عاشت الجزائر يوم أمس الإثنين تحركًا دبلوماسيًا لافتًا على كل الجبهات بشأن القضية الليبية، وذلك باستقبالها رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إضافة إلى إجراء مكالمة هاتفية بين الرئيس عبد المجيد تبون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فهل سيشكل هذا التحرك تخليًا للبلاد عن موقف النأي بالنفس عن الصراع الدائر في جارتها الشرقية والرمي بكل ثقلها الدبلوماسي لإيجاد حل للأزمة الدائرة هناك؟
قبل ساعات، من عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعًا مغلقًا لدراسة آخر التطورات في ليبيا، عرفت الجزائر إنزالًا وتحركًا دبلوماسيًا لحل الأزمة الليبية لم تعلنه من قبل، الذي قد يدخل ضمن وعود سابقة للرئيس عبد المجيد تبون بأن بلاده لن تبقى خارج ما يتم إقراره بشأن ليبيا.
إدانة قوية
رغم حرصها على الوقوف مسافة واحدة من جميع الأطراف الليبية، فإن التحركات غير القانونية للضابط المتقاعد خليفة حفتر، مثلما تحرص وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية على ذكر اسمه بدل لقب “المشير” أو “الجنرال”، جعلها تصرح لأول مرة علنًا برفضها لأفعاله وللجهة التي تقف وراءه.
وأعلنت الخارجية الجزائرية لأول مرة موقفها الرافض لمواصلة حفتر عبثه في ليبيا، فقد جاء في بيان لها أن الجزائر “تدين بقوة القصف الذي استهدف الكلية العسكرية بالعاصمة الليبية طرابلس وخلف العديد من الضحايا”، واعتبرت الدبلوماسية الجزائرية أن “مثل هذه الأعمال مهما كانت الأطراف الضالعة فيها، من شأنها أن تنمي الأحقاد وتزيد الأزمة عمقًا وتعقيدًا”.
ورغم الاستفزازات السابقة الصادرة من حفتر الذي استقبلته يومًا من أجل دعم الحوار الليبي الليبي، فإن الجزائر كانت دائمًا تتعفف عن الرد على ترهات الضابط المتقاعد بما أنه ظل وما زال مجرد بيدق لجهات أجنبية تريد الإبقاء على حالة عدم الاستقرار في الجزائر، غير أنه يبدو أن الوضع الجديد أصبح لا يتحمل مزيدًا من التهاون مع من يعمل مع أطراف خارجية لزعزعة الأوضاع في شمال إفريقيا وليس في ليبيا فقط.
ولم يتوقف هذا الموقف على وزارة الخارجية فقط، بل جاء من رئاسة الجمهورية عقب استقبال الرئيس عبد المجيد تبون رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج الذي أدى زيارة إلى الجزائر دامت يومًا واحدًا، وجاء بيان الرئاسة الجزائرية أكثر حدةً، فقد وصف ما قامت به مليشيا خليفة حفتر بـ”جريمة حرب“، ما يعني أن معاقبة من قام بها قد تصل حتى الملاحقة الدولية في محكمة لاهاي.
وقال بيان الرئاسة الجزائرية: “وهنا تندد الجزائر بقوة بأعمال العنف، وآخرها تلك المجزرة التي حصدت أرواح حوالي 30 طالبًا في الكلية العسكرية بطرابلس، وهو عمل إجرامي يرقى إلى جريمة حرب. إن الجزائر تعتبر العاصمة الليبية طرابلس خطًا أحمر ترجو أن لا يجتازه أحد”. واعتبار طرابلس خطًا أحمر دعم واضح من الجزائر لحكومة العاصمة الليبية، ورفض صريح لهجمات أمير الحرب خليفة حفتر المتكررة على عاصمة الجارة الشرقية للجزائر.
وإن كان هذا الموقف أكثر صراحةً ووضوحًا لأنه عبر بمنتهى العلانية عن الموقف الجزائري من حفتر، إلا أن المتتبع للتحركات الجزائرية الأخيرة يتبين له أن هذا الموقف استمرار للخطوات المتخذة مؤخرًا، التي انطلقت مع إعادة سفير الجزائر إلى طرابلس بعد 5 سنوات من الغياب، وخاصة بتعيين عبد القادر حجازي ممثلًا دبلوماسيًا لها، وهو الذي يعرف ليبيا جيدًا.
دعم
حرصت الجزائر دائمًا على دعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، وهو ما تأكد أمس باستقبالها للسراج ليكون أول مسؤول أجنبي يستقبله تبون منذ توليه رئاسة البلاد في 21 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن هذا الدعم يبقى مشروطًا دائمًا بضرورة الجنوح نحو الحل السلمي، وأجرى تبون لقاءً انفراديًا مع السراج قبل أن يتوسع لوفدي البلدين ممثلين بالخصوص في وزراء الداخلية والخارجية للبلدين.
وحسب الرئاسة الجزائرية، فإنه “خلال هذه المحادثات التي جرت في ظرف إقليمي حساس نتيجة تدهور الوضع الأمني في ليبيا الشقيقة، تبادل الرئيسان وجهات النظر حول أنجع الوسائل والسبل للتعجيل بإعادة الأمن والسلم والاستقرار إلى ربوع البلد الشقيق”.
وبينت الجزائر أن استقبالها للسراج لن يجعلها تحيد عن “موقفها الثابت حيال الأزمة الليبية الذي يستند أساسًا إلى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير”.
ورغم الاستفزازات التي يقوم بها خليفة حفتر، أكد الرئيس الجزائري ضرورة التمسك بـ”إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة يضمن وحدة ليبيا شعبًا وترابًا وسيادتها الوطنية، بعيدًا عن أي تدخل أجنبي”.
ويبدو أن الجزائر لا تريد هذه المرة أن تلتزم بالمواقف الدبلوماسية المهادنة، فقد دعت المجموعة الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي إلى “تحمل مسؤولياتهم في فرض احترام السلم والأمن في ليبيا، وتناشد الأطراف المتنازعة إنهاء التصعيد، وتدعو الأطراف الخارجية إلى العمل على وقف تغذية هذا التصعيد والكف عن تزويد الأطراف المتقاتلة بالدعم العسكري المادي والبشري، وتطالب أيضًا باحترام الشرعية الدولية لتسهيل استئناف الحوار من أجل الوصول إلى حل سياسي للأزمة”.
وأجرى وزير الخارجية صبري بوقادوم نهاية الأسبوع الماضي أيضًا اتصالات هاتفية مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيراس وكذا مع وزراء خارجية مصر والإمارات وفرنسا، وهي الدول التي تظل طرفًا في الأزمة الليبية والداعم الأساسي لأمير الحرب خليفة حفتر، وذلك في إطار تفضيل الحل السياسي على العسكري الذي تدفع إليه هذه الدول.
ويظهر أن السراج عاد إلى طرابلس وقد حصل على داعم جديد لشرعيته من الجزائر، فقد عبر عن “تقديره وشكره للجزائر على مواقفها الأخوية الثابتة من الأزمة الليبية، وجدد ثقته الكاملة في المجهودات التي تبذلها الجزائر للتخفيف من حدة التصعيد ودعمها للحل السياسي”.
مشاورات مع تركيا
بعد شهرين من زيارته السابقة التي كانت في أكتوبر/تشرين الأول نوفمبر الماضي، عاد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو من جديد إلى الجزائر في ظروف جديدة تتمثل في انتخاب رئيس جديد للبلاد، وكذا نية بلاده في التدخل عسكريًا بليبيا استجابة لطلب حكومة الوفاق الوطني.
وتمحورت الزيارة التي لم يعلن عنها إلا في وقت متأخر من ليل الأحد بالأساس حول آخر التطورات في ليبيا، حسب ما كشفت الخارجية الجزائرية، وتدوم زيارة جاويش أغلو يومين يجري خلالها محادثات مع نظيره الجزائري صبري بوقدوم.
وجاء في بيان الخارجية الجزائرية “ستتمحور المباحثات أساسًا حول التطورات الأخيرة للوضع في ليبيا والوسائل الواجب تنفيذها لتجاوز الأزمة الراهنة، وتفادي النتائج الوخيمة الناجمة عن تفاقم الوضع على الشعب الليبي الشقيق وكذا البلدان المجاورة والفضاء المتوسطي والإفريقي وحتى إلى أبعد من ذلك”.
لا تحبذ الجزائر مطلقًا الحل العسكري في ليبيا، في حين أن تركيا لا ترى مانعًا من اللجوء إليه إذا اقتضى الأمر ذلك
ويظهر أن البلدين اللذين يربطهما تعاون اقتصادي مهم يتمثل في أن الجزائر أول شريك اقتصادي لتركيا في إفريقيا من حيث الاستثمارات يريدان أن لا يعكر الموضوع الليبي هذا التعاون، خاصة مع الحساسية المفرطة للجزائر تجاه التدخل الأجنبي في أي بلاد حتى ولو كان بطلب منها، إضافة إلى عدم تحبيذها لوجود قوات عسكرية أجنبية قرب حدودها.
وتتفق الجزائر وأنقرة من حيث الموقف بشأن ما يجري في ليبيا، فالبلدان يدعمان حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من جميع الدول، إلا أنهما قد يختلفان بشأن الطريقة، إذا لا تحبذ الجزائر مطلقًا الحل العسكري، في حين أن تركيا لا ترى مانعًا من اللجوء إليه إذا اقتضى الأمر ذلك.
ويرجح أن يحاول البلدان إيجاد حل مرض للجميع قبل سفر القوات التركية إلى ليبيا، وذلك للحفاظ على جودة العلاقات الثنائية التي كانت محور محادثات بوقادوم وضيفه بغية “إعطائها دفع أكبر في جميع المجالات”.
تتخوف الجزائر من أن يكون التدخل التركي في ليبيا مطية لدول أخرى تريد تنفيذ أجندة تضر بمصالح الجزائر، وهنا جدد الرئيس تبون خلال لقائه بالسراج حرصه على “النأي بالمنطقة عن التدخلات الأجنبية لما في ذلك من تهديد لمصالح شعوب المنطقة ووحدة دولها ومس بالأمن والسلم في المنطقة وفي العالم”.
تراجع ألماني
بعدما صنفت خلال الأشهر الماضية ضمن قائمة الدول غير المعنية بحضور مؤتمر برلين عن ليبيا، تلقت الجزائر أخيرًا دعوةً رسميةً من ألمانيا لحضور هذا اللقاء الدولي خلال مكالمة هاتفية بين الرئيس تبون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دامت نحو نصف ساعة.
وأفادت الرئاسة الجزائرية أن تبون وميركل تبادلا “تحليلهما حول الوضع في ليبيا وآفاق إحلال السلام في هذا البلد الشقيق”، وأضاف المصدر أن وجهات نظر الطرفين “متطابقة بشأن ضرورة التعجيل بإيجاد حل سياسي للأزمة الليبية والوقف الفوري للنزاع المسلح ووضع حد للتدخلات العسكرية الأجنبية”.
المواقف الدولية الداعمة لتصور الجزائر بشأن الأزمة الليبية أو على الأقل الباحثة عن موافقتها وعدم إزعاجها قد تشكل بداية حقيقية لعودة الجزائر إلى الساحة الدولية
ووجهت ميركل رسميًا دعوة للجزائر لحضور الندوة الدولية عن ليبيا المزمع تنظيمها في برلين، وهي الندوة التي كانت ستُبعد منها الجزائر التي عبرت في أكثر من مناسبة عن استهجانها لهذا القرار الذي كان سيتجاهل حضورها رفقة تونس في موعد دولي قد يحدد مصير جارتهما الشرقية.
الأكيد أن هذه المواقف الدولية الداعمة لتصور الجزائر بشأن الأزمة الليبية أو على الأقل الباحثة عن موافقتها وعدم إزعاجها قد تشكل بداية حقيقية لعودة الجزائر إلى الساحة الدولية على الأقل مؤقتًا بشأن القضايا التي تهمها مباشرة، إلا أنها قد لا تكون رغم ذلك كافية لوقف ما يتم تجهيزه لليبيا التي أصبح مصيرها مربوطًا بتقلبات جهات خارجية يتقلب موقفها بين الفينة والأخرى.
ولعل ما يتبادر إلى عقل الجزائريين عند مشاهدة هذا الحراك الدبلوماسي يتمثل في سؤال واحد هو ما مدى قدرة الرئيس الجديد عبد المجيد تبون في دفع الجهات المحركة لأحجار اللعبة في ليبيا إلى تغليب الحل السلمي على العسكري الذي ستكون آثاره وخيمة على الجزائر بالنظر إلى أنه سيتطلب بقاء الجيش في حالة استنفار على الحدود مع ليبيا، إضافة إلى أن تفضيل لغة النار ستجبر العديد من الليبيين على مغادرة بلادهم والنزوح نحو الدول المجاورة، ما سيمثل تحديًا جديدًا للبلاد في التكفل بالمهاجرين والنازحين من ويلات الحرب.