شكّلت عملية استهداف قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني رفقة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، إلى جانب ضباطين آخرين بالحرس الثوري الإيراني، في أثناء نزولهم بمطار بغداد الدولي قادمين من دمشق، إحدى أبرز التقلبات الأمنية في إطار المناوشات المستمرة بين طهران وواشنطن في العراق، ويبدو أن صانع القرار الأمريكي وصل إلى قناعة راسخة هذه المرة بضرورة التحرك العاجل، بناءً على معلومات استخبارية حصلت عليها الإدارة الأمريكية من أن قاسم سليماني يحضر لعمليات كبرى ضد المصالح الأمريكية في العراق والمنطقة، وهو ما أشار إليه الرئيس دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، من أنه لم يعد من الضروري السكوت على ممارسات إيران في العراق.
شكّلت عملية قتل سليماني ضربة إستراتيجية ونوعية فاقت تصورات صانع القرار في إيران الذي بنى تصورًا واضحًا عن التردد الذي اعترى المواقف الأمريكية في مناسبات سابقة، وهو ما شجع إيران على القيام بما يقارب 13 هجومًا مسلحًا على معسكرات يقبع بها عسكريين أمريكان، وهو ما أشار إليه المبعوث الأمريكي الخاص لإيران بريان هوك، ومن ثم يمكن القول إن الهجوم الأمريكي الأخير قد يدفع طهران إلى إعادة حساباتها في العراق والمنطقة، على ضوء التحرك الأمريكي الأخير الذي اتسم بدرجة كبيرة من الإصرار والحزم على معاقبة إيران وحلفائها في العراق.
يمكن القول هنا إن النظام السياسي في إيران سيواجه مشاكل كبيرة جدًا في قادم الأيام، ويأتي في مقدمتها اختبار مدى إمكانية لعب القائد الجديد لقوة القدس إسماعيل قآني لنفس الدور الذي كان يلعبه سليماني في تحولات المنطقة الأمنية والإستراتيجية، فمن خلال تصفح السيرة الذاتية للقائد الجديد، يمكن وصفه بأنه عقلية إستراتيجية فذة أكثر من كونه يتمتع بأدوار قيادية، إذ عمل مع سليماني طيلة الفترة الماضية كمخطط إستراتيجي ومستشار عسكري، وهو ما يضعه أمام تحديات كبيرة للنجاح كقائد، خصوصًا أنه سيكون تحت ضغط إعادة هيبة إيران بعد الذي جرى.
فليست هناك شخصية في إيران توازي شخصية سليماني عسكريًا وأمنيًا، على مستوى العلاقات التي يمتلكها مع مختلف الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، وبمختلف تلوناتها الإيديولوجية والسياسية والمذهبية، كما أنه لا توجد شخصية توازي شخصيته من حيث خلق صيغة ردع فعال في أنساق الخصوم، وهو ما يجعل الإستراتيجية العسكرية الإيرانية هي الأخرى أمام تحدٍ حقيقي، أهمه الحفاظ على الخطوط التي نسجها سليماني خلال الفترة الماضية، ومن المرجح أن يواجه القائد الجديد لقوة القدس تحديات كبيرة أيضًا للإمساك بها جميعًا خلال المستقبل القريب.
جاءت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي مارك أسبر يوم 2 من يناير 2019، لتؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسكت مجددًا على أي أعمال استفزازية قد تقوم بها إيران ووكلاؤها في العراق مستقبلًا، وهو ما توافق مع تصريحات أخرى أدلت بها المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية مورغان أورتاغوس بنفس اليوم، من أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتهاون في الرد على إيران في حال هددت المصالح الأمريكية، فإلى جانب حالة الردع التي شكلتها هذه التصريحات، فإنها من جانب آخر عكست الجدية الأمريكية في معاقبة إيران وحلفائها في العراق، عبر استهداف سليماني وأبو مهدي المهندس، هذا بالإضافة إلى إعلان وزير الخارجية الأمريكي بومبيو عزم الولايات المتحدة تصنيف قيس الخزعلي ومنظمته عصائب أهل الحق كمنظمة إرهابية مدرجة على لوائح الخارجية الأمريكية، في تصعيد أمريكي خطير للعبة كسر العظام مع إيران في العراق.
تبدو خيارت الصدام الأمريكي الإيراني في العراق اليوم مرشحة بنسبة كبيرة، فمرحلة ما بعد سليماني، سيكتنفها الكثير من الغموض عن المدى الذي من الممكن أن تصل إليه مديات الصراع بين الطرفين، كما أن الطرف الثالث في هذه المعادلة “الحرك الشعبي” ما زال بعيدًا عن مديات هذا الصراع، وهو ما عبرت عنه حالة الالتزام الشعبي في عدم الانخراط بأحداث المنطقة الخضراء، والأكثر من ذلك إصدارهم بيانًا عبروا فيه عن براءتهم مما يحصل أمام السفارة الأمريكية، في تأكيد على سلمية التظاهرات، وهو ما أكدته أيضًا الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية، من أن الشارع العراقي منقسم اليوم على نفسه، مظاهرات وطنية ومظاهرات تقودها إيران، وفي ذلك مؤشر على نوايا أمريكية واضحة في تعميق هذا الانقسام خلال الفترة المقبلة، بالشكل الذي يخدمها سياسيًا وأمنيًا.
ومن ثم فإن عملية البحث عن خيارات الرد الإيراني على الهجمات الأمريكية ستكون محددة بمسارات عدة أهمها: استهداف خطوط النقل والشحن الطاقوي في مياه الخليج وهجمات سيبرانية في الداخل الأمريكي والخارج وهجمات على حلفاء أمريكا في المنطقة والهجمات على معسكرات ومواقع أمريكية خارج وداخل العراق، فليس هناك مجال للحديث اليوم عن حروب شاملة قد تندلع بين الطرفين، وإنما في أكثر الأحول ستكون محددة وضيقة النطاق لرغبة الطرفين في ذلك، كما أن التجربة السياسية تشير إلى قدرة إيران على تجاوز هذه المرحلة، لكنها ستكون صعبة وشاقة وقد يكلفها ذلك الكثير من نفوذها وتأثيرها الإقليميين، وهذا يعتمد على جدية الطرف الأمريكي في مواصلة الضغط على إيران واحتوائها أو عبر مواصلة دبلوماسية تخفيف الضغوط مع إيران، وهو ما عبرت عنه جولات السفير السويسري بصفته القائم بالأعمال الأمريكية في طهران، من خلال لقائه حسن روحاني مرتين بذات اليوم، في عملية تسليم واستلام للرسائل بين طهران وواشنطن.
وبالإضافة إلى ما تقدم يمكن القول إن عملية قتل سليماني قد تعيد تشكيل التوزانات السياسية الداخلية في إيران، بالشكل الذي يخدم الرئيس روحاني على حساب المؤسسات الأخرى، فسليماني كان من أكثر الشخصيات المحددة لحركة الكثير من القيادات داخل التيار الإصلاحي والمعتدل، ومن ثم فإن هذا قد يعطيهم هامش مناورة أوسع أمام المرشد الإيراني في الاستحقاقات السياسية القادمة التي قد تكون أبرزها العودة إلى طاولة المفاوضات.