منذ أكثر من 30 سنة، كان المغاربة مع موعد انطلاق البث الأول للقناة الثانية “دوزيم” التي كانت في الأصل فرنسية وفيما بعد ابتاعتها الدولة المغربية، فكانت الخطيئة الكبرى أن تسير قناة دون رؤية إستراتيجية، بعيدة عن الاهتمام بقضايا الشعب المغربي، وكنتيجة حتمية نفر المشاهدون منها بحثًا عن بديل، فتلقت ضربة موجعة جعلتها تعيش أزمة مالية حتى وصلت إلى حافة الإفلاس.
فرض ضريبة لإنقاذ القناة
كسبيل لإنقاذ القناة من الإفلاس، ذاع خبر فرض ضريبة على المغاربة بقيمة 55 درهمًا، أي نحو 6 دولارات، تضاف إلى قيمة فواتير الماء والكهرباء، وعبّر المغاربة عن رفضهم عبر هاشتاغ #لن_نعطي_55_درهم_لدوزيم الذي تصدر الترند على موقع فيسبوك، رغم اعتيادهم أداء “ضريبة السمعي البصري” منذ سنوات طويلة، وتساءل عدد من المغاربة عن السبب الذي يدفعهم إلى دفع ضريبة لإنقاذ قناة لا تبث برامج تفيدهم وتهتم بقضاياهم، ولفتوا إلى أن هناك قنوات أجنبية كثيرة تبث برامج هادفة باحترافية وجودة عالية.
رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، قال إنه لا حرج إن ساهم المواطنون من الطبقة الميسورة بهذه القيمة المالية من أجل إنقاذ القناة، مشيرًا إلى أن المرسوم الذي يفرض أداء ضريبة السمعي البصري قديم جدًا، فيما تم إعفاء الأسر الفقيرة والمعوزة من أداء هذه الضريبة منذ سنة 2013، وفقًا لما جاء في تصريح للعثماني عندما كان يتحدث في لقاء لحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه.
ونفى الحسن عبيابة، وزير الثقافة والناطق الرسمي باسم الحكومة، صحة أداء جميع المغاربة لضريبة السمعي البصري، معتبرًا ذلك مغالطة وخبرًا كاذبًا يتم الترويج له، لكن الوزير أكد أن 20% من المغاربة هم الذين يؤدون “ضريبة الشاشة”، وأشار عبيابة إلى أن القناة الثانية شأنها شأن العديد من المؤسسات الكبرى التي تعاني من مشاكل مالية، عندما يتعلق الأمر بالإشهار الذي لا يتم التحكم فيه.
تراجع مداخيل الإشهار
تعتمد القناة الثانية في مواردها المالية على 90% من الإشهار، وقد تراجعت هذه المداخيل بشكل لافت خلال الفترة الأخيرة، والسبب راجع إلى “توزيع الإعلانات على وسائل إعلام مختلفة”، وفقًا لوزير الثقافة، حيث لفت إلى أن الحكومة سوف تتخذ حلولًا عديدة للحفاظ على هذه القناة الوطنية ودعمها حتى تؤدي مهمتها في صيانة الهوية.
وسبق للحكومة أن رفعت الدعم الموجه إلى القناة الثانية من 45 مليون درهم إلى 65 مليون درهم برسم سنتي 2017 و2018، كما تم تحويل مبلغ 15 مليون درهم إلى شركة “صورياد دوزيم” المالكة للقناة من أجل ضمان وفائها بالتزاماتها الاجتماعية.
وتداول عدد من البرلمانيين بمجلس النواب إمكانية تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بشأن وضعية الشركة التي على الرغم من رفع الحكومة للدعم الموجه إليها، تجاوزت خسائر “صورياد دوزيم” 41.2 مليار سنتيم في سنة 2018.
إلغاء المجانية على الجالية
وتفاجأت الجالية المغربية المقيمة بالمهجر بوضع قناة “دوزيم موند” ضمن باقة القنوات المؤدى عنها، ما يعني تخليها عن مبدأ المجانية، ومطالبة زبائنها بالخارج بالأداء عبر الاشتراك مقابل الحصول على خدماتها في باقة “المغرب العربي” بسعر 4.99 يورو شهريًا على جهاز “الفري بوكس” بفرنسا.
بسبب عدم تسديد إدارة قناة “دوزيم” للمستحقات السنوية لاستغلال نطاق البث الفضائي، انقطع بث القناة الثانية على القمر الصناعي “نايل سات”، ما دفع بوزارة الاتصال إلى التدخل بشكل عاجل لإعادة البث من جديد، وتعمقت أزمة القناة أكثر بعد إغلاق مكاتب جهوية بعدما لم تستطع الإدارة أداء واجب الكراء، لتنضاف معضلة إفراغ المقرات إلى أزمة تأخر صرف أجور الصحافيين المتعاقدين، الذين لا يتوصلون بمستحقاتهم إلى غاية منتصف الشهر.
ضربة موجعة “إم بي سي 5”
يرى مراقبون أن القناة الثانية تلقت ضربة موجعة، بعدما انتزعت منها قناة “إم بي سي المغرب” برنامج “ماستر شاف جينيور” أحد أهم وأشهر برنامج لمسابقة الطبخ الذي يحقق نسبة مشاهدة عالية، فيما تمكنت “إم بي سي 5” الموجهة للرأي العام المغربي من طرح باقة أعمال تليفزيونية تفوق جودتها ما تعود عليه المغاربة عبر قنواتهم العمومية.
الباقة السعودية “إم بي سي” قبل إطلاق قناتها الجديدة اشترت حقوق بث أحدث المسلسلات التركية مدبلجة إلى الدارجة المغربية، وهي النقطة الوحيدة التي كانت تنعش مالية دوزيم المفلسة منذ سنوات، مما يعني أن ملايين سوق الإشهار بالمغرب ينتقل إلى المجموعة السعودية.
على الرغم من ذلك يتابع صفحة “دوزيم” على فيسبوك أكثر من 5.3 مليون متابع، واستطاعت القناة استقطاب أكثر من 9 ملايين و200 ألف مشاهد لسهرة رأس السنة الميلادية التي ضمت نجوم كبار كمغني الراب الجزائري الشاب بلال والمغربي الشاب دوزي وسلمى رشيد خريجة برنامج مواهب الغناء عرب أيدول وغيرهم من المغنين الشعبيين ونجوم الفكاهة، ما جعل المشاهدون يستغربون من تنظيم هذه السهرة بتكلفة مالية باهظة في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها القناة.
مشهد خالٍ من الابتكار
يتوافر المشهد السمعي البصري بالمغرب على 12 قناة تليفزيونية تبث على مدار الساعة، منها 3 قنوات خاصة بينما الأغلبية فهي مملوكة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية التي تبث 8 قنوات عدا القناة الثانية، فعلى الرغم من تحرير القطاع السمي البصري سنة 2005 بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري “هاكا”، وتأكيد الحكومة إنهاء احتكار الدولة للقطاع، ما زالت القنوات التابعة للدولة مهيمنة على المشهد.
يقبل المغاربة على مشاهدة القنوات الأجنبية، خصوصًا العربية أكثر من مشاهدتهم القنوات المحلية
القناة الخاصة الأولى “ميدي 1″ أطلقتها السلطات الفرنسية والمغربية 2006 من أجل تعزيز الثقافة الفرنكفونية والمغاربية في منطقة شمال إفريقيا، وهي امتداد لـ”ميدي1 راديو” أي إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية، تأسست سنة 1980 لتكون ثمرة شراكة دبلوماسية بين الملك الحسن الثاني والرئيس السابق الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، وحاليًّا فإن “ميدي1” مملوكة بنسبة 51% لمجموعات خاصة مغربية والباقي ملك للمؤسسة المالية للبث الإذاعي “صوفيراد” وهي شركة عمومية فرنسية.
ويقبل المغاربة على مشاهدة القنوات الأجنبية، خصوصًا العربية أكثر من مشاهدتهم القنوات المحلية، حيث تأتي باقات الجزيرة وإم بي سي على رأس القنوات الأكثر مشاهدةً في المغرب، فضلًا عن انتقالهم نحو مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية على الإنترنت، وكانت النتيجة أن تراجعت حصة القنوات المغربية من عائدات الإعلانات لأنها لا تزال تعاني من ضعف الابتكار والتجديد وغياب رؤية إسترتيجية واضحة وأجندة تصون الهوية الوطنية.