استولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على أراضي الفلسطينيين وهجرت قراهم واستوطنت مدنهم، بقوة السلاح والقوانين المجحفة التعسفية، وفي بعض الحالات، لجأت بعض الجمعيات الاستيطانية إلى تزييف وثائق ملكية أراض فلسطينية في الضفة الغربية والقدس وباعتها للمستوطنين، دون أية مساءلة أو محاسبة من جانب السلطات، ما زاد الأمر تعقيدًا وثقلًا على كاهل الفلسطينيين الذين حاولوا بدورهم ردع ومقاومة محاولات التهويد والتهجير الممنهج، بجميع أشكاله.
انضمت الحكومة التركية إلى جانبهم منذ عام 2009 حين قررت أن تكشف النقاب عما تذكره بعض وثائق الأرشيف العثماني حول قضية ممتلكات الفلسطينيين، وعلى الرغم من وجود العديد من الدلائل الفلسطينية والعربية التي تثبت حق الشعب الفلسطيني في هذا الحقل، إلا أن الأرشيف العثماني له وزن مختلف بين أكبر دور الأرشفة العالمية، حيث يضم أكثر من مئة وخمسين مليون وثيقة ومخطوطة.
الأرشيف العثماني كمصدر أصيل ومعتمد
قالت صحيفة “يسرائيل هيوم”، في تقرير بعنوان “بقيادة أردوغان.. تدخل تركيا في “إسرائيل” يتوسع”، بأن تركيا زودت السلطة الفلسطينية بأرشيف عثماني، عام 2018، يثبت ملكية الفلسطينيين للأراضي التي تحتلها “إسرائيل”، ولا سيما في القدس والضفة الغربية، مضيفةً أن الأرشيف الذي تم تسليمه في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، يحتوي على عشرات الآلاف من وثائق التسجيل العقاري في أراضي الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت فلسطين في الأعوام ما بين 1516-1917.
يعد التاريخ الفلسطيني من أهم الملفات التي يضمها الأرشيف العثماني، لأنه يعتمد في معلوماته على تسلسل زمني واضح وتفاصيل دقيقة مثل عدد القرى والأقضية واسماءها ومساحاتها والعائلات التي نشأت فيها، كما تضم الأنشطة السياسية والاقتصادية والإدارية والثقافية التي شهدتها كل منطقة، ما يجعل إطلاق اسم “دولة الورق” على الدولة العثمانية أمرًا منطقيًا، ولكن رغم أهمية المستندات التي تخص القضية الفلسطينية في الأرشيف العثماني، إلا أن الحكومة التركية قبل 10 سنوات تقريبًا التزمت الصمت حيال تلك السجلات وامتنعت عن مشاركتها مع أي طرف، خوفًا من إشعال أزمة دبلوماسية مع “إسرائيل”.
تغير الموقف التركي مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008، فقد سمحت أنقرة للفلسطينيين بالوصول إلى الأرشيف، وعلى إثر ذلك توترت العلاقات التركية الإسرائيلية، ولكن من جهة أخرى، اكتسب الفلسطينيون حينها أداة جديدة لمحاججة المحتل الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي وإيقافه عن التوغل في أراضيه.
وجد محاميان في عام 2009، أي بعد عام واحد فقط من وصول الفلسطينيين للوثائق العثمانية، وثيقة من أرشيف الإمبراطورية، تثبت ملكية عشرات العائلات الفلسطينية لبيوتها في إحدى المناطق المحاذية للبلدة القديمة في القدس، وفي المقابل، تنفي مزاعم منظمة استيطانية تدعى لجنة الطائفة السفاردية بملكيتها لتلك المنازل التي قد كان وصل عددها إلى 30 منزلًا.
هل تسبب هذه الوثائق الصداع لـ “إسرائيل”؟
كشف تقرير صحيفة “يسرائيل هيوم” أن المحامين الفلسطينيين يستخدمون السجلات العثمانية في المعارك القانونية، لإثبات أحقيتهم في الأراضي التي وضعت “إسرائيل” يدها عليها وسرقتها بالقوة، ما يعني أن الأرشيف العثماني أصبح أحد الأسلحة التي يمكن أن يستعين بها الفلسطينيين لدحض الأكاذيب الإسرائيلية والطعن في روايتها التي تلغي استحقاقات الشعب الفلسطيني من أرضه وتطمس هويته في أرض وطنه.
A #postcard from #Nazareth – sent 30th April 1930 https://t.co/Xem143IbaN from the Turkey Collection at https://t.co/fJpzqohPT2 #Palestine #archives #nyuad pic.twitter.com/4hkhj1U4mN
— Akkasah NYUAD (@Akkasah_NYUAD) October 27, 2018
تصاعدت النزاعات القضائية حول العقارات وملكية الأراضي، وتحديدًا في مدينة القدس، منذ أن استلمت السلطة الفلسطينية السجلات العثمانية، الأمر الذي قد يزعزع سوق العقارات في “إسرائيل”، بحسب الصحفي، نداف شرغاي في تقريره -. مثالًا على ذلك، حائط البراق الذي كان يوجد في حي المغاربة، الذي هدمته إسرائيل إبان حرب يونيو/تموز 1967، لإعداد ساحة صلاة لليهود، وعليه صادرت “إسرائيل” الأرض، وليس هناك أي احتمال قانوني لانتزاعها منها، إلا أنه من الناحية الدعائية قد يؤدي تقديم وثائق التسجيل إلى إحراج “إسرائيل”، بحسب شرغاي.
تلعب هذه السجلات العثمانية دورًا رئيسيًا وجوهريًا في ملف حق العودة الذي يكفل لفلسطيني الشتات، المهجرين والمغتربين، استعادة ممتلكاتهم وأراضيهم، ما يفسر بطبيعة الحال الرد الإسرائيلي على خطوة التسليم، إذ طالبت قوى في اليمين المتطرف بمصادرة هذا الأرشيف وعدم التعامل معه. علمًا، بأن الرد الإسرائيلي لم يكن جديدًا أو مستغربًا، ففي العام الماضي، قال المفكر المغربي، أبو زيد المقرئ الإدريسي، إن “إسرائيل” استولت سابقًا على 3 ملايين وثيقة مقدسية من الأرشيف العثماني “لسرقة القدس معرفيًا”. وبعبارة أخرى، تسبب هذه المستندات الإزعاج والقلق لـ “إسرائيل”، ولذلك يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تغييبها عن مشهد الصراع،
قضية إثبات حق الملكية بالوثائق العثمانية لا تعتمد فقط على مبادرات فردية، فقد أسست منظمات تركية غير حكومية منتدى تركي فلسطيني يعمل على مشروع اسمه “الوثائق الفلسطينية في الأرشيف العثمانية”، بهدف إعداد خريطة للمناطق التي احتلتها “إسرائيل” منذ عام 1948، ومساعدة الشعب الفلسطيني في المطالبة بحقوقه أمام المجتمع الدولي، وبواسطة هذه الجهود، توفرت أرضية قانونية ثابتة للفلسطينيين من أجل الدفاع عن حقوقهم في ملكية الأراضي.
يخطط العاملون على مشروع الوثائق الفلسطينية -25 أكاديمي من جامعتي مرمرة ومعمار سنان- على إعداد 50 مجلدًا، فبحسب نائب الرئيس العام لـ “منتدى فلسطين”، الأمين العام لاتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي (İDSB)، علي كورت، إن “مشروع المنتدى يهدف إلى إعداد أساس قانوني وعلمي ودائم، لمواجهة السياسات الاحتلالية التي تنتهجها إسرائيل في فلسطين منذ إنشائها”، مشيرًا إلى “أن إتلاف سجلات ملكية الأراضي، صعّب كثيرًا من إمكانية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، في حين أن الأرشيف العثماني حافل بالوثائق التي تسجل حتى أدق التحركات في فلسطين وجوارها”.
تأثير الوثائق العثمانية على أرض الواقع
قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في عام 2015، هدم أكثر من 40% من قرية سوسيا الفلسطينية التي تقع في الضفة الغربية، ومنع الدخول إلى قرابة 87% من أراضيها، على الرغم من وجود وثيقة عثمانية تعود إلى عام 1881 بملكية هذه الأراضي للفلسطينيين وتوضيحها لحدود الأراضي بدقة واستحقاق ملكيتها لعائلتي جبور ونواجعة، إلا أن ذلك لم يكن سببًا كافيًا في منع القوات الإسرائيلية من إجبار سكان القرية على الرحيل.
بالمحصلة، لا تعترف سلطات الاحتلال بشرعية أو مصداقية الوثائق العثمانية ولذلك لا يوجد أي تأثير ملموس أو حقيقي لهذه المستندات على أرض الواقع، إلا أنه كما قال كودرت بولبول، رئيس وكالة تركية تشرف على عملية الأرشفة، يمكن أن يستخدم الشعب الفلسطيني هذه السجلات لكي يخبر الفلسطينيين “إسرائيل” بأن “هذه الأرض ليست ملكك”، أي أنه بإمكاننا استخدامها كأداة لتعزيز السردية التاريخية الفلسطينية ودعم القضية على الصعيد المعرفي والمعنوي، وربما لاحقًا على المجال الحقوقي أيضًا.