“على المنحدر كانت طيور النورس تستقبل اثنين من حراس المنارة وتودع اثنين منهما، صناديق خشبية يحملونها وصوت الباخرة التي لفظتهم يودعهم، ولا يعرفون هل ستأتي مرةً ثانية أم لا، ربما بعد أربعة أسابيع من الآن وربما لن تصل أبدًا.”
بهذه الافتتاحية يبدأ المشهد الأول من الفيلم الكندي الأمريكي “المنارة” The Lighthouse، للمخرج روبرت إغرز، بطولة: ويليم دافو وروبرت باتينسون، والسيناريو للأخوين روبرت وماكس إغرز.
الأسابيع الأربع
يُفتتح كتاب “الصوت المنفرد” للكاتب الإيرلندي فرانك أوكونور، بجملةٍ للفيلسوف الفرنسي باسكال، تصلح أن تكون مقدمةً ومدخلًا لهذا الفيلم: “الصمت الأبدي لهذه الآماد اللانهائية يرعبني”.
أربعة أسابيع هي المدة المحددة لبقاء حراس المنارة على تلك الجزيرة النائية، توماس ويك الذي يؤدي دوره ويليم داف، حارس المنارة الأكبر العجوز، لـ13 سنة عمل كبحار في البحر، غادره بعد أن أصيب في رجله وتولى حراسة المنارة، الأقدم في هذا العمل، عجوزٌ ذو ذقنٍ كثيفة وشَعرٍ كذلك، واقعٌ في غرام المنارة، يدعوها بالجميلة.
أما وينسلو الذي يؤدي دوره روبرت باتينسون، حارس المنارة الثاني، شخصٌ طويل الجسم، صامت، لا يتكلم كثيرًا، من نوعية الأشخاص الذين يقرأون كراسة التعليمات حتى لا يخطئون في عملهم، يبدو خجلًا، ولا يريد خلق المتاعب، مهمته تكمن في تنظيف الآنية والساعة وترتيب الساحات، وأي عملٍ آخر إلَّا البقاء جوار المنارة وحراستها في برج الحراسة، هذا هو عمل العجوز توماس ويك الذي حذره أن يقترب من المنارة، فهي له.
طائر البحر
“لا تقتل طائر البحر”
القصة في الفيلم هنا هي الأسطورة، الأساس المبني عليه كل شيء. صورة الفيلم هنا بالأبيض والأسود، ولهذا دلالة كبيرة، فالفيلم يبدو لمن يشاهده كأنه حُلْم والأحلام دائمًا تظهر بالأبيض والأسود، والمزج بين الحُلْم والواقع متكرر في الفيلم.
طائر النورس معروف أنه طائر البحر، وفي حكاية غريبة ربما أسطورية، يعتقد البعض أن قتل طائر البحر يعد طالع نحس، فهو يحتوي على أرواح البحارة الذين ماتوا، لهذا يدعو ويك مساعده وينسلو أن يترك طيور البحر في حالها، ولا يصرخ عليهم ولا يحاول قتلهم.
وينسلو يعتبر أن هذا محض خرافة، فقط أساطير يريد بها ويك أن يجعله خائفًا، فيبث الرعب فيه، لكن العجوز بسنواته الطويلة في البحر وكحارس المنارة، يعلم أن هذا حقيقي.
السينما النفسية
الفيلم مصنف كرعب، لكن يبدو هذا كفخٍ للمشاهد، فالتصنيف الحقيقي له هو السينما النفسية التي تركز على نفس أبطال القصة، على الجنون والوحدة والاكتئاب، وهي الثلاثة عناصر المكتملة في الفيلم وأبطاله، فيبدو أنهما هاربان من شيء ويحاولان بقدر المستطاع إخفاءه.
فالوحدة تنشأ نتيجة انعزال الاثنين في الجزيرة وبقائهما كل تلك المدة يجعلهما مكتئبين، الصورة تعمل أيضًا على إبراز هذا، فملامح توماس ويك مثلًا، جامدة وساخرة أحيانًا، ترى الجنون في عينه، سكير، دائم الإهانة، وكثير الكذب، يحكي مغامرات له لم تحدث من قبل إلَّا في خياله.
أما وينسلو شخص ضعيف، منهزم، صامت، كل ما يريده أن تنقضي الأيام بسرعة، لذا يعمل ولا يتلفظ إلَّا بجملة: “أمرك سيّدي”، ولا يرد إهانة ويك المستمرة له، بنعته “الكلب”.
السيناريو يبرز كل هذا من خلال المبارزة التمثيلية القائمة بين الاثنين أبطال العمل، فالفيلم من نوعية الأفلام التي تدور في مكان واحد، لذا يكون الحوار سيد الموقف، مايسترو اللعبة، وبجانب الحوار، فالصورة والموسيقى لهما دور كبير، أحيانًا لا نجد الاثنين يتحدثان، لكن الصورة والموسيقى تعبر عن صمتهما هذا.
شجيرات خليج هدسون
“هل صحيح ما يقولون؟ الغابات أبعد ما يمكن أن تراه العين؟”
وينسلو كان يعمل في السابق كعامل أخشاب في الغابات، تحديدًا في خليج هدسون، وهو عمل مرهق وحياة صعبة، وقراره بترك عمله والالتحاق بحراسة المنارة، يدعونا للوقوف قليلًا عند شخصية وينسلو الذي يحاول دائمًا أن يمنع انفعاله، لكن ما يفعله توماس ويك يثير جنونه، فبمرور الوقت تتغير شخصيته، وهو ما يحيلنا إلى أن بناء الشخصيات في الفيلم مدروس بعناية شديدة.
في كل مرة يجتمع الاثنان على العشاء، وتبدأ بينهما أحاديث جانبية تكشف لنا عما يخبئه هؤلاء، يردد ويك هذه الجملة كأنه دعاء أو ابتهال: “يجب على الموت الشاحب، بالرعب المطلق، أن يجعل جوف المحيط سريرنا، أيّها الرب الذي تسمع هول العواصف، أنقِذ أرواحنا بلطفك”.
مرّ على بقاء الاثنين أسبوعان في المنارة، أحاديث قليلة، لا يعرفان أسماء بعضهما، لدى كلّ واحدٍ منهما كلام كثير يود قوله، لكن ليس والآخر منتبه له، لذا يلجآن للسكر فيخرجان ما بداخلهما.
الليلة الأخيرة
“الملل يحول الرجال إلى أشرار”
طوال الفيلم هناك حالة ترقب شديدة، أن واحدًا من الاثنين سوف يقتل الآخر، وهو ما يؤكده ويك في حديثٍ بينهما، فالوحدة التي أصيبا بها تعجل بجنونهما، ووينسلو كان الأقرب، فبدأ يرى أشياء غير موجودة، يحلم بكوابيس، سواء في الليل أم النهار، يخاف الاقتراب من طائر النورس، يرى دائمًا أنه يقتل توماس ويك.
“قريبًا سأشيد منزلًا في مكانٍ في الريف بعيدًا عن فضول الآخرين. وهذا كل شيء”.
وينسلو الذي نعلم بمرور الوقت أن هذا ليس اسمه وأنه اسم صديقه الذي قتله، يلعب إغرز المخرج لعبة شيقة، وهو تبادل الأدوار بين الاثنين، فمن الملاحظات الجميلة في الفيلم بعد أن يبدأ الاثنان في التعامل مع بعضهما بشكل ودود، أن وينسلو الذي يدخن التبغ، أصبح مدخنًا للغليون الذي يملكه ويك، كذلك يصبح الأخير مدخنًا للتبغ، أيضًا لا يعرف ويك اسم مساعده إلَّا في الليلة الأخيرة لهما، بانتظار الباخرة، كذلك وينسلو لم يكن يعرف اسم العجوز.
“البحر هو العمل الوحيد الذي يناسبني”
تعري الوحدة أنفسنا، تجعلنا نظهر على حقيقتنا مهما حاولنا إخفاءها، في هذا الفيلم مع تتابع أحداثه، يظهر لنا جليًا حقيقة الاثنين الهاربين من ماضيهما الموحش، لعزلة أكثر وحشة وجنون.
شخصيات روبرت إغرز هنا شخصيات تائهة، تبحث عن طوق نجاة، موضوعة في صراع دائم مع نفسها قبل الغير، وهو صراع أزلي في الحقيقة، صعب أن ينفلت منه الإنسان، شخصيات مضطربة دائمة التغير، سواء على مستوى التمثيل أم التركيبة الدرامية والنفسية التي صنعها الأخوان إغرز.
حين وصل وينسلو لمصباح المنارة زاحفًا على ركبتيه، وفتح له الباب ليرى النور الشديد المنبعث من المصباح، أراد أن يمسكه، لكنه ارتد على ظهره ساقطًا يصرخ، وكانت نهايته.