أمام الغلاء المعيشي الطاحن والوضع الاقتصادي المتردي وقلة الوقود والمواد الغذائية والزيادة غير المسبوقة في أسعار السلع، يومًا تلو الآخر، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، لم يجد السودانيون بدًا للخروج من هذا المأزق إلا الخيار الفردي بالمقاطعة لكل السلع غالية الثمن.
خيار ما كان له أن يكون في حال وجود حكومة قادرة على التعاطي مع ملف الأسعار، ولديها من الموارد والإمكانات ما يؤهلها لتوفير السيولة الكافية لتعويض الفارق في الزيادة، لكن في ظل الوضعية الحاليّة بمعطياتها الراهنة تقلصت الخيارات أمام المواطن بصورة حصرته في خيار واحد فقط.. ترك الغالي وشراء الرخيص.
ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها السودانيون لهذا الخيار المر، غير أن الأمور لم تصل بعد لمستوى الطموحات المعقودة على نظام ما بعد ثورة ديسمبر في ظل ما يعانيه من تخبط على أكثر من مسار، تحديات عدة أمام السودانيين خلال الفترة المقبلة، وسط مخاوف من اضطرار اللجوء للحل الأصعب على الشارع وهو الاستدانة من الخارج لما قد يترتب عليها من تداعيات تضع استقلالية القرار الوطني على المحك، وهو ما يسعى السودان، حكومة وشعب، لتجنبه قدر الإمكان، لحين عبور تلك المرحلة الانتقالية الحرجة.
“رخصوها بالترك”
في يوليو 2012 أطلقت بعض الجمعيات السودانية حملة لمقاطعة السلع الاستهلاكية في محاولة لمناهضة غلاء الأسعار التي وصلت إلى مستويات فاقت قدرات المواطن متوسط الدخل، لا سيما اللحوم التي بلغ سعرها آنذاك 60 جنيهًا للكيلو مقارنة بـ16 جنيهًا للفراخ البيضاء.
وفي 2016 تبنت جمعية حماية المستهلك السودانية حملة أخرى وكانت من نصيب اللحوم الحمراء والبيضاء كذلك، واستمرت أسبوعًا واحدًا لوضع حد لانفلات الأسعار واستغلال التجار، وكان شعارها “مقاطعون لشراء اللحوم حتى يشتريها الفقير قبل الغني”، وبالفعل حققت الحملتان نجاحات وإن لم يكن على المستوى المأمول.
وكان من نتائجها تحريك طفيف في الأسعار، لا سيما اللحوم، التي انخفضت تلقائيًا من 220 ـ 200 جنيه للضأن، و140 جنيهًا للعجالي، بينما قفزت الفراخ من 100 إلى 105 جنيهات للكيلوغرام، لتعاود الارتفاع مرة أُخرى بعد انتهاء الحملات إلى 280 ـ 300 جنيه للضأن والعجالي ما بين 180 ـ 200 جنيه والفراخ 110 جنيهات للكيلوغرام.
التجربة المغربية في هذا المضمار خير شاهد على قوة المقاطعة، حيث أجبرت الشركات العاملة في منتجات الألبان والبيض إلى مراجعة أسعارها مرة أخرى بعدما تسببت المقاطعة في توقف مبيعاتها بشكل كبدها خسائر كبيرة
حملات المقاطعة الوطنية التي جاءت تحت شعار “رخصوها بالترك” لم تقف عند حاجز السلع غالية الثمن داخل البلاد وفقط، بل تجاوزت الحدود لتطال سلعًا من بعض الدول الأجنبية، منها على سبيل المثال مقاطعة السلع المصرية، إثر الحظر الذي فرضته الحكومة السودانية عليها في سبتمبر 2016.
الحملة وقتها طالبت بمقاطعة السلع الزراعية (الخضر والفاكهة) ومنتجاتها والأسماك المعلبة ومحضرات السلع الزراعية والمصنعة والصلصة والمربيات والكاتشب ومنتجاتها عبر الموانئ والمعابر الحدودية، والموجودة داخل الحظائر الجمركية الواردة من مصر، بفعل مخاوف صحية من تسببها في الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي لريها بمياه الصرف الصحي.
يذكر أن للسودانيين تاريخ طويل من المقاطعة العالمية كذلك، إذ قاطعوا السلع الدنماركية الواردة عبر الإمارات ومصر، إثر نشر إحدى الصحف الدنماركية عام 2006 رسومًا كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد، وأدت إعادة نشرها عام 2008 إلى إثارة أعمال شغب راح ضحيتها أكثر من 200 شخص في جميع أنحاء العالم.
ولم تتوقف المقاطعة لتلك السلع إلى حين صدور قرار حكومي بإلغاء الحظر وإعلان البنك المركزي على موقعه الإلكتروني صدور أوامر للمصارف برفعه، هذا فيما لا تزال المقاطعة السودانية لـ”إسرائيل” مستمرة للسلع والخدمات والعلاقات الاقتصادية بشكل عام، وإن كانت هناك بعض الأصوات التي تطالب بإعادة النظر في هذا الموقف.
نجاحات.. ولكن
لا شك أن سلاح المقاطعة لبعض السلع بصفة عامة سلاح قوي إذا أُحسن استخدامه وتوظيفه بالشكل السليم، هكذا أشار مصطفى ثابت، الباحث الاقتصادي المصري الذي كشف أن العديد من التجارب الإقليمية كشفت بشكل كبير حجم هذا السلاح حال توافر العناصر الضرورية له.
وأضاف ثابت لـ”نون بوست” أن التجربة المغربية في هذا المضمار خير شاهد على قوة المقاطعة، حيث أجبرت الشركات العاملة في منتجات الألبان والبيض إلى مراجعة أسعارها مرة أخرى بعدما تسببت المقاطعة في توقف مبيعاتها بشكل كبدها خسائر كبيرة، الأمر ذاته تجدد مع الشركات العاملة في مجال الطحين.
وتكررت التجربة ذاتها في الجزائر، حيث تصاعدت حملات مقاطعة شراء العديد من المنتجات، وجاءت هذه الحملات كرد فعل من الشارع على القفزات الكبيرة التي شهدتها الأسعار، خاصة بعد تراجع قيمة الدينار، بالإضافة إلى تجميد الاستيراد طيلة سنة 2018، ما أثّر على كفتي ميزان العرض والطلب، وكانت لحملات المقاطعة نتائج ايجابية جعلت الجزائريين يتبنّون “المقاطعة” كشكل من أشكال الضغط على الحكومة والتجار على السواء.
حملات المقاطعة من الممكن أن يكون لها تأثير محدود حال استمرت وتصدت لجشع التجار، لكنها تحتاج إلى سياسة نفس طويل، وهو ما لا يقدر عليه السودانيون الذين يعانون من أزمات متفاقمة يومًا بعد الآخر
النجاح الذي حققته حملات المقاطعة في الجزائر حوّل هذا الأسلوب إلى سلاح بيد الجزائريين سرعان ما يلوحون به عند تجاوز الأسعار الخطوط الحمراء، كما حدث نهاية السنة الماضية مع “الموز” الذي وصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى زهاء 8 دولارات (ما يعادل 800 دينار جزائري).
الباحث الاقتصادي المصري أشار إلى أن رغم عدم رسمية تلك الحملات، لا يمكن التقليل من تأثيرها وأهميتها، فالمواطن في أي بلد هو الذي يتحكم في السوق، وما دام لديه وعي استهلاكي ناضج يحول دون الرضوخ لأباطرة السوق، فبإمكانه هنا التحكم في قانون العرض والطلب، وتغيير ملامح خريطة السوق بشكل كبير.
خيار فردي
“لم نجد أمامنا إلا هذا الطريق بعدما استقر في يقيننا عدم قدرة الحكومة على فعل أي شيء.. السوق في قبضة التجار والحكومة لا يمكنها السيطرة عليه في الوقت الراهن”، بهذه الكلمات علق المواطن السوداني عثمان عبد القادر، على حملات المقاطعة التي تبنتها بعض الجمعيات الاستهلاكية مؤخرًا في بلاده.
عبد القادر الذي يعمل مدرسًا بإحدى مدارس الخرطوم أشار إلى أن السلع شهدت خلال السنوات القليلة الماضية قفزات جنونية في الأسعار، كاشفًا أن الراتب الذي لا يتجاوز 150 دولارًا لا يكفيه لمنتصف الشهر، خاصة أن لديه ابنتين وزوجة، وسط أوضاع معيشية صعبة على حد قوله.
تبلغ الديون السودانية 54 مليار دولار منها 85% متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15%، ونادي باريس 37% بجانب 36% لأطراف أخرى، و14% للقطاع الخاص
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن المشكلة الأكبر ليست في ارتفاع أسعار السلع قدر ما هي في ندرتها، فمن الصعب مثلًا أن تجد سلعة كالدقيق في بعض الأيام، هذا بجانب الوقود الذي بات الحصول عليها مغامرة يحسد صاحبها عليها، وهو ما فتح الساحة أمام جشع التجار للتلاعب بحياة متوسطي ومحدودي الدخل.
الرأي ذاته ذهبت إليه الكاتبة المتخصصة في الشأن السوداني أميرة ناصر التي أشارت إلى أن فشل حكومة حمدوك في التعامل مع ملف الأسعار في ظل تهاوي العملة الوطنية “الجنيه” دفع المواطن إلى اللجوء للخيار الفردي لإحداث التوازن في حياته المعيشية التي تعرضت خلال الآونة الأخيرة إلى هزات عنيفة.
ناصر في حديثها لـ”نون بوست” كشفت أن حملات المقاطعة من الممكن أن يكون لها تأثير محدود حال استمرت وتصدت لجشع التجار، لكنها تحتاج إلى سياسة نفس طويل، وهو ما لا يقدر عليه السودانيون الذين يعانون من أزمات متفاقمة يومًا بعد الآخر، لافتة إلى أن نجاح هذا السلاح يتطلب توافر البدائل والحد الأدنى من مقدرات الحياة وهو ما لا يسمح به لدى قطاع كبير من المواطنين.
تحديات اقتصادية
كان الاقتصاد المحرك الأول لاشتعال الثورة السودانية في 19 من ديسمبر الماضي، ومن ثم وضعت الحكومة الانتقالية الحاليّة منذ حلفها لليمين في سبتمبر الماضي الوضع الاقتصادي على قائمة التحديات التي تواجهها، حيث يعاني السودانيون من أحوال معيشية متدنية بصورة غير مسبوقة، فهناك قرابة ٤٦% من السكان يعانون الفقر، كما أن 13% من السكان (5.7 مليون نسمة) يعانون من العجز عن الحصول على احتياجاتهم الغذائية.
الأمر ذاته ينسحب على معدلات البطالة، فقد زادت بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة، ويقدر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ارتفاع البطالة في البلاد من 12% عام 2011 إلى 20% السنوات الأخيرة، بينما سجلت 27% عام 2018، ورغم جهود تقليل هذا الرقم غير أن النتائج لم تظهر بعض على أرض الواقع.
كما تبلغ الديون السودانية 54 مليار دولار منها 85% متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة 15%، ونادي باريس 37% بجانب 36% لأطراف أخرى و14% للقطاع الخاص، وطبقًا لبيانات البنك الدولي – في تقريره المشترك مع وزارة المالية السودانية – فإن المتأخرات المستحقة للمؤسسة الدولية للتنمية بلغت 700 مليون دولار، بينما بلغت المستحقات لصندوق النقد الدولي ملياري دولار، أما نسب الديون الخارجية بلغت 166% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالحد البالغ 36%.