ترجمة وتحرير: نون بوست
تعتبر العقوبات الاقتصادية أداة مهمة للسياسة الخارجية، يعود تاريخها إلى زمن تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية. فقد حظر الرئيس توماس جيفرسون التجارة مع بريطانيا العظمى وفرنسا، مما ترك البحارة الأمريكيين عاطلين عن العمل، بينما فشل في منع الصراع العسكري مع كليهما.
على نحو مماثل، لقد ثبُت أن الحرب الاقتصادية غير فعالة في عصرنا الحالي أيضًا. بالنسبة لإدارة ترامب، تعتبر كوبا وفنزويلا وروسيا وإيران وكوريا الشمالية أهدافًا خاصة بفرض العقوبات، لكن هذه الاستراتيجية فشلت في كل حالة. وقد أدت “الضغوطات القصوى” على كل من إيران التي أصبحت أكثر تهديدا، وكوريا الشمالية التي يبدو أنها تُعِدّ ردًا عسكريًا أكثر صرامة، إلى نتائج عكسية.
لكن الفرق الكبير بين ذلك الوقت والآن هو تحول واشنطن من العقوبات الأساسية إلى العقوبات الثانوية. فالحظر التجاري، مثل ذاك الذي طُبّق لأول مرة على كوبا في سنة 1960، لم يمنع الأميركيين إلا من التعامل مع الدولة المستهدفة. أما اليوم، تحاول واشنطن تجنيد العالم بأسره لخوض حروبها الاقتصادية.
بشّر بهذا التحول قانون هيلمز- بيرتون لسنة 1996، الذي مدد العقوبات الكوبية لتطال الشركات الأجنبية، ما مثّل خطوة مثيرة للجدل في ذلك الوقت. كان السودان هدفًا مبكرًا آخر للعقوبات الثانوية، التي منعت أي شخص يستخدم النظام المالي الأمريكي من التعامل مع الخرطوم. ومن جهتهم، تذمر الأوروبيون وغيرهم من غطرسة واشنطن، لكنهم لم يكونوا مستعدين لمواجهة أكبر قوة في العالم على مثل هذه الأسواق الصغيرة.
مع ذلك، اكتست العقوبات أهمية أكبر بكثير في واشنطن، إذ يتمثل أحد أشكالها في مزيج من المبادرات التشريعية والتنفيذية المطبقة على الحكومات المعارضة. وفي الواقع، كانت هناك خمس دول خاضعة للعقوبة عندما تولى جورج دبليو بوش منصبه في عام 2001. وحاليًا، يدرج مكتب مراقبة الأصول الأجنبية عقوبات ضد البلقان وبيلاروسيا وبوروندي وجمهورية إفريقيا الوسطى وكوبا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإيران والعراق ولبنان وليبيا ومالي ونيكاراغوا وكوريا الشمالية والصومال والسودان وجنوب السودان وسوريا وأوكرانيا وروسيا وفنزويلا واليمن وزيمبابوي. هذا إلى جانب برامج خاصة تتمثل في مواجهة أعداء أمريكا، ومكافحة المخدرات، ومكافحة الإرهاب، والحرب الإلكترونية، والتدخل في الانتخابات الأجنبية، وماغنيتسكي العالمي، وماغنيتسكي، والانتشار، وتجارة الماس، والجريمة عبر الوطنية.
معاقبة ما يُعرف في مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بـ “المواطنين المحددة أسماؤهم بصفة خاصة” و”الأشخاص المحظورين” أصبحت عادة منتظمة تمارسها واشنطن
من بين أكثر الأهداف بروزا اليوم نجد كوبا لكونها شيوعية، وفنزويلا لكونها شيوعية مجنونة، وإيران لسعيها ذات مرة للحصول على أسلحة نووية وتحديها للهيمنة الإقليمية السعودية والأمريكية، وروسيا لاستهدافها أوكرانيا والتدخل في الانتخابات الأمريكية لسنة 2016، وسوريا لمعارضتها إسرائيل وقمعها الوحشي للمتمردين المدعومين من الولايات المتحدة، وكوريا الشمالية لتطوير أسلحة نووية. وتجدر الإشارة إلى أنه إذا دخل بلد قائمة واشنطن للمشاغبين، فنادرا ما يغادرها.
في المقابل، تؤثر درجة العقوبة الثانية على الوكالات والشركات والأشخاص الذين أساءوا إلى شخص ما في واشنطن، بارتكابهم أمرا شريرا أو غير ملائم ببساطة غير مزعج. ومن السهل أن يُكره الأفراد الأوغاد. كما تخلق معاقبة بعض الشخصيات أو المؤسسات المشكوك فيها معارضة أقل من معاقبة بلد ما.
لكن بعض هذه الأهداف تهدد أولويات الكونغرس الأمريكي. فعلى سبيل المثال، كجزء من قانون إقرار الدفاع الوطني، أصدر الكونغرس إذنا بفرض عقوبات على الشركات الغربية، وعلى وجه الخصوص المشروع السويسري الهولندي لمد الأنابيب، الخاص بمجموعة ألزاس والمُشارك في مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي نورد ستريم 2. في هذا الصدد، هدد عضوا مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري تيد كروز ورون جونسون مجموعة مجموعة ألزاس بأن “الاستمرار في أداء العمل – حتى بعد يوم واحد من توقيع الرئيس على تشريع العقوبات – من شأنه أن يُعرّض الشركة لعقوبات قانونية واقتصادية ساحقة”.
إن معاقبة ما يُعرف في مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بـ “المواطنين المحددة أسماؤهم بصفة خاصة” و”الأشخاص المحظورين” أصبحت عادة منتظمة تمارسها واشنطن. وقد بلغ عدد هؤلاء الأشخاص ثمانية آلاف في السنة الماضية. وقد لاحظت مجلة “الإيكونومست” أن إدارة ترامب وحدها أضافت 3100 اسمًا خلال السنوات الثلاث الأولى، أي أنها أضافت عددا يقارب العدد الذي ضمّنه جورج دبليو بوش خلال ثماني سنوات. أما اليوم، تتضمن قائمة المستهدفين 1358 صفحة.
حتى الحلفاء والأصدقاء، وبالأخص أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية والهند، معرضون للتهديد باستخدام الحرب الاقتصادية ما لم يقبلوا بأولويات واشنطن
لكن هذه العملية خرجت عن السيطرة، إذ يبدو أن الاستجابة الأولية لصناع السياسة فيما يتعلق بشخص ما أو منظمة بعينها أو حكومة تقوم بارتكاب أمر لا يوافقون عليه، أصبحت تتمثل في فرض العقوبات. لسوء الحظ، إن الاعتماد على الحرب الاقتصادية والعقوبات تعتبر وفقا للتقاليد المتعارف عليها تصرفا حربيا، قد أدى إلى تضخيم الطموحات الجيوسياسية للمسؤولين الأمريكيين إلى حد كبير.
حاليا يتدخل كبار المسؤولين الأمريكيين في أصغر التفاصيل الجدلية الأجنبية. وحتى الحلفاء والأصدقاء، وبالأخص أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية والهند، معرضون للتهديد باستخدام الحرب الاقتصادية ما لم يقبلوا بأولويات واشنطن التي تخدم مصالحها الذاتية وأوهامها الذهنية.
ينطبق الأمر نفسه على العقوبات المطبقة على الأفراد والشركات والكيانات الأخرى. وغالبًا ما يتعرض المستهدفون للأذى، ويستحق معظمهم ذلك لكنهم عادة ما يحافظون على نفس السلوك أو يحل أشخاص آخرون محلهم. من هو الديكتاتور المخلوع، وما هي السياسة التي وقع تغييرها، وما هو التهديد الذي وقعت مواجهته، وما هو الخطأ الذي وقع تصحيحه كنتيجة للحرب الاقتصادية؟ في الواقع، هناك القليل من الأدلة على أن العقوبات الأمريكية تحقق الكثير من أي شيء بخلاف تشجيع المثالية الأخلاقية الزائفة.
وكما ذكرت مجلة ذي إيكونوميست، “إذا لم يغيروا السلوك، من الممكن أن تصبح العقوبات شكلًا من أشكال العقوبة باهظة الثمن والتعسفية إلى حد ما بدلا من كونها أداة للإكراه”. تمثل هذه العقوبات أداة قد تنقلب في يوم من الأيام ضد الأمريكيين. وعلى عكس الافتراضات الواضحة في واشنطن، ليس من السهل أن تتحلى البلدان بصفات الولايات المتحدة، حيث أن النزعة القومية الأولية تنتصر عادة. يجب على الأميركيين التفكير في كيفية ردهم للفعل إذا عُكس الوضع. لا يريد أحد الامتثال لإملاءات أجنبية لا تحظى بشعبية.
كثيرا ما تؤدي الحرب الاقتصادية إلى تفاقم الصراعات الأساسية. فبدلاً من التفاوض مع واشنطن من موقف ضعف، هددت إيران حركة النقل البحري في الخليج العربي وأغلقت صادرات النفط السعودية وسلطت المنتسبين إليها والقوات غير النظامية على القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها. من جهة أخرى، تحدّت روسيا أولويات متعددة لسياسة واشنطن، وسلمت كوبا السلطة إلى جيل ما بعد الثورة ووسعت نطاق أعمالها التجارية الخاصة بما أن سياسات إدارة ترامب أعاقت النمو وقوضت جهود رواد الأعمال.
لكن التوسع اللانهائي للعقوبات من شأنه أن يؤثر بدوره على الشركات الأمريكية والشركات الأجنبية العاملة في الولايات المتحدة. ويعد اتباع القواعد مكلفا، وانتهاك قاعدة واحدة حتى عن غير قصد سيكون مكلفا أكثر من ذلك. في هذا الصدد، تمتنع شركات شاري بشكل استباقي عن تنفيذ الأعمال القانونية في عملية تسمى “إلغاء المخاطرة”. كما أن حركة الأعمال الإنسانية تعاني أيضا. من يريد المخاطرة بخطأ باهظ في التعامل مع المعاملات ذات القيمة المنخفضة نسبيًا؟ قد لا تزعج هذه الآثار صانعي السياسة الأميركيين المتعجرفين، ولكن من المؤكد أنها تثقل كاهلنا.
محاولات الولايات المتحدة المتعجرفة لتنظيم الكرة الأرضية قد وحدت معظم العالم ضدها
لعل الأهم من ذلك أن اعتماد واشنطن المفرط على العقوبات الثانوية مسؤول عن بناء مقاومة للهيمنة المالية الأمريكية. من جهته، حذر وزير المالية الأمريكي جاكوب ليو في سنة 2016 من أنه “كلما أكدنا على التزام استخدام الدولار ونظامنا المالي بالسياسة الخارجية الأمريكية، زادت مخاطر التوجه إلى العملات الأخرى والأنظمة المالية الأخرى على المدى المتوسط”.
في الواقع، لن يكون التخلي عن الدولار العظيم سهلًا. مع ذلك، إن محاولات الولايات المتحدة المتعجرفة لتنظيم الكرة الأرضية قد وحدت معظم العالم ضدها. وحسب المحامي الشهير بروس زاجاريس، تعمل واشنطن عن غير قصد على حشد الدول والمنظمات الدولية بما في ذلك الحلفاء الأمريكيين لتطوير طرق للتحايل على العقوبات الأمريكية.
في هذا السياق، عطّلت السفن التجارية وناقلات النفط أجهزة الإرسال والاستقبال، ونقلت السفن بضائعها في البحر. كما رتبت الشركات صفقات نقد ومقايضة، وساعدت القوى الكبرى مثل الصين على الانتهاك والتحريض وتحدت واشنطن بتحطيم علاقات اقتصادية ثنائية أكبر بكثير. وأقر الاتحاد الأوروبي “حظر التشريعات” للسماح باسترداد الأضرار الناجمة عن العقوبات الأمريكية والحد من امتثال الأوروبيين لهذه القواعد. وطور الاتحاد الأوروبي أيضًا مقايضة تُعرف باسم “آلية دعم التبادل التجاري”، وذلك للسماح بالتجارة مع إيران دون الاعتماد على مؤسسة مالية أمريكية.
من جهة أخرى، ركزت روسيا على تقليص حجم المدفوعات الدولية وعملت مع الصين لتسوية التجارة الثنائية باستخدام الروبل الروسي والرنمينبي الصيني. وزادت البنوك المركزية الأجنبية مشترياتها من الذهب. وفي القمة الإسلامية الأخيرة، اقترحت ماليزيا استخدام الذهب والمقايضة في التجارة لإحباط العقوبات المستقبلية، بينما بيع الذهب في فنزويلا باليورو.
حتى الآن، لا تهدد هذه التدابير الدور المالي السائد لأمريكا ولكنها تنبئ بالتغييرات المحتملة في المستقبل. قد يتسبب هجوم واشنطن على خطط ألمانيا لاستيراد الغاز الطبيعي من روسيا في شيء أكبر من ذلك بكثير. ولا تعد برلين مجرد ضحية عرضية لسياسة الولايات المتحدة، بل هدفا لهذه السياسات. من جهته، عبر وزير الخارجية هايكو ماس عن قلقه قائلا: “يجب أن تُقرر سياسة الطاقة الأوروبية في أوروبا، وليس في الولايات المتحدة”. للأسف، يفكر الكونغرس بشكل مختلف.
عندما سُئلت سفيرة الأمم المتحدة مادلين أولبرايت عن وفاة نصف مليون طفل عراقي بسبب العقوبات الأمريكية، كان ردها صادما: “نعتقد أن الثمن يستحق ذلك”.
مع ذلك، يعد الأوروبيون أقل استعدادًا لقبول هذا النوع من السخط، نظرا لأن واشنطن تعاقب حتى الحلفاء المقربين دون أي هدف واضح سوى إظهار قوتها. في حالة نورد ستريم 2، من المحتمل أن تكمل شركة غازبروم المشروع إذا لزم الأمر. حيال هذا الشأن، قال نائب وزير الخارجية الألماني نيلز أنين إن “أوروبا تحتاج إلى أدوات جديدة لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها من العقوبات الفظيعة التي تتجاوز الحدود الإقليمية”.
لا يمكن إنكار الدور الذي تلعبه العقوبات التجارية في السياسة الخارجية، لكن الحرب الاقتصادية هي في نهاية المطاف حرب. يمكن أن يؤدي ذلك إلى نشوب صراعات حقيقية – فكر في استجابة الإمبراطورية اليابانية لقرار إدارة روزفلت بقطع صادرات النفط. يمكن أن تقتل الحرب الاقتصادية الأبرياء.
عندما سُئلت سفيرة الأمم المتحدة مادلين أولبرايت عن وفاة نصف مليون طفل عراقي بسبب العقوبات الأمريكية، كان ردها صادما: “نعتقد أن الثمن يستحق ذلك”. ومع ذلك، فإن الحرب الاقتصادية تفشل في معظم الأوقات، خاصة إذا كانت الجهود أحادية الجانب لقوة واحدة تطبق ضد بقية العالم. يحتاج صانعو السياسة في واشنطن إلى إعادة تعلم معنى التواضع، لأن سياسات العقوبات المتكبرة وغير الضرورية تؤذي الأميركيين وغيرهم. لسوء الحظ، فإن رد الفعل السلبي الناتج سوف يزيد حدة فقط.
المصدر: أمريكان كونسيرفاتيف