مبادرة “كنا وما زلنا” هي توثيق بصري للقرى المهجرة ونشر الرواية الفلسطينية الحقيقة والتواصل مع بعض اللاجئين الفلسطينيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الوطن والشتات ومقارنة الصور القديمة لديهم مع صور لواقع قراهم ومدنهم الحاليّة، ثم جلبهم لتبدأ رحلة البحث عن منازل أجدادهم التي هجروا منها عام 1948 أو بقيت بعض من أنقاضها أو حتى كما هي لم يغير منها الاحتلال الإسرائيلي شيئًا.
“نون بوست” أجرى حوارًا مع صاحب هذه المبادرة “طارق البكري” الباحث والمؤرخ الفلسطيني من بيت المقدس ليعرفنا أكثر عن ماهية مبادرته التي نجحت في جمع عشرات القصص الحية والمصورة، كل هذه الأفكار بلورها في مبادرته التطوعية والإنسانية التي بدأ تنفيذها قبل سبع سنوات، فمن خلال عدسته رأينا مدن عكا ويافا واللد والرملة، وكل المناطق من شمال إلى جنوب فلسطين، التي كنا نراها على الخريطة أو حتى من خلال وسائل إعلام عبرية، فشاهدنا أصحاب البيوت المهجرة وردات فعلهم بمشاعر ممزوجة من حنين الماضي وألم الحاضر.
أصل المبادرة
أنهى البكري تخصص الهندسة من الأردن، لكن تعلقه بالمجالات الثقافية والأدبية جعله يلتحق بها ويحمل على عاتقه مسؤولية قضية اللاجئين وحق العودة وتعلقه منذ صغره بمفاهيم حب الأرض والوطن، فمن خلال مبادرة “كنا وما زلنا” التي انبثقت عند تعارفه بأصدقاء الدراسة فلسطينيي الخارج وتعريفهم على مدنهم وقراهم التي هجروا منها عام 1948، وبعد تخرجه عاد لفلسطين، وكلما مرّ بقرية أو مدينة مهجّرة لأحد أصدقائه، يبادر بتصويرها وإرسال الصور لهم.
وفي هذا الصدد يقول: “مبادرتي عبارة عن توثيق بصري لمدن فلسطين المحتلة الذي يعتمد على إظهار جانب آخر للمبادرة وهي عن طريق القصة وليس عن طريق الكتب، وبمثابة عين لكل فلسطيني، اعتمدت نظام الصور لعشرات العائلات الفلسطينية من خلال إرسالهم لي صور أجدادهم ثم تبدأ مهمتي بالبحث عن هذا البيت وأصور لهم بيوتهم الحاليّة، ثم توسعت المبادرة إلى إحضار فلسطينيي الشتات والخارج الذين يمتلكون جوازًا أجنبيًا إلى مدنهم وقراهم الأصلية”.
وبمبادرته التطوعية كون البكري فريقًا متكاملًا حتى يساعده، حيث أصبح عدد هائل من فلسطينيي الشتات يتواصلون معه يوميًا بخصوص آلية الوصول إلى قراهم أو مدنهم، كما أصبحت مبادرته تجول أكثر من 18 دولة عربية وأوروبية باللغة العربية والإنجليزية لإلقاء المحاضرات الثقافية وافتتاح معارض الصور.
توسيع التوثيق البصري
أوضح البكري أن مبادرة “كنا ومازلنا” توسعت من حيث الأسلوب والمراحل ولكنها تتفق بالأهداف التوثيقية البصرية لكل المجالات مثل الحضارات المتعاقبة ورصد أساليب التعذيب والتهجير للفلسطيني وإظهار الأعلام الفلسطينية مثل إدوارد سعيد وخليل السكاكيني وغيرهم، وتعريف الفلسطينيين في الداخل والخارج بالمدن والقرى بعد تغيير أسماء المباني القديمة وأنها ما زالت حية ويشهد عليها التاريخ منذ أكثر من سبعين عامًا من خلال الصورة التي تصل أحداثها بسرعة وسهولة إلى الجيل الجديد.
ويضيف “جولدا مائيير رئيسة وزراء الكيان الإسرائيلي التي تدعي أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنهم جاؤوا إلى أرض خالية من السكان وعمروها، سكنت في بيت الفلسطيني حنا بشارات بحي “الطابية” بالقدس”.
كما وثق البكري قبل خمس سنوات قبور وشواهد الشهداء من الجنود الأردنيين الذين سقطوا على أرض فلسطين، ففي إحدى جولاته لتصوير أحراش “اللطرون” قرب مدينة القدس، وجد ثمانية قبور لجنود أردنيين كانوا مفقودين، وشواهد قبور غير واضحة، فقام بالحفر ووجد أسماء الجنود وتواصل مع أهلهم وكُرِم على هذا المجهود.
رحلات البحث عن بيوت الفلسطينيين
في حديثة عن أول قصة وثقها لصديقه “منير” الفلسطيني المقيم في الأردن وأصله من قرية “الولجة” غرب مدينة القدس يقول إنه ذهب لحضور مؤتمر فحصل على تأشيرة دخول للضفة الغربية، وبطريقة معينة ساعده طارق للحصول على إذن لدخوله أراضي الداخل المحتل، ومن خلال الصورة القديمة التي كانت بحوزة منير باللونين الأبيض والأسود لعائلته، عثر البكري على بيت جد منير.
يسرد البكري قصة أخرى للفلسطيني حسني غنيم الذي يمتلك جوازًا أمريكيًا، وعودته إلى مكان مولده مدينة “صفد” لأول مرة بعد 71 عامًا، فيقول: “تواصلت معي ابنة غنيم وأخبرتني نيتها القدوم إلى فلسطين لتجد منزل والدها الذي طرد من مدينته بالقوة عام 1948 ومشى مع عائلته سيرًا على الأقدام نحو الحدود اللبنانية إلى أن وصلوا قرية بنت جبيل في جنوب لبنان، فاستضافتهم عائلة درزية أقاموا في منزلها لمدة 6 شهور قبل أن يتوجّهوا إلى الشام، وبعد 30 عامًا في دمشق سافر غنيم ليكمل تعليمه الجامعي في إسبانيا وانتهى به المطاف في الولايات المتحدة”.
آلية البحث عن المنزل لم تكن سهلة، كما يروي لنا البكري: “رحلة المعاناة للوصول إلى صاحب البيت، حيث تم الاستناد إلى خريطة قديمة رسمها مهجرو صفد لمدينتهم، ومئات الأسماء والتفاصيل تطلبت بحثًا مضنيًا قبل مجيء غنيم بأسابيع”، يقول: “تواصلت مع سيدة فلسطينية مقيمة في الدوحة اسمها رنا خليفة وأصلها من صفد، تحفظ كل زاوية في صفد، كانت كلما أرسلت إليها صورةً عشوائية من هناك تقول لي هذا منزل فلان وبجانبه المدرسة وعلى الشارع السفلي منزل فلان المقيم حاليًّا في الأردن”.
وبكل دهشة يقول البكري: “صدقًا لم أجد أحدًا مثلها يحفظ تفاصيل التفاصيل في صفد، وبعد أيام من التواصل سألتها عن المدة التي سكنتها في صفد، فهي من الجيل الثاني للنكبة ولم تكن في فلسطين يومًا ولم تطئ أقدامها مدينتها إطلاقًا بل ورثت كل ذلك من والدتها رقية التي ولدت في صفد عام 1924”.
فاجتهد البكري ليتعرف على مدينتها أكثر وتصبح مرجعًا، مؤكدًا أنه لا يجب التوقف على ما يزرعه الآباء والأجداد في أبنائهم بل التعرف عن قرب على القرى المهجرة من خلال الصور والوثائق وخريطة فلسطين. وفي نهاية الرحلة إلى صفد رفقة البكري وغنيم انطلاقا من حيفا متوجهين إلى صفد، حيث يصف البكري المشهد عند وصولهم بالقول: “حاول العم غنيم إخفاء توتره وارتجاف يديه كلما اقتربنا من الشمال ببعض الابتسامات والمزاح، إلى أن وصلنا مشارف مدينته وباللحظة التي رأينا فيها أول يافطة صفد “تسفات” بالعبرية صمتنا جميعًا وانهار غنيم باكيًا بالقول: يا الله ماني مصدق ماني مصدق إني هون”.
“كان منظر المدينة فائق الجمال من أجمل مدن فلسطين الجبلية، منظر جبل الجرمق والإطلالة الساحرة على الطبيعة وسفوح التلال من بين المنازل تسحر العقل، لكنها حزينة، بيوتٌ عربية، مآذن وكنائس ونقوش باللغة العربية ومساجد تحولت إلى معارض فنية، حارة السوق، حارة الجورة، حارة الاكراد، حارة النصارى، حارة الصواوين وقدورة وغيرها كلها تسكنها عائلات يهودية متزمتة”، على حد وصف البكري.
ثم بدأ البكري وغنيم بالشروع في البحث عن المنزل، فعائلة غنيم امتلكت منزلين: الأول على الشارع أسفل القلعة والآخر في نهاية حارة السوق، ويضيف البكري: “للأسف هُدم منزلهم الأول ومنازل أخرى بالحي لتحل مكانها بناية ضخمة قبيحة من عدة طوابق، أكملنا لنجد البيت الثاني الذي بنته العائلة بعد تحسّن أوضاعها المادية ليكون منزلًا مُطلًا على التلال وبعيدًا عن الاكتظاظ، لم يكد ينتهي البناء لتسكن العائلة في منزلها الجديد، حتى سقطت صفد في 11 من مايو/أيار 1948”.
تشويه إسرائيلي فاشل
في قصة أخرى، يقول البكري عبر صفحته على الفيسبوك: “في أواخر العشرينيات في حي “الطالبية” غربي القدس المحتلة، جمع شكري الجمل عائلته لالتقاط صورة تذكارية أمام المنزل تجمع زوجته وأخواته وبناته كي تبقى ذكرى للأحفاد، وبعد النكبة وتحديدًا في الستينيات تم تشييد ثلاثة طوابق فوق المبنى الأصلي، استخدم فيه باطون أبيض حاولوا تقريب شكله من الحجر الأصلي ولكنهم فشلوا وأدت هذه المحاولات والإضافات إلى تشويه التصميم الأساسي”، مشيرًا أنه في ذلك الوقت كانت المحاجر والبنّاؤون المهرة في الشطر الشرقي من المدينة والضفة الغربية التي احتُلّت تمامًا لاحقًا.
كما بين البكري أن منزل عائلة الجمل تسكنه عائلات إسرائيلية نامت على أسرّتهم وطهت وأكلت في صحونهم وأوانيهم في أثناء حواره معهم.
أما قصة منزل جد ناصر الدقاق الفلسطيني المقيم بأمريكا الذي التقى به البكري في أثناء إلقائه محاضرته بالكويت ليروى قصة جده الذي هجر من بيته الجميل، وبعد التواصل مع البكري أرسل له صورة منزل جده والمبنى الذي بُني عام 1890 تقريبًا في حي “البقعة الفوقا” بالقدس المحتلة، إلى أن جاء الدقاق مع أولاده وهنا الأثر الأكبر بل صدمة وذهول هي صورة طبق الأصل، فابتسم الأشقاء الثلاث قائلين: “نيال سيدي اللي كان عايش بهالبيت، والله في بيوت بالقدس أحلى من أمريكا”.
هدم القرى أكثر من المدن
يعرج البكري بالفرق بين هدم المدن وهدم القرى المهجرة، قائلًا: “هناك بيوت فائقة الجمال بقيت كما هي خاصة بالمدن الكبيرة وسكن بها عائلات يهودية وتم تهجير أكثر من 500 قرية عام 1948 وتم هدمها وبقي جزء من آثارها، حيث أنشأت العائلات اليهودية المستوطنات على أنقاضها وهذا يعتمد على متى تم تهجير القرية ومتى تم حكمها نهاية الدولة العثمانية أم بداية الانتداب، وهل في العشرينيات أم الثلاثينيات أم الأربعينيات وفقًا لطرازها المعماري ونوع الحجر المستخدم، وبشكلٍ عام مباني فلسطين في تلك الحقبة اتسمت بالرقي والبذخ، وحتى بالقرى هناك مبانٍ شيدت بعناية، ومع الأسف بعض المدن الكبيرة أُبيدت مثل يافا المنشية، باللد، بصفد حارة الأكراد دمرها العدو الإسرائيلي ليقطع الأمل عن أهالي القرى المهجرة داخل فلسطين الذين بقيوا قريبين من مناطق 48 وحتى لا يأملوا بالعودة والرجوع إليها”.
كثيرة هي القصص لجلب الفلسطينيين المهجرين إلى قراهم، ولكن البكري يقول إنه عندما يدق أبواب بيوت العائلات الفلسطينية التي يسكنها يهود، يقولون له “نحن شعب الله المختار وجئنا والحكومة أعطتنا البيت”، لكن “أنا بحط عند عينهم توثيقي للصورة الأصل التي تكون قبل مجيئهم، بالعربي “بسم بدنهم” فالصورة هي التي تنطق بالحق المسلوب”، مؤكدًا أن تجربة اصطحاب الفلسطينيين إلى مدنهم وبيوتهم للمرة الأولى هي صعبة وأحيانًا مبكية للجميع.
وعلى ضوء هذه المبادرة سلطت المخرجة الفلسطينية سوسن قاعود في فيلمها الوثائقي الجديد بعنوان “حارس الذاكرة” الذي عرض لأول مرة في قاعة المسرح البلدي في رام الله في الـ7 من ديسمبر 2019، من إنتاج الجزيرة الوثائقية، الضوء على المبادرة وبحضور أبطال الفيلم، ويظهر البكري أثناء اصطحابه لبعض اللاجئين الفلسطينيين في رحلة إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عنوة.
لا شكّ، أن هذه المبادرة وما يماثلها من مبادرات شبابية وأهلية تسهم في تشكيل حالة من الوعي حيال الذاكرة الفلسطينية ويحميها من النسيان، ويعيد ربط المُهجّرين والمغتربين بأرضهم وتاريخيهم وموطنهم الأصلي، ما يعزز بدوره من مكانة القضية في وعي الأجيال ورسوخها في ذاكرتهم ويعطيها الدافعية والمعنى لتحريكم من أجل نصرتها.