الذي كان في الزمن الفينيقي، فكانت المدينة في ذلك الزمن محطة تجارية ومركزًا اقتصاديًا مهمًا لتصريف المواد من إفريقيا، حتى وصلهما الإسلام وأصبحتا مركزًا مهمًا للمسلمين وحاضرتين بقوة للحضارات الإسلامية المتعاقبة.
صورة تجمع رمزين لمدينتي طرابلس الشرق وطرابلس الغرب
برزت أهمية المدينتين في العهد العثماني الذي كان يعتبر طرابلس الشام ولايةً إلى جانب ولايتي حلب ودمشق بحسب تقسيم بلاد الشام، في الوقت الذي عمد فيه العثمانيون إلى ترسيخ سلطتهم المركزية في ليبيا وشجعوا توطين البدو، وعملوا على تنمية المدن والزراعة، كما أحيوا تجارة القوافل عبر الصحراء التي ازدهرت كثيرًا في ليبيا بعدما أُلغي نظام الرق، وصحيح أن التشابه في التركيبية الاجتماعية والعمرانية غير موجود في المدينتين إلا أن المنطقتين وصلتا هذه الأيام إلى مرحلة كبيرة من الأهمية الجغرافية، حيث إنهما تقبعان بمنطقة الصراع الكبير لإطلالتهما على البحر الأبيض المتوسط الذي اكتشفت فيه كميات هائلة من مصادر الطاقة لتتسارع الدول بوضع موطئ قدم في المدينتين.
حمص الأندلس
وغير بعيدٍ عن عالمنا العربي فقد سُميت مدينة إشبيلية الإسبانية أيام دولة الأندلس، بمدينة حمص الأندلسية نسبةً إلى المدينة السورية، وتعد المدينة الإسبانية جميلة عصرها بين المدن حتى إنهم يقولون إنها تفوقت على قرطبة، وعند فتح بلاد الأندلس كان معظم من نزل في المنطقة تلك من جند الشام بقيادة موسى بن نُصير وخاصة أهل حمص، كما أنهم أطلقوا عليها التسمية لتشابه الموقع والتربة، يقول الشاعر أبو البقاء الرندي في قصيدته الرثائية عند سقوط الأندلس: “وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن”.
التشابه المغاربي
كثيرةٌ هي المدن التي تتشابه صفاتها في مغربنا العربي، وإن لم يكن التشابه بالصفات فأقل التطابق يكون في مسمى المكان، فمدينة المهدية المغربية هي وصيفة أختها المهدية في تونس، والاثنتان مدينتان ساحليتان وتعرفان بأنهما منطقتان تاريخيتان، وكذلك اسم سوسة الذي يُطلق على مدينتين إحداهما ليبية والأخرى تونسية وأيضًا مطلتان على الساحل وتشتهران بالسياحة.
إضافةً إلى ما سبق تعد مدينة سيدي سليمان الجزائرية من أبرز الوجهات السياحية في البلاد، لما تحويه من حمامات طبيعية ساخنة، في الوقت الذي تُسمى مدينةٌ مغربية بنفس الاسم وتبعد عن العاصمة الرباط بنحو 100 كيلومتر، تربط بين مدن الوسط والشمال المغربي عبر الطريق الساحلية.
لا يقتصر التشابه على هذه المدن فقط وإنما نتيجةً للتبادل الثقافي في العصور كافة بين المناطق أخذت الكثير من المدن طباعًا مشتركة إما دينيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، وقد يقتصر التشابه بنوع طعام أو اتباع مذهب أو اسم عائلة، ولعل المثال الأبرز على التشابه الديني هو مدينتي النجف في العراق وقم في إيران لوجود الحوزات العلمية والحسينيات وإقامة المراسم الشيعية بهما.