شكل القرار النيابي الذي أصدره مجلس النواب العراقي يوم أمس، والخاص بإخراج القوات الأجنبية من العراق، أحد أبرز التطورات السياسية في مرحلة ما بعد استهداف قائد قوة القدس قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس رفقة العديد من الضباط والعناصر في الحرس الثوري الإيراني، وعلى الرغم من عدم إلزامية ما صدر من مجلس النواب، فإنه يمثل من جانب آخر موقفًا يعكس طبيعة التأثير الذي تمتلكه بعض المليشيات المسلحة القريبة من إيران، التي ضغطت بدورها من أجل عقد هذه الجلسة والتصويت على هذا القرار.
يعكس القرار النيابي الذي صدر مؤخرًا حالة الفوضى القانونية التي يمر بها العراق، فعلى الرغم من صدور قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم 140 و141 في 23 من ديسمبر 2018، الذي قضى بأن مجلس النواب العراقي جهة تشريعية تشرع وتسن القوانين، فإن صلاحياتها تنحصر في إصدار القوانين، وليس إصدار القرارات النيابية، لأنها ليست جهة تنفيذية، التي هي بالأساس من صلاحيات السلطة التنفيذية “الحكومة”، بالإضافة إلى أن القرار الأخير يقترب من كونه توصية سياسية، أكثر من كونه قانونًا تشريعيًا يعبر عن جدية حقيقية لإخراج القوات الأجنبية من العراق.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى العديد من الملاحظات التي يمكن تسجيلها على هذا القرار ومنها:
1. القرار جاء في ظل ظروف سياسية معقدة، خصوصًا أن جلسة مجلس النواب شهدت مقاطعة تامة من الكتل السياسية الكردية ونسبة كبيرة من الكتل السنية، ومن ثم فإن القرار المتخذ جاء في صيغة الأغلبية السياسية، وليس بصيغة توافقية كما دأبت العادة على ذلك، وهو ما يعكس وجود أزمة سياسية حقيقية تمر بها الطبقة السياسية الحاليّة، في الموقف من بقاء أو خروج القوات الأجنبية من العراق، ففي الوقت الذي تنظر فيه قوى سياسية إلى هذا الوجود كمهدد لها ولمكتسباتها السياسية، تنظر قوى سياسية أخرى إلى هذا الوجود كضامن لها ولوجودها في العراق.
بما أن العراق يمر اليوم بمرحلة تصريف الأعمال، فإنه من غير المتوقع الذهاب بعيدًا في تنفيذ هذا القرار الأخير
2. تناول القرار الأخير المتخذ من مجلس النواب وجود القوات الأجنبية التي جاءت تحت عنوان التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في سبتمبر 2014، ولم يتطرق للقوات الأمريكية الموجودة ضمن اتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية عام 2008.
3. وفيما يتعلق بإلزامية القرار الأخير، أشار الخبير القانوني العراقي طارق حرب، إلى أن قرار مجلس النواب ليس له أي أثر قانوني، لأنه لم يقيد تنفيذه بزمن، وترك الأمر للحكومة العراقية، وهو أمر أشبه بمسرحية هزلية من أجل امتصاص الغضب، وأضاف “رئيس البرلمان لم يوضح عدد المصوتين، وعدد من قالوا نعم وعدد من قالوا لا، كما أنه كان يجب إصدار قانون وليس قرار”.
4. ويمكن الإشارة أيضًا إلى أن التعاطي مع ملف القوات الأجنبية في العراق، هو ملف يدخل ضمن صلاحيات ومجال عمل الحكومة العراقية، وبما أن العراق يمر اليوم بمرحلة تصريف الأعمال، فإنه من غير المتوقع الذهاب بعيدًا في تنفيذ هذا القرار الأخير.
5. وعلى الرغم من إشارة القرار الأخير إلى ضرورة وضع جدول زمني عاجل لجدولة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، فإنه عند الرجوع إلى اتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين العراق والولايات المتحدة، نجد بأن هذه الاتفاقية أشارت إلى “تظل هذه الاتفاقية سارية المفعول ما لم يقدّم أي من الطرفين إخطارًا خطيًا للطرف الآخر بنيته على إنهاء العمل بهذه الاتفاقية، ويسري مفعول الإنهاء بعد عام واحد من تاريخ مثل هذا الإخطار”، وبما أن الحكومة الحاليّة في العراق هي حكومة تصريف للأعمال، فإنها ليست مخولة دستوريًا بإخطار الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الأمر، وهو أمر تضطلع به الحكومة القادمة أو الحكومات الأخرى، وقد يكون هذا الأمر السبب الرئيس بإحالة الموضوع إلى مجلس النواب بدلًا من حكومة تصريف الأعمال.
عكست الأعمال الأمريكية الأخيرة في العراق، وتحديدًا منذ يوم 28 من ديسمبر 2019، حالة من الجدية الأمريكية للبقاء في العراق إلى أجل غير مسمى، والأكثر من ذلك جاءت ردود الفعل الأمريكية الرسمية وغير الرسمية على قرار مجلس النواب الأخير متباينة، ففي الوقت الذي حمل فيه الكثير من الديمقراطيين الرئيس دونالد ترامب مسؤولية تصاعد الأحداث الأخيرة في العراق، أشار الجمهوريون في المقابل، وعلى رأسهم السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، أن القرار الأخير ليس له تأثير كبير على السياسة الأمريكية في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، ويمكن القول أيضًا إن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش أعلن تعليق عمليته في العراق، في خطوة تعكس تحركًا خطيرًا لما يمكن أن تنتج عن ذلك من تداعيات أمنية على حالة الاستقرار السياسي في العراق.
ترامب: إذا طالب العراق برحيل القوات الأمريكية ولم يتم ذلك على أساس ودي، سنفرض عليهم عقوبات لم يروا مثلها من قبل مطلقًا
وفي هذا السياق أيضًا جاء موقف الرئيس ترامب ليعبر عن مدى الاهتمام الأمريكي لما صدر عن مجلس النواب العراقي، وأبلغ ترامب الصحفيين من على متن الطائرة الرئاسية الأمريكية “آير فورس وان”، عائدًا إلى واشنطن بعد عطلة استمرت أسبوعين في فلوريدا، من أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك العراق إلا إذا دفعت الحكومة العراقية تكلفة القاعدة الجوية الأمريكية هناك، وقال ترامب: “لدينا قاعدة جوية هناك باهظة التكلفة بشكل استثنائي، لقد احتاجت مليارات الدولارات لبنائها منذ فترة طويلة قبل مجيئي، لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا تكلفتها”، وأوضح أنه إذا طالب العراق برحيل القوات الأمريكية ولم يتم ذلك على أساس ودي، سنفرض عليهم عقوبات لم يروا مثلها من قبل مطلقًا، ستكون عقوبات إيران بجوارها شيء صغير.
لا بد من القول إن القرار النيابي الأخير الذي صدر عن مجلس النواب العراقي، يحمل في طياته العديد من التداعيات الأمنية والسياسية على الواقع العراقي، التي يأتي في مقدمتها المخاطر المحدقة لتنظيم داعش، التي ما زالت ماثلة في تخوم العديد من المدن المحررة من سيطرة التنظيم، كما حصل في هجوم يوم أمس بقضاء الداقوق بمحافظة كركوك، بعد ساعات من تعليق التحالف الدولي لعملياته ضد التنظيم، الذي أسفر عن استشهاد ثلاثة جنود عراقيين وأسر رابع، هذا بالإضافة إلى إمكانية فقدان العراق لعمليات التدريب والاستشارة على الأسلحة والمعدات الحديثة التي يوفرها له التحالف الدولي، فضلاً عن إمكانية خسارته للجهود الاستخبارية وعمليات الاستطلاع الجوي المقدمة له من الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص تعقب نشاطات التنظيم على الحدود العراقية السورية، إلى جانب صعوبة شراء واستيراد الأسلحة والطائرات الحديثة.
يرى مراقبون أن قرار مجلس النواب الأخير جاء بضغط من قوى ومليشيات مسلحة قريبة من إيران
وإلى جانب ما تقدم قد تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية نفوذها الدبلوماسي والدولي لفرض مزيد من العزلة السياسية والدبلوماسية على العراق، وتهديدات الرئيس ترامب الأخيرة قد تعكس هذا التوجه في أحد جوانبه، هذا إلى جانب إمكانية إيقاف التعاملات الاقتصادية والمالية بين العراق والبنوك الدولية، ما يشير إلى حجم التحديات الحقيقية التي بدأت تعتري مستقبل الحالة السياسية في العراق، وما تم الحديث عنه ليس دعمًا لبقاء القوات الأجنبية والأمريكية تحديدًا في العراق، بل بسبب عدم قدرة الطبقة السياسية العراقية على بلورة تجربة سياسية مستقلة بعيدًا عن النفوذ والتأثير الإيراني.
فقد أشار الكثير من المراقبين أن قرار مجلس النواب الأخير جاء بضغط من قوى ومليشيات مسلحة قريبة من إيران، وكرد فعل مباشر على الهجوم الأمريكي الأخير، ومن ثم فهو قرار لا يعكس مصلحة وطنية عراقية، بقدر ما يعكس إرضاءً لإيران وخدمة لإستراتيجيتها في العراق ومنطقة الشرق الأوسط.