ترجمة وتحرير نون بوست
بالنسبة لمنطقة تتسم بالتقلبات والاضطرابات وحالة من عدم اليقين مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إن عملية التنبؤ بالمستقبل دائمًا ما تكون صعبة ومحفوفة بالمخاطر. لم يتنبأ أي محلل متخصص في المنطقة باندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011. وقد أثارت تلك الأحداث الهامة، التي ظلت تعصف بالمنطقة سياسيًا، من الناحية الرمزية، دهشة الجميع، بما في ذلك الحكومات المحلية والأجنبية، وكذلك المتظاهرين أنفسهم. في كثير من المناسبات، صرّح هؤلاء المحتجون بأنهم لم يعتقدوا أبدًا أنهم سيعيشون أحداث مثلها بالفعل. أما في الوقت الراهن، باتوا يعرفون أنهم يستطيعون قلب أنظمة الحكم في بلدانهم.
لا عودة إلى الوضع الراهن
إن هذا الوعي الجديد بقدراتهم الثورية أو الإصلاحية، ناهيك عن معرفة قدرتهم كأطراف فاعلة غير حكومية على إسقاط حتى أكثر الأنظمة استقرارًا، مثل نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك أو الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، سيبقى عاملًا رئيسيًا خلال السنوات والعقود المقبلة. وليس من قبيل المبالغة تشبيه الربيع العربي لسنة 2011 وما تلاه من آثار متواصلة بالثورة الفرنسية لسنة 1789، في منطقة لم يكن فيها “للشارع العربي” موقف حقيقي أبدًا، وحيث كان النظام السياسي يحدد من قبل قوى خارجة عن إرادته، مثل الحكومات الأجنبية الإمبريالية القوية.
لا يمكن طمس معالم هذا التغيير الهائل، مهما كانت الطريقة التي ستحاول بها الأنظمة القمعية الصارمة ومؤيدوها الغربيين أو الروس – الذين يدعمونها بشكل غير مشروط بصرف النظر عن الأعمال الوحشية التي ترتكبها – فعل ذلك. خلال سنة 2020، كما كان الحال في السنتين السابقتين، اللتين طغت عليهما الاضطرابات، لن تكون هناك عودة إلى الوضع الراهن القديم. ويعزى ذلك إلى أن الناس، ولاسيما الأجيال الشابة، الذين أصبحوا أشخاصًا سيذكرهم التاريخ على الدوام، باتوا يدركون تمامًا الدور الذي اضطلعوا به كقوة دافعة للتغيير.
إلى جانب هذه الصحوة العربية الأخيرة، والظروف الهيكلية المستمرة بما في ذلك الاقتصادات الراكدة أو البطيئة أو التراجعية، وانخفاض مستويات المعيشة بين شرائح كبيرة من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما في ذلك الطبقة الوسطى المثقفة، والحكومات القمعية، ستظل إمكانية اتخاذ تدابير تتعلق بالتنمية البشرية مستحيلة. سيساهم ذلك في حرمان هؤلاء السكان من امتلاك مكانة حقيقية كمواطنين يتمتعون بكامل حقوقهم في بلدانهم. تبعا لذلك، ستستمر هذه العوامل في تغذية ثقافة الاحتجاج والمعارضة.
ديناميات متناقضة
ستظل هذه البلدان تعيش تحت سطوة الصراع الذي ظلّ لسنوات يثير الفتنة بينها، وستجد نفسها في الصفوف الأمامية في مواجهة مباشرة، غالبا ما تكون ذات طابع عنيف، ضد قوتان متنازعتان لا تقبلان تقديم أية تنازلات ولا يمكن التوفيق بينهما: دينامية الديمقراطية الشعبية التي تنعكس في موجات الاحتجاجات الشعبية التي لا تنتهي أبدًا، ودينامية عودة الأنظمة الأوتوقراطية المضادة.
لعل خير مثال على ذلك، صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر بعد سنة 2011، والعودة المفاجئة للرئيس بشار الأسد في سوريا، أو قدوم الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تركيا، أو تعزيز نفوذ الأنظمة السعودية والإماراتية. ستحارب تلك الأنظمة المدعومة من قبل الحلفاء الغربيين، الذين فضلوا البقاء في صفوف الظالمين، وإسرائيل بالطبع، بكل قواها حتى القضاء على آخر سوري (أو عراقي، أو لبناني، أو جزائري) للحفاظ الوضع القديم البائد. وسوف تتمسك هذه الأنظمة بالامتيازات التي تحظى بها مهما كلفها الأمر، حتى لو كان ذلك من خلال اللجوء إلى ممارسات الشرطة الوحشية واستراتيجيات القمع العسكرية وتنفيذ مذابح ضد شعوبهم.
في بعض الحالات التي تُعتبر أقل عنفًا، على غرار لبنان أو الجزائر، ستقدم القوى القائمة بعض الإصلاحات البسيطة أو السطحية، مثل تغيير رئيس الوزراء أو الرئيس، أملًا في استرضاء المحتجين. ولكن بالنظر إلى الثقافة السياسية الجديدة والوعي التاريخي الذي ترسخت جذوره، خاصة بين الأجيال الشابة المعولمة، فإن هذا الأمر لن ينجح.
لن يكون هناك عودة إلى الوضع الراهن القديم، ستظل النهضة العربية محنة طويلة وغير مؤكدة ومؤلمة إلى ما بعد سنة 2020. من المؤكد أن العملية ستتواصل، خاصة بسبب ثقافة الاحتجاج السياسي الجديدة والنشاطية المؤيدة للديمقراطية، إلى جانب انعدام خوف الأجيال الشابة المثير للإعجاب، حتى في مواجهة أسوأ أشكال العنف والقمع الذي يمارسه النظام. لقد عاش المحتجون واختبروا قمع النظام لسنوات حتى الآن، في سوريا ومصر وأماكن أخرى، ومع ذلك ما زالوا مصرين على الخروج إلى الشوارع.
القوى الجيوسياسية الإقليمية
على الصعيد الجيوسياسي، يوجد بعض الأمور التي يمكن التنبؤ بها نسبيًا، على الرغم من السؤال الذي يلوح في الأفق حول ما إذا كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، سيبقى في منصبه بعد سنة 2020. ستظل المملكة العربية السعودية وتركيا وإسرائيل البلدان المهيمنة إقليميًا الأكثر قوة، في حين أن الأنظمة المصرية والسورية والجزائرية ستبقى رجعية ومن قوى الركود أو الانحدار المضادة للثورة، وهي تقف بعناد في طريق الديمقراطية والتنمية البشرية.
ستستمر سوريا في عهد الأسد في العودة بشكل مفاجئ إلى الساحة الإقليمية والعالمية التي بدأت خلال هذه السنة. من المرجح أن الأسد نفسه، الذي ارتكب جرائم حرب، سيقع الاعتراف به بشكل متزايد مرة أخرى باعتباره رئيس سوريا الشرعي الوحيد لأسباب عملية. ويُدرك جميع الأطراف، حتى الأعداء مثل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في الوقت الراهن أن الأسد لا يُقهر على ما يبدو ولن يقع التخلّص منه.
على الرغم من مشاكلها السياسية الداخلية، من المتوقع أن تواصل إسرائيل، التي أضحت قومية يمينية في أسوأ أشكالها، سياساتها الاستعمارية بما في ذلك ضم الأراضي الفلسطينية من خلال إنشاء مستوطنات وقمع الفلسطينيين. ومن المرجح أن يتواصل هذا الأمر في ظل إفلاتها من العقاب والدعم المستمر الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، سواء وقع إعادة انتخاب ترامب أم لا، ناهيك عن تواطؤ الاتحاد الأوروبي والدول العربية الأخرى والتزام القادة العرب الصمت، لاسيما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ستواصل تونس الجريئة رحلتها نحو الديمقراطية وحيدة نسبيًا، على الرغم من الوضع الاقتصادي الفظيع التي تعاني منه والمساعدة القليلة التي تتلقاها من الدول الغربية وغيرها من الدول العربية. في المقابل، ستستمر الاضطرابات في العراق ولبنان، اللذين شهدا انتفاضتين من أكثر الانتفاضات الداعية للديمقراطية نشاطًا خلال السنتين الماضيتين.
وقف تصعيد النزاعات المسلحة
يمكن للمرء أن يراهن على أن أسوأ النزاعات، التي كانت أكثر عنفًا في الأعوام القليلة الماضية في سوريا واليمن، سيجري التخفيف من آثارها بشكل كبير وربما يتجهان للتوصل إلى حل محتمل. نشهد بالفعل العديد من المبادرات الدبلوماسية، ولا سيما الاتفاق بين كل من روسيا وتركيا لإنشاء منطقة عازلة في شمال شرق سوريا. يُعتبر تحقيق قوات الأسد، بدعم من حلفائها الروس والإيرانيين، انتصارًا عسكريًا في الميدان العامل الحاسم للتوصل إلى حل محتمل في سوريا.
في اليمن، فشل عدوان المملكة العربية السعودية والضغط المتزايد من قبل حلفائها، بما في ذلك الولايات المتحدة، فشلًا ذريعًا في وقف هذه الحرب الرهيبة وغير المجدية. من المحتمل أن تكاليف الحرب بالإضافة إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي تعاني منها داخليًا، بما في ذلك بطالة الشباب وتدهور مستويات المعيشة، ستدفع الرياض إلى الانسحاب في نهاية المطاف.
من المحزن أن مصير الفلسطينيين والأكراد في المنطقة، وهما شعبان حُرما من الجنسية، لن تشهد أي تحسّن ومن المرجح أن تزداد سوءًا، خاصة بالنسبة للفلسطينيين، بعد أن تخلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عنهم بشكل صريح، وأصبحوا يمثلون حرجًا بالنسبة للأنظمة العربية، التي أصبحت العديد منها (بما في ذلك المملكة العربية السعودية ومصر) تدعم “إسرائيل”.
تفاقم الاضطرابات المحلية
في إشارة أكثر تفاؤلاً، على الرغم من الحديث المثير للقلق عن اندلاع حرب عسكرية إقليمية أو دولية كبيرة محتملة، (بين إسرائيل وإيران، الولايات المتحدة وروسيا، إلى غير ذلك)، مازال هذا الأمر غير مرجح. ويتمثل السبب الرئيسي الذي يفسر ذلك في أن جميع الجهات الفاعلة الرئيسية، بما في ذلك “إسرائيل” وتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وروسيا والولايات المتحدة، تدرك جيدًا أنها لن تحقق مكاسب كثيرة، ولكن هناك الكثير لتخسره. إلى حد الآن، قيّمت هذه الأطراف عملياتها العسكرية بعناية لتجنب أي تصعيد كبير قد يؤدي إلى حرب شاملة.
علاوة على ذلك، يعد هجوم تركيا في شمال سوريا، الذي كان محدود النطاق جغرافيًا وزمنيًا ناهيك عن عدد الضحايا المدنيين، مثالًا جيدًا على ذلك. في هذه الأثناء، قاومت “إسرائيل” رغبتها في إعادة غزو لبنان لاستهداف حزب الله، في الوقت الذي كانت فيه هجماتها ضد سوريا وإيران محدودة أيضًا.
متظاهرون لبنانيون يضرمون النار في العلم الإسرائيلي خلال مظاهرات يوم 21 تشرين الأول/ أكتوبر في بيروت.
لقد تعلمت الولايات المتحدة درسها في العراق بطريقة صعبة، لكن ترامب، رغم شجاعته وتهديداته العسكرية ضد إيران وتركيا، لم يبدأ حربًا جديدة خلافا لأسلافه. بالإضافة إلى ذلك، تتوافق سياسة الانسحاب وعدم التدخل إلى حد كبير مع سياسة إدارة أوباما.
في الواقع، يوجد الكثير من الاتساق بين سياسة ترامب والرئيس السابق باراك أوباما ولكن لم يكن المحللون ووسائل الإعلام على استعداد للاعتراف بهذه الحقيقة. من الناحية العسكرية، كان ترامب أكثر اعتدالًا من أوباما، الذي لم يكتف بنقل عمليات القتل التي نفذتها طائرات دون طيار، والاغتيالات، وعمليات القوات السرية العابرة للحدود الوطنية إلى مستوى جديد تمامًا – والتي نُفّذت أيضا بحماقة على الرغم من كونها كانت على مضض – بل سحب أيضًا الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى مغامرة في ليبيا بقيادة ساركوزي، تضمنت تدمير تلك الدولة التي تعيد إلى الأذهان ما حدث في العراق سنة 2003.
على الأقل، لم يقم ترامب بشيء من هذا القبيل، وقد أثبت أنه في كثير من الأحيان كان أقل تشددًا من الديمقراطيين، بما في ذلك المحافظين الجدد مثل هيلاري كلينتون، ومؤسسته السياسية والعسكرية، التي كانت تدفعه للانسحاب من سوريا.
خطوط الصدع المتعددة
مع بداية العقد الجديد، ستظل المنطقة تعيش تمزقًا بسبب وجود العديد من خطوط الصدع، ولعبة السلطة من أجل الهيمنة الإقليمية أو الدينية، والصراعات المتقاطعة، التي من خلالها يمكن لصراع محلي بسيط أن يكتسب بسرعة بُعدًا إقليميًا ودوليًا ويمتص العديد من القوات الأجنبية لإطالة أمد الصراع وجعله أكثر فتكا، كما حصل في اليمن.
على نحو مماثل، سرعان ما اتخذت الأحداث في سوريا، التي بدأت كحرب أهلية داخلية بين الأسد ومعارضيه، بعدًا إقليميًا ودوليًا، جذب إليه كلا من روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران وإسرائيل والاتحاد الأوروبي والعديد من الأطراف الأخرى. وينطبق الأمر ذاته على ليبيا، التي شهدت تدخلات من مختلف الأنواع من مصر وقطر والسعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة وروسيا والولايات المتحدة.
للأسف، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الخصائص المميزة للشرق الأوسط ستتوقف بطريقة أو بأخرى عن إحداث آثارها الموهنة والعنيفة. ومع بداية عقد جديد، ستظل المنطقة ملعبًا رئيسيًا لمسابقات القوة الإقليمية والدولية، والمنافسة المهيمنة والحروب بالوكالة.
المصدر: ميدل إيست آي