بعد عشر سنوات من الممارسة السياسية التعددية سمحت بها الثورة التونسية منذ شهرها الأول ما زال المشهد الحزبي التونسي منقسمًا إلى صفين لا يتفقان أبدًا، فمن ناحية عندنا كل الأحزاب السياسية من مختلف التوجهات في مقابل حزب النهضة الوحيد المعزول الذي لا يفلح في بناء تحالفات سياسية رغم سعيه إلى ذلك بكل الحيل، وقد أكدت انتخابات 2019 وعملية تشكيل الحكومة هذا الانقسام وكرست العزلة.
والسؤال الذي يردده الكثيرون: لماذا يحاصر حزب النهضة ويعزل؟ أين تكمن عوائق الاتفاق أو موانع التنسيق السياسي بين المعسكرين؟ والسؤال الأبعد مدى ماذا ربحت تونس من هذا الانقسام؟ وماذا خسرت؟
تاريخ طويل وموقف واحد من النهضة
كما هو معروف كانت بداية الحركة الإسلامية الحديثة في تونس في أول سنوات السبعين كحركة دعوية غير سياسية، تنظم خطبًا دعوية في المساجد بصيغة أقرب إلى حركة التبليغ والدعوة، ثم بدأت تظهر في الجامعة التونسية فمال لها كثير من الشباب الذي كان يعيش حيرة وجودية أمام خطاب التحديث البورقيبي، فتوتر اليسار التونسي الذي كان يسيطر على النشاط السياسي الطلابي ويقود معارضة عالية الصوت ضد النظام من داخل الجامعة خاصة.
هناك بدأ العداء بين الجماعة الإسلامية الناشئة واليسار وأقام اليسار سردية مفادها أن النظام خلق الحركة لضرب اليسار الطلابي، وكانت فترة محنة قاسية على اليسار أكدت السردية فحتى ذلك الحين كان الإسلاميون الذين لم يظهروا وجهًا سياسيًا معاديًا للنظام بمنأى عن تلك العذابات، لكن بعد الصدام بين النقابات التي سيطر عليها اليسار والنظام سنة 1978 انقلب المشهد.
صارت الجماعة الإسلامية الدعوية اتجاهًا إسلاميًا وتمكن من السيطرة على قطاعات طلابية واسعة وكشف وجهًا سياسيًا يتبنى تقريبًا خطاب الثورة الإيرانية الاجتماعي دون تشيع مذهبي وطالب سنة 1981 بالمشاركة السياسية القانونية استجابة لفجوة تعددية فتحها النظام بعد عملية عسكرية بمدينة قفصة سنة 1980 مولها ووجهها القذافي والنظام الجزائري، فحول النظام قمعه إلى الإسلاميين ودخل اليسار في تحالف غير معلن معه ضد عدو مشترك مع الحفاظ على السردية الأولى بأن الإخوان صنيعة النظام وسلاحه ضد التقدمية ورفع شعار حتى الآن (سحقًا سحقًا للرجعية دساترة وخوانجية).
وفي الوقت الذي كان يزج بالإسلاميين في السجون كان اليسار قد تسرب إلى مفاصل الدولة والنظام وتحول بالتدريج إلى لسانه ويده القامعة طيلة عقد الثمانينيات، واستحكم العداء بين اليسار والإسلاميين خاصة بعد أن أسسوا لهم نقابة طلابية سحبت البساط الطلابي من تحت نقابة اليسار المعطلة، وناصر القوميون اليسار في كل مواقفه من الرجعية مستوردين كل معارك الناصريين والإخوان في مصر والشام.
تملك اليسار صفة التقدمية ونصب نفسه قائد التحديث الفكري والسياسي وحشر الإسلاميين في زاوية الرجعية والعمالة للإمبريالية، وأضاف القوميون لهم صفة خيانة الأمة العربية، فهم يدعون إلى أمة إسلامية لا تقدم العرب على غيرهم من المسلمين.
ظهور بن علي في المشهد سنة 1987 لم يقرب بين الأعداء، بل سمح له باستغلال الخلاف الأزلي وتعميقه ليشترك مع اليسار في تصفية الإسلاميين في مذبحة لم يشهد لها التاريخ التونسي مثيلًا حتى زمن الاستعمار.
قاد شق واسع من اليسار دولة بن علي ونفذ مشروعه التحديثي بينما جنح بن علي إلى سرقة المال العام محافظًا على حالة من الضغط السياسي العالي على كل نفس معارض بما في ذلك وجوه يسارية بقيت خارج كل تحالف معه، حتى سقط أمام زحف الشارع في 2011، وخلال كل هذا ظل الإسلاميون هم الرجعيون واليسار هو خلاصة التقدمية.
الثورة لم تغير شيئًا حتى الآن
ولا يبدو أنها ستفلح في إخراج تونس من هذه المعركة، لقد همد الخلاف بين يوم انطلاق الثورة ويوم هروب بن علي ثم عاد ليطل برأسه بخطاب يلح على أن الإسلاميين لم يشاركوا في الثورة ولذلك لا حق لهم في قطف ثمارها، ولكن السياق كان قويًا على اليسار ففاز الإسلاميون بالسلطة رغم القانون الانتخابي الذي فصل ضدهم فتجلى العداء أكثر.
لم تكن قبضة الإسلاميين على السلطة شديدة فأفلت الأمر من بين أيديهم وتدخلت أيدي خارجية بالاغتيالات السياسية بما ألزم الإسلاميين بالتنازل ودفع ثمن جديد من الإقصاء من مفاصل الدولة التي أراد قادة اليسار دخولها بواسطة النقابة وحكومة تصريف الأعمال طيلة سنة 2014.
بنى اليسار سردية جديدة عمودها أن الإسلاميين مسؤولون جنائيًا عن الاغتيالات لأنهم بنوا تحالفات مع الإرهاب الإسلامي العابر للحدود للقضاء على تونس وعلى نمطها التحديثي التقدمي، ولتجميع كل الطيف السياسي معهم تبنوا كل تاريخ بورقيبة الذي عارضوه في السبعينيات باعتباره رمزًا للرجعية والخيانة والعمالة، فتوسع صف أعداء الإسلاميين فعلًا ليجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة قوى لا جامع بينها إلا الموقف الإقصائي، وكان ذلك أجلى ما يكون في اعتصام باردو (الرحيل 2013) الذي موله فلول النظام الساقط بواسطة مجندين من اليسار بمقابل مالي، ليقدم الباجي قائد السبسي رئيسًا محاطًا بطاقم مستشارين يساري.
رغم ذلك لم يسقط الشارع الإسلامي ومنحهم موقعًا سمح لهم بحماية أنفسهم وهو شاغل رئيسي عندهم حتى وصلوا إلى 2019 كحزب أول ولكن بحجم أقل لكن يسمح لهم رغم ذلك بتشكيل الحكومة، وفي عملية بناء الحكومة تجلى الصفان من جديد في مشهد لا يختلف عن مشهد بن علي سنة 1990، الجميع ضد الإسلاميين.
هل النهضة حزب قوي فعلًا؟
سرد الوقائع التاريخية أعلاه يقرأ عادة كتبرير للنهضة وليس هذا هدف الورقة، لكن معطيات التاريخ جعلت الحزب منذ ظهوره في 1981 وهو مطارد وقد استبطن الوضع حتى صار مبررًا لكل موقف ونظن أن كثيرًا من عناصره استمرأوا وضع الضحية وصاروا يعيشون منه ويبررون به فقر الحزب وعجزه عن إنتاج البدائل الفكرية والسياسية، وانساقت قياداته إلى عمل سياسي (سياسوي) من أجل مشاركة بلا مضمون، وقد طفت مؤخرًا خلافات عميقة بين قيادته بشأن المواقع لا البرامج والبدائل، وهو تقريبًا نفس مرض الأحزاب اليسارية الذي أودى بها.
وضع الحزب المطارد من الداخل والخارج لا يبرر في تقديرنا تحالفات تستهدف مواقع قيادية في الدولة دون تقديم أطروحة حكم، فالحزب حتى الآن بلا لون سياسي محدد، فهو ليبرالي اجتماعي وسطي يساري، أي خلطة فيها هوى القيادات التاريخية بحسب تكوينها الدراسي دون هوية سياسية واقتصادية محددة.
من أجل اكتساب هوية ما أطلق رئيس الحزب مفهوم الإسلام الديمقراطي ليتنصل به من الصفة الإسلامية التي طورد من أجلها ولكن حتى الآن ما زال هذا المفهوم قوقعة فارغة ويستعمل فقط كغطاء لتسويق صورة مدنية للحزب المتهم في مدنيته في الداخل والخارج، أما البرامج والأفكار والخيارات السياسية فغائبة تمامًا، وتجلى ذلك فعلًا في عملية تشكيل الحكومة (تحالفات غير مضمونية) حيث سبق البناء الشكلي (أو توزيع المواقع) على محتوى العمل السياسي الذي يطلبه الشارع.
تونس الخاسر الوحيد
نتيجة هذا الخلاف ليس فقر النهضة فحسب بل فقر الجميع لجهة إنتاج بدائل الحكم، فمطاردو النهضة والنهضة المطاردة مشغولون جميعًا بمعركة ليست معركة الشعب التونسي، وكشف لهم ذلك في مناسبات كثيرة وخاصة التصويت لكل من يقف خارج هذه المعركة (الدكتور مرزوقي والأستاذ قيس سعيد).
يستمع الجميع إلى مطالب الشارع الاجتماعية (معالجة البطالة والتهميش ودفع عملية التنمية لتستجيب لتطلعات من قام بالثورة) ولكن في كل مناسبة يخيب ظن الشارع بالفريقين ويجد نفسه منجرًا إلى متابعة معركة الإقصاء وينتظر أن تضع أوزارها ولكن.
حكومة السيد الجملي التي تعيش ولادتها القيصرية هي أحسن تعبير عن تواصل هذه المعركة وهذا الكسر السياسي في صف النخبة الذي لا ينجبر ولا نرى له من جبر إلا باندثار الشقين أمام قوى ينتظر ظهورها من الشعب المجهول لتحل محل هؤلاء الذين عاشوا الانقسام ويجدون متعة أو مصلحة في استمراره.
من سيؤلف هذه القوة القادمة؟ لا نحدد بالضبط إلا جسم شعبي مجهول ولكن محبطًا وفاقدًا للأمل، لكن نتذكر أن ثورة 2010 انطلقت من خارج هذا الصراع ولم تهتم به ونعتقد أن مفتاح المستقبل لن يكون بعيدًا عن تلك الانطلاقة من الأعماق. متى سيكون؟ للثورات مواقيتها.