ترجمة وتحرير: نون بوست
في مطلع سنة 2019، توقعتُ أن تظل القوات الأمريكية موجودة على الأراضي العراقية، على الرغم من تعالي الأصوات المطالبة بإصدار قانون يفرض انسحابها في البرلمان. وكانت توقعاتي صائبة. أما فيما يتعلق بسنة 2020، فأتوقع عدم بقاء أي قوات أمريكية في العراق بحلول نهاية العام. ونظرًا لأني شخص يؤمن بشدة بأهمية إقامة علاقات وثيقة بين الولايات المتحدة والعراق ويعمل بجد لمساعدة كلا الجانبين على تحسين وتعزيز العلاقات بينهما، أشعر بالاستياء إزاء المستوى المتدهور الذي وصلته مؤخرًا العلاقات بين البلدين والقلق حيال مستقبلها.
من هذا المنطلق، لسائل أن يسأل، كيف وصلنا إلى نقطة التحول الجديدة التي من المحتمل أن تغير قوانين لعبة العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق؟ وماذا ستحمل في طياتها؟ أولًا، إذا كانت إيران، التي تقف وراء الهجوم الذي استهدف القاعدة العراقية الواقعة بالقرب من كركوك، في السابع والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر وأسفر عن مقتل مقاول مدني أمريكي وجرح أميركيين وجنود عراقيين، ترغب في دفع الولايات المتحدة إلى تنفيذ ضربات داخل العراق، فإن ذلك يعني أن طهران تمكنت من تحقيق ما ترنو إليه.
على خلفية ذلك، أدانت جميع الكتل السياسية العراقية الانتقام الأمريكي الذي ضرب مواقع تابعة للحشد الشعبي في سوريا والعراق وأدى إلى مقتل أكثر من 25 شخصًا. علاوة على ذلك، وفي الوقت الراهن، يدعو بعض القادة السياسيين العراقيين الحكومة إلى المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية. ومن المرجح أن يضيف المحتجون، الذين يخيمون في ميدان التحرير منذ أشهر، انسحاب القوات الأمريكية إلى قائمة مطالبهم المتزايدة الموجهة لرئيس الوزراء المقبل، الذي لم يُعين بعد، على الرغم من مرور أسابيع على استقالة رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي.
على الرغم من تمكن عبد المهدي من منع البرلمان من التصويت لصالح المطالب المتعلقة بانسحاب القوات الأمريكية خلال السنة الماضية، عندما كانت حكومته تحظى بنفوذ واضح، إلا أن الوضع اختلف تمامًا في الوقت الحالي. ليس لدى عبد المهدي ما يساعده على التفاوض، ولن يكون رئيس الوزراء المقبل في موقع أقوى من سلفه. نتيجة لذلك، أضحت أيام الوجود الدبلوماسي والعسكري والتجاري المهم للولايات المتحدة في العراق معدودة. من المحتمل أن تعود عدة مجموعات مسلحة عراقية متحالفة مع إيران إلى المكانة التي كانت تحظى بها قبل سنة 2012، إذا لم تتوصل إلى الوسائل السياسية المشروعة، على حد ما كتبه رجل الدين مقتدى الصدر.
من جانب آخر، أظهر الهجوم على السفارة الأمريكية أن الحكومة العراقية وقواتها الأمنية غير قادرة على كبح جماح جميع الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية عندما تكون هذه الجماعات مصممة على تولي زمام الأمور بنفسها. وكما لاحظنا في الأيام الأخيرة، تبنى القادة العراقيون الرئيسيون مواقف معادية للولايات المتحدة. في هذا السياق، أفاد رجل الدين العراقي مقتدى الصدر بأنه مستعد للعمل مع ميليشيات مدعومة من قبل إيران، الذي يكن لهم العداوة، بهدف وضع حد للوجود العسكري الأمريكي في العراق، عبر اتخاذ تدابير سياسية وقانونية ضده. وأصدر مكتب آية الله العظمى السيستاني بيانًا يدين الهجوم الأمريكي ودعا إلى احترام سيادة العراق.
تجدر الإشارة إلى أنه وقع اختراق السفارة الأمريكية في بغداد من قبل المتظاهرين خلال عدة مناسبات. على سبيل المثال، نُظم أول الاعتصام خارج السفارة سنة 2003. أثناء المظاهرات الراهنة، رفعت الأعلام الخاصة بالحشد الشعبي خارج السور. كما كتب أحد المتظاهرين عبارة “مغلقة بأمر الشعب” على الجدار الخارجي للسفارة. فضلًا عن ذلك، شارك قادة سياسيون على غرار مستشار الأمن القومي العراقي فالح الفياض وهادي العامري في المظاهرة التي نُظمت خارج السفارة. حيال هذا الشأن، فسّرت الحكومة العراقية تواجد الفياض بأنه كان في إطار حضوره جنازة أعضاء الحشد الشعبي الذين لقوا مصرعهم خلال الهجوم، الذي نفذته القوات الأمريكية.
سيتضاعف الضغط المفروض على الحكومة العراقية والبرلمان من أجل إقرار القانون الذي من شأنه طرد القوات الأمريكية
في الوقت الذي وعد فيه منظمو قوات الحَشد الشعبيّ بأنهم لن يقتحموا السفارة، تعهّدوا بالبقاء في معسكراتهم في الخارج إلى حين إغلاقها. واتخذ هذا التطور نسقا أسرع حتى من تقديرات المحللين الأكثر تشاؤما. في الواقع، يُذكّرنا هذا المشهد بوضعية طهران في سنة 1979، وهي الإشارة التي قام بها بعض الزعماء الميدانيين أيضًا. من بين العواقب الأبرز المترتبة عن هذه الأزمة، نجد أن فرصة أي مرشح لمنصب رئيس الوزراء موال للولايات المتحدة في الحصول على مصادقة البرلمان العراقي في الأسابيع المقبلة سوف تكون ضئيلة.
من جملة العواقب الخطيرة الأخرى، التي سوف يستغلها الكثيرون، نذكر أن المحتجين سوف يصرفون انتباههم عن الاهتمام بالعراق والإصلاحات التي ينادون بها إلى أحداث “أكثر أهميةً” في المنطقة الخضراء، وذلك في أعقاب الهجوم على السفارة الأميركية، وهو ما يعدّ تحولًا مؤسفًا للأحداث بالنسبة لكل الأطراف، ومن المرجح أن يتطور الوضع نحو الأسوأ قبل انفراجه.
في سياق متصل، وافق المتظاهرون المخيّمون خارج السفارة الأمريكية على إزالة خيامهم وتنظيف المنطقة بناءً على طلب الحكومة العراقية وأوامر زعمائهم. وصرّحوا بأن مطالبهم حُدّدت وأنهم حققوا النصر في الوقت الحاضر. بالتالي، تتمثّل خطوتهم التالية في نقل المعركة إلى البرلمان لطرد القوات الأمريكية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة كانت هدف العديد من القادة العراقيين منذ إعلان الانتصار على تنظيم الدولة.
يُذكر أنه في شباط/ فبراير 2019، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن القوات الأمريكية متمركزة في العراق بهدف مراقبة إيران، طالب حينها العديد من القادة العراقيين بطردها، بيد أن الإدارة الأميركية تراجعت عن تصريح الرئيس الأميركي وأكدت للعراقيين أن الاتفاق الأميركي العراقي والدستور العراقي الذي يحظر استغلال القوات الأجنبية لهذا الغرض، سوف يُحترمان بالكامل.
من جهة أخرى، طُرحت القضية مجددًا حين قصفت إسرائيل قواعد قوات الحشد الشعبي داخل العراق في آب/أغسطس 2019، ولكن تجنبت الولايات المتحدة حدوث أزمة من خلال إنكارها أي معرفة مسبقة بالقصف أو التنسيق مع الإسرائيليين. وفي الوقت الراهن، في أعقاب هجوم الولايات المتحدة على قوات الحشد الشعبي داخل العراق، سيتضاعف الضغط المفروض على الحكومة العراقية والبرلمان من أجل إقرار القانون الذي من شأنه طرد القوات الأمريكية.
في الواقع، يحتاج إقرار هذا القانون بعض الوقت. ويبقى السؤال الوحيد المطروح فيما إذا كان هذا الانسحاب سيكون تامًا، مثلما يدعو إليه المؤيدون العدوانيون، أو أنه سيقع التوصل إلى حل وسط يقضي بتقليص تواجد القوات هناك والإبقاء فقط على عدد ضئيل للغاية من الجنود.
في الحقيقة، ينطبق الأمر ذاته على المطالب الغريبة بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد. ومن المرجّح أن تتمكّن الولايات المتحدة من الحفاظ على وجود دبلوماسي مهم في العراق، لكنه لن يكون بالحجم الذي كان عليه في السابق. وفي حال ظلت علاقات الولايات المتحدة مع قوات الحشد الشعبي عدائية مثلما كانت دائمًا، سيكون من الصعب للغاية الحفاظ على وجود أميركي قوي خارج مبنى السفارة المحصنة في المنطقة الخضراء. وبعبارة أخرى، يعدّ هذا الأمر مهمًا بشكل خاص بالنسبة للشركات الأمريكية التي ينبغي أن تحظى بثقة أمنية عالية حتى تباشر العمل في حال حصلت على عقود رئيسية في القطاعات الحيوية في العراق.
نظرًا لتواجد الحكومة العراقية في وضعية ضعف تمنعها من السيطرة على استخدام العنف، فإن قوات الحشد الشعبي لن تتراجع. عمومًا، يتمحور السبيل الوحيد لحل هذه القضية حول السماح للمجتمع الدولي بإنشاء حكومة مستقلة فعلية في العراق. وفي ظل غياب ذلك، ستستمر القوى الخارجية على غرار إيران في التدخل في شؤون العراق وإفساد مسار التقدم الذي أحرزته في مرحلة ما بعد سنة 2003.
المصدر: أتلانتك كانسل